#عزيز الحاج#
كتبتُ كثيرا عن الزعيم عبد الكريم قاسم، وربما سأظل أكتب عنه كلما هلت ذكرى الثورة، وكلما استمرتْ أزمة الحكم والمجتمع في العراق، فأتطلع، مع الأخيار، إلى زعيم بقامة عبد الكريم- قاصدا صفاته الشخصية والإنسانية وعمقه الوطني الراسخ.
كتبت عنه كثيرا منذ انطلاقنا من السجن بعد الثورة، وكنت أكثر الكتاب اليساريين العراقيين استخداما لعبارة [ابن الشعب البار] في مقالاتي الصحفية، وهو ما عيَّب علي، فيما بعد، في فترة من فترات الصراع الشيوعي الداخلي. ولعل هذا النقد كان من أسباب اندفاعاتي لتوجيه انتقادات لاذعة للزعيم، ومجاراة ما صار رائجا في أدبياتنا اليسارية عن وصف حكومة قاسم ب الديكتاتورية العسكرية الفردية. وعندما شرحوا لنا في أواسط 1962 مجريات محاسبة [الكتلة الرباعية] داخل المكتب السياسي، واتهامها ب[الانحراف اليميني والذيلية لقاسم]، ذهبتُ لحد المطالبة بتنظيم إضراب سياسي سلمي عام لإسقاط حكم الثورة.
إن رحلتي التقييمية لقاسم مرت بأطوار ومراحل، ولم أبلور تقييمي النهائي إلا مع نهاية القرن الماضي، وبعد الاطلاع على معلومات كانت جديدة علي، وعلى دراسات وكتب لمثقفين وباحثين عراقيين متميزين، كنت قد أشرت لهم أكثر من مرة في كتابات سابقة [كالدكاترة عقيل الناصري وعبد الخالق حسين وعلاء الظاهر].
كانت المرة الأولى التي رأيت فيها عبد الكريم قاسم وجها لوجه، حين ذهبت مع المناضل الكردي حبيب محمد كريم، من رموز الحزب الديمقراطي الكردستاني، على رأس وفد مختلط من الأكراد الفيليين المنتمين للحزبين، أي الشيوعي والديمقراطي الكردستاني. وأذكر أنني كنت أنتظر حبيب في مقر والدي بكمرك الرصيف [المدرسة المستنصرية الأثرية]، فإذا بالدم يتدفق من أنفي مدرارا وبلا انقطاع. وفي تلك اللحظات جاء حبيب، واقترح علي أن يلقي هو كلمة الوفد نظرا لوضعي الصحي، فأصررت على إلقائها، وكان إصرارا سخيفا ومن موقع حساسية سياسية. ولحسن الحظ، فقد توقف النزيف ونحن في الطريق لوزارة الدفاع. وكما سبق وأن كتبت، فغرض الوفد كان معالجة موضوع الجنسية وشهادة الجنسية للكورد الفيليين، وهي مشكلة معروفة وسببت للفيلية مآسي وكوارث، كان أفظعها مأساة وكارثة التهجير الجماعي في بداية رئاسة صدام. استمع الزعيم باهتمام للكلمة ولشروحنا وشكوانا، وكان هناك من يدون ملاحظات، وقد وعد خيرا- وخرجنا ونحن على يقين من رغبته في المعالجة. ولكن الأحداث الكبرى راحت تتوالى: من صراعات ساخنة ومن خطط انقلاب وتآمر، فضاعت الفرصة، كما ضاعت فرصة كتابة دستور دائم بسبب رفض المرحوم كامل الجادرجي التجاوب مع رغبة الزعيم.
أما المناسبة الثانية، فكانت ذهابي كمندوب عن جريدة اتحاد الشعب، لسان حال الحزب الشيوعي، لحضور المؤتمر الصحفي للزعيم حول أحداث كركوك الدموية. وكنت مزودا بما قيل لي في مقر الصحيفة من معلومات تتحدث عن مؤامرة طورانية استعمارية على الثورة. كان الزعيم شبه منفعل وهو يهاجم من اعتبرهم معتدين على المواطنين ومعكرين للأمن. وكان يقصد الشيوعيين. وقدم رسوما وخرائط، قائلا إنها من وضعهم. وقد رددت بحماس وانفعال، وقلت إن ما نقل له من معلومات غير صحيح. وهنا- وأنقل عن مذكرات ذي النون أيوب الذي كان حاضرا- نظر الزعيم إليَّ، وقال بتهكم وبنوع من الاستخفاف: روح للمدرسة والعب رياضة- قاصدا حجمي الصغير، وعمري الذي بدا أصغر من الحقيقة.
وذكر الزعيم يقترن عندي بحادث لا أزال نادم عليه، وهو ردي العنيف على الوالد في البيت، عندما انتقد ما اعتبره تسرع واندفاع الشيوعيين وإحراج قاسم. لماذا لا تدعون الرجل يشتغل؟!، فأجبت غاضبا، وتركت الدار ليليتين.
أقول إن تقييمي لتلك الفترة وللزعيم كان يتغير تدريجيا ولكن باستمرار، ويعود جزء من ذلك إلى أن الثورة نفسها كانت إشكالية، وكذلك زعيمها. وفيما يلي ما استقر عليه رأيي، كما ورد في مقال لي في ذكرى الثورة لعام 2009 .
رغم مرور عقود خمسة، فإن ثورة 14 تموز العراقية، وشخصية زعيمها، لا تزالان موضع تجاذب في الآراء والاجتهادات، عراقيا، وعربيا بوجه خاص. وهناك من يذهبون في الشطط وعدم الموضوعية لحد أن ينسبوا للثورة نفسها كل الكوارث، والانتهاكات، ونزعات العنف التي تفجرت بعد اغتيالها! وهؤلاء وآخرون يبالغون في إيجابيات العهد الملكي وكأنه كان مثاليا.
أجل، لم يكن العهد الملكي سيئا في كل فتراته، فقد شاهدنا محطات مضيئة خلاله، كالتعايش الودي داخل المجتمع بين القوميات والطوائف والأديان، والحرص على المصالح الوطنية، وكان فيصل الأول مثالا لذلك، وكتوفر الخدمات والأمن، وكفترات انفتاح للحريات نسبيا، كما مثلا بعيد الحرب العالمية الثانية، وكما في منتصف 1954 إلى منتصف 1955. وكانت هناك صحافة تنتقد رغم المطاردات القانونية، والبرلمان، الذي كانت انتخاباته مزيفة، كانت ترتفع على منابره أصوات وطنية جريئة يكون لها صداها بين المواطنين، كما كان في البرلمانات ممثلون للأقليات المسيحية واليهودية، من دون أن يثير ذلك أية حساسية في المجتمع. هذا كله صحيح، ويمكن الاستناد له للحكم بأن تلك الأوضاع كانت أفضل عشرات المرات من الوضع العراقي الحالي. غير أننا نعرف أنه، بجانب تلك الإيجابيات النسبية، كانت جماهير الفلاحين تئن تحت نهب وسياط كبار الإقطاعيين وملاكي الأرض، وكان الفقر ومعاناة العيش منتشرين، وشركات النفط تنهب دون قيود، والسجون والمعتقلات تطارد القوى والعناصر الوطنية، وكان ثمة تعذيب للشيوعيين وإسقاط للجنسية عن عدد منهم، وكان التمييز المذهبي واضحا في التعيين لكبريات المناصب الأمنية والعسكرية، والقومية الكردية محرومة من حقوق كثيرة وتتعرض للقمع من وقت لآخر، وتهمة التبعية، [أي لإيران]، كانت تلاحق الأكراد الفيلية- وغير ذلك من مثالب لسنا هنا لتعدادها جميعا.
عندما ننظر للوراء، فعلينا تقييم حقبة الثورة بكل تشابكات ظروفها، العراقية منها والإقليمية والدولية، كما يجب النظر للثورة بالرجوع لتاريخ الحركات السياسية في العراق الحديث، وضآلة الممارسات والتقاليد الديمقراطية، وأن نتذكر أن العراق هو الذي شهد أول انقلاب عسكري في العالم العربي، ونقصد انقلاب بكر صدقي في منتصف الثلاثينات، وهو انقلاب حظي بتأييد الشارع والأحزاب اليسارية والحزب الوطني الديمقراطي. كما أن المعارضات السياسية كانت دوما متشنجة وسلبية حتى تجاه إجراءات جيدة تتخذها هذه الحكومة، أو تلك.
اليوم، وبعد العقود التي مرت منذ 14 تموز، فإن أكثرية الآراء العراقية قد استقرت على أن الثورة العسكرية كانت محتمة منذ منتصف الخمسينيات، أي حين فرِضت مراسيم استبدادية، وطوردت الأحزاب والصحف، وأغلقت الجمعيات، وجرت حملة اعتقالات واسعة للوطنيين من مختلف الانتماءات السياسية والفكرية. بمعنى آخر، لقد تم غلق أي منفذ جدي للانتقال سلميا نحو التغيير الثوري، ولتعديل الأوضاع جذريا بخطوات إصلاحية جريئة ومتتابعة، ولو أمكن ذلك، أي تجنب التغيير بالعنف المسلح، لكانت النتائج أفضل جدا للعراق وشعبه، ولكن ذلك الخيار لم يكن عمليا مع الأسف. وقد استقرت الآراء العراقية أيضا، ونقصد التقييم الغالب بين القوى الوطنية العراقية، على أن الزعيم عبد الكريم قاسم كان أكثر من حكموا العراق شعبية ووطنية، وقد زرعت محبته في قلوب العراقيين، وذلك لأن محبة الشعب، ومصلحة الوطن، كانتا مغروستين في عمق أعماقه، وتتشربان خلاياه، ومسالك دمه. وعبد الكريم كان أيضا عفيف اليد وذا نزاهة مطلقة، نفتقد اليوم جزءا صغيرا منها حيث يسود النهب والفساد!
لقد عمل قائد الثورة الكثير لصالح الشعب، وبالأخص للطبقات الفقيرة، فهو الذي شيد لسكان الصرائف القادمين من الريف مدينة في بغداد سماها بمدينة الثورة، وهي نفس المدينة التي سطا مقتدى الصدر على اسمها ليغيره اعتباطا، ويسميها بمدينة الصدر، والأحرى أن تسمى بمدينة عبد الكريم قاسم، وأن يقام له في مدخل المدينة تمثال يذكُر أهالي المدينة والعراق بمدى تعاطف الزعيم الراحل مع الطبقات المسحوقة وخدماته الكبيرة لها. وعبد الكريم هو الذي سن قانون الإصلاح الزراعي رغم أن تطبيقه كان يتشوه بفعل الدوائر الإدارية الموروثة، وهو الذي استرجع من شركات النفط حقوقا أساسية، ولو لم يتعرض لضغوط ومزايدات اليسار والديمقراطيين، لاستطاع التوصل مع شركات النفط لاتفاق تفاهمي أفضل يجنب البلاد الإجراءات التعسفية التي اتخذتها شركات النفط فيما بعد انتقاما، والتي أضرت بمواردنا النفطية والاقتصاد العراقي.
وثورة 14 تموز هي التي شيدت أول جامعة عراقية، وعيَّن قاسم لرئاستها عالما قديرا معترفا به دوليا، هو المرحوم عبد الجبار عبد الله، وكان من الصابئة المندائيين، وإن تعيينه كان دليلا على مدى عدم تحيز الزعيم دينيا، مثلما لم يكن متحيزا مذهبيا أو عرقيا، وكان هذا التسامح الأصيل في مقدمة مزاياه وخصاله وفضائله. إن هذه النظرة العراقية السمحة لكل العراقيين كأبناء وطن واحد، تجمعهم الخيمة المشتركة، تبدو لنا اليوم بكل مآثرها حين نقارن بين ما كان وما هو كائن اليوم، من اضطهاد للأقليات الدينية، وغلبة الطائفية والفئوية، وتراجع الولاء الوطني لصالح الولاءات الفرعية.
وعبد الكريم، وبشهادات الأكثرية، لم يكن دكتاتورا دمويا وإن أقام حكما فرديا، وكان مجردا من النزعة الانتقامية بحيث عفا عن المتآمرين على حياته، ومنهم عبد السلام عارف، وقد كان ميالا لعدم تنفيذ أحكام الإعدام الأخرى لولا ضغط المحيطين به، ومظاهرات الشارع اليساري الهائجة تحت شعار اعدم والشعب والجيش معك. وعبد الكريم هو الذي استوزر أول امرأة، ولم يحدث ذلك من قبل على نطاق العالم العربي كله، وهو الذي أصدر قانونه الجريء للأحوال الشخصية، ذلك القانون الذي مسخته وشوهته، بل اغتالته، الأحزاب الإسلامية التي تحكم العراق اليوم، فاستعاضت عنه بأحكام الشريعة.
لم يكن قاسم زعيما مثاليا، ولا قائدا معصوما، فقد اقترف أخطاء مهمة، كإثارة موضوع الكويت في مسايرة لدعوات الملك غازي وحتى نوري السعيد، ولم يقم بتطهير الجهاز الإداري، وانجر وراء تأليه الجماهير له كزعيم أوحد، مما زاد من اعتداده بقراراته.
وخلافا لإدعاءات القوميين عهد ذاك، فإن الراحل قدم الكثير لنصرة الثورة الجزائرية، وللشعب الفلسطيني، وهو لم يكن، كما ادعوا، عدوا للوحدة العربية، وإنما كان رجلا واقعيا، يرفض الوحدة الاندماجية التي أرادها الناصريون والبعثيون، وهي الدعوة التي فجرت التناحرات الحزبية العنيفة، وأشعلت صراعات أربكت الثورة وزعزعتها، وشكلت ضغوطا هائلة على خطوات قاسم، وأحبطت قراره بصياغة دستور دائم والانتقال لعهد ديمقراطي. إن تلك الصراعات قد تركت آثارها المؤذية على التطور العراقي اللاحق.
لقد أغتيلت الثورة بفعل التآمر الناصري- البعثي – النفطي الغربي – الإيراني، وبسبب الدمار السياسي الذي خلقته الصراعات الحزبية، ورفع الأكراد السلاح ضد الحكومة الوطنية.
غاب الزعيم في أبشع جريمة اغتيال نفذت أمام عدسات التلفزيون على أيدي مجرمي انقلاب 8 آذار 1963، وذبحت الثورة على أيدي التآمر المتعدد الرؤوس. لكن الثورة سقطت أيضا لأن الزعيم كان طيبا بدرجة مبالغ بها كرفعه شعار عفا الله عما سلف، وكعدم تطهيره للجهاز الإداري، وكفردية حكمه واعتداده المفرط بالنفس وتساهله مع واستهانته بقوة العدو الشرس.
إن عبد الكريم قاسم كان، ولا يزال، وبرغم كل شيء، الحاكم الأكثر شعبية في تاريخ العراق الحديث. وفي الظروف العراقية القائمة اليوم، والتي لا تبعث على التفاؤل، يصح أن نكرر عاليا: أين أنت ؟ ليتك معنا!
لقد كانت أياما بحق، ولكن أمس قد راح، وهو عزيز برغم ما كان فيه من منغصات وغيوم داكنات، وأنا لا أزال أعيش أيامه الجميلة، ومهرجاناته السعيدة. أمس قد راح، فمتى سوف يبتسم غد العراق؟؟[1]