إحياء الذات... انتصارٌ على التاريخ
بدرخان شباب
الذاتُ هي جوهرُ الشّخصيّةِ والمحورُ الأساسُ الذي ينتظمُ حوله السلوكُ الإنسانيّ من فعلٍ وردِّ فعلٍ وهي مفهومٌ افتراضيّ لمجموعةِ الأفكارِ والتّصوّراتِ والمشاعرِ والاتّجاهاتِ التي يكوّنها الفردُ عن نفسِه، لتعبّرَ عن خصائصِه الجِسميّة والعقليّة والنفسيّة والاجتماعيّة، وقد يختلفُ مفهومُ الذّاتِ وفقَ اختلافِ الثّقافات فهي في الثقافةِ الأوروبيّة إجمالاً تتمتعُ بالاستقلاليّةِ والحرّيّةِ في إطارِها المجتمعيّ، فيما هي في ثقافةِ شعوب آسيا وأفريقيا جزءٌ تابعٌ للمجموعةِ خاضعٌ لقواعدِها، ووفقاً لهذا الاختلافِ تتباينُ طرقُ بناءِ الذّاتِ عبر مؤسساتِ التّربيّة والرعايةِ المجتمعيّةِ والخطابِ الإعلاميّ ومجموعةِ التغذيةِ الثقافيّةِ المعتمدةِ رسميّاً.
لكنَّ حقيقةَ ما نودُّ الوقوفَ عليه هو جانبُ من سيكولوجيا الشّعوبِ المظلومةِ والمقهورةِ، والتي مُورسَت عليها شتّى أنواعِ العدوانِ، سواء أكانت على مستوى الوجودِ الماديّ والحيّز الجغرافيّ أم الخصوصيّة الثقافيّة أم الأصلِ التاريخيّ، والكُردُ هم نموذجٌ مثاليّ لبحثٍ كهذا.
طمسُ الهويةِ هو قضاءٌ على مفهومِ الذّاتِ
لنقف على مفهومِ الذّاتِ لدى الكرد وكيفيّةِ بنائِها من حيثُ المؤثّراتِ والظروفِ المحيطة والنظرة السلبيّة اللافتة التي تُطالعنا بها الشخصيّة كاستجابةٍ وعامل تأثيرٍ أو ما يمكن أن ندعوه ب «المتغيّر الوسيط»، حيث يكونُ الشعورُ بالدونيّةِ هو أولُ ردودِ الفعلِ استجابةً لأفعالِ الآخرين والسّياساتِ المتّبعةِ بحقّهم، وبسببِ فقدانِ الدّعمِ الثقافيّ والسّياسيّ، وطولِ المدّةِ التي مُورست عليهم فيها ظروفُ القمعِ وسيادةِ الثقافةِ الواحدة، في تجسيدٍ تامٍّ لمفهومِ البوتقةِ والذّوبانِ في ثقافةِ الحاكمِ، كما وأنَّ تأثيرَها سلبيّ لدى الآخر المُختلفِ لكونه مستلبَ الإرادةِ ومُستبعَداً ومُهمَّشاً إلى حدِّ الرفضِ ويتمُّ استغلالُه لدرجةِ الاستعبادِ، ورغمَ الاختلافِ في الإرثِ الثقافيّ فإنّ الذّاتَ إن لم تكن على قطيعةٍ مع موروثها، فقد ابتعدت عنه وتبنّت مفاهيمَ الثقافةِ الحاكمةِ السائدةِ ابتداءً من اللغةِ، وبما أنَّ السلطةَ الحاكمةَ تحتكرُ وتقبضُ على أدواتِ الثقافةِ (الإعلام المرئيّ والمسموع، الصحافة، التعليم، المسرح وكلِّ أنواع الفنون) أيّ مجموعة التغذية الثقافيّة، وهي أيضاً من يحدّدُ المسارَ السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ ويسخّرُ طاقاتِ المجتمعِ فإنَّ التّحلّلَ من القوميّة والتبرؤَ من الانتماءِ إليها أضحى سبيلَ تحصيلِ ضروراتِ الحياةِ الأساسيّةِ والحاجاتِ العلميّةِ والاجتماعيّةِ والعملِ، ما يعني أنَّ التمثّلَ بمفهومِ الذاتِ الذي حدّدته السلطةُ في أطوارِ التذويبِ والاستيعابِ للدلالةِ على الفاعليّة والتطوّرِ بات أمراً أساسيّاً وحاسماً من جهة الجاذبيّة، ومن ضرورياتِ العيشِ، وبعبارةٍ أخرى فإنَّ ما يهمُّ السلطةَ في إطارِ سعيها لطمسِ الهويةِ هو القضاءُ على مفهومِ الذّاتِ عموماً والمُدركِ خصوصاً لدى الشخصيّة الكرديّة، لأنّها تمثّلُ عاملَ الاستقطاب والإشعاعِ من خلال ضربِ ذاكرتِه التي تختزنُ كلّ أنماطِ وعواملِ الشعورِ بالانتماءِ والتّمايزِ وخصائصِ التجذّرِ الثقافيّ والاجتماعيّ والحضاريّ، وبالتالي الإرادة والشّعور بالكرامة، على أن تحلَّ محلَّها إراداتٌ مناقضةٌ جديدةٌ، لجهةِ الاتّجاهاتِ والقِيمِ والأدوارِ واستثمارِ القُدراتِ، وهكذا نجدُ أنَّ مفهومَ الذّاتِ الذي تحدّدُهُ السلطةُ المدعّمةِ بتحصيلِ بعضِ الحقوقِ تُقدّمُ بصورةِ مزايا استثنائيّةٍ كالتّحصيلِ العلميّ، التوظيفِ وفرصِ العملِ والارتباطاتِ والعلاقاتِ المتصلّة بالمصلحة الفرديّة، فتكرّسُ من خلال ذلك الشعورَ الفرديّ والمذهبَ النفعيّ، وتجعلُه متقدماً على الانتماءِ القوميّ وهذا هو جوهرُ عمليةِ التذويبِ، وهو الامتثالُ لبرامجِ السّلطةِ بما يشبهُ الترويضَ ومواءمةَ الذّاتِ خضوعاً من غيرِ إرادة.
على أنَّ الأمرَ لا يقتصرُ على هذا، بل أنّ السلطةَ تستهدفُ مفهومَ «الذاتِ المثاليّة» والتي تشتملُ على التطلّعاتِ والطموحاتِ والأهدافِ، وتضيّقُ عليها وتلاحقُ رموزَها وتجهدُ لإمحاءِ دلالاتِها التفصيليّةِ عبر التغييبِ المبرمجِ والإقصاءِ، وكذلك تقزيمها من خلال الدّعايةِ ودعواتِ التنفيرِ وحملاتِ التّشويهِ والمناهجِ المدرسيّةِ، وتوصيفِها بنزعاتِ الانفصالِ والتمرّدِ والخروجِ عن الإطارِ الوطنيّ، وصولاً لتهمِ العمالةِ والتخوينِ، ولكنها بالمقابلِ تلجأُ إلى تقريبِ بعض الشخصيّاتِ من قبيلِ سياسةِ الاستيعابِ، وعلى أنّها واجهاتٌ لديمقراطيّة شكلانيّة، وهم ممن ارتبطوا عضويّاً ومصيريّاً بالسلطةِ القائمةِ لجهةِ الثقافةِ والقيمِ المتبناة وتلاقي المصالح، وتقدّمُ الدعمَ لهم لخلقِ «المثال» الذي يُفترضُ أنّه يُجسّد قيمَ الوطنيّةِ والديمقراطيّةِ «المزعومة»، ولتكونَ هذه النماذجُ من حيثُ تريدُ أو لا تريدُ أبواقاً في إطارِ البروباغندا وأدواتٍ إعلاميّةً لها وأذرعَها داخلَ المجتمعِ.
السلطاتُ الحاكمةُ عمِلت على تثبيتِ «الانزياحِ» في مفهومِ الذّاتِ
بالمجملِ فإنَّ تجاربَ الفردِ وخبراتِه بالإضافةِ إلى تاريخِه وتراثِه، بما فيها القيمُ الأخلاقيّةُ والنّظمُ الاجتماعيّةُ والعاداتُ السلوكيّةُ، والتي تشكّلُ بمجموعِها مفهومَ «الأصالة» ومعاني العُمقِ والترسّخِ والثّباتِ، هي المصدرُ الأساسُ لتكوينِ مفهومِه عن الذّاتِ، بمعنى أنَّ هذه التّجاربَ والخبراتِ، تختلفُ تبعاً للثقافةِ والجغرافيا من منطقةٍ إلى أخرى والتقسيمات السياسيّة والإداريّة والمناطقيّة وصولاً للقبيلة والعشائريّة والأسريّة، وكلّ ذلك انعكاسٌ لتركيبةِ الأنظمةِ الاجتماعيّةِ والنفسيّةِ السائدةِ أو القواعدِ المسموحِ بها والتي تحدّدُ المعاييرَ وأساليبَ التوافقِ معها، والفردُ ليس له إلا أن يمتصَّ كلَّ ذلك بالتنشئةِ والتّوارثِ والتّربيةِ ومختلفِ أساليب التعليمِ على اعتبارِها ثقافةَ البيئةِ المحيطةِ، والأصالةً هي المعنى الشاملُ للتجذّرِ وبيانِ علاقةِ الأجيالِ الحاليّةِ بما سبقها عبر جسرِ التّوارثِ وقنواتِه المختلفةِ الاجتماعيّةِ والأدبيّةِ حتى الفلكلور والأغاني الشعبيّة والأزياء، وفق هذه التفاصيلِ تتميّز القوميّاتُ عن بعضِها البعضَ وتتجلّى خصوصيّاتها وفرادتُها، بالمقابل فإنَّ الثقافاتِ الوافدةِ، سواء عبر الحوارِ والانفتاحِ الطبيعيّ ضمنَ علاقاتِ التجاورِ الجغرافيّ أو المفروضة قسراً (بالتذويبِ أو الاستيعابِ) أو التماهي معها أمراً واقعاً لا بد منه، سيكون لها تأثيرٌ بالغٌ على هذه التركيبةِ، وبالتالي ستُحدِثُ شرخاً في وحدةِ الشّخصيّةِ وفقاً لدرجةِ التأثيرِ ومدى ثباتِ الخصائصِ الذاتيّةِ، وينعكسُ ذلك على مفهومِ الذّاتِ وصولاً لحالةٍ يمكنُ تسميتها إنجاز «الانزياح» في مفهومِها، وهنا كان يأتي حرصُ السّلطاتِ المتحكّمةِ عبرَ التاريخِ على تثبيتِ الانزياحِ بتحديدِ مفهومِ هذه الذّاتِ بواسطته وبدلالته، واستنساخِ نماذجَ من شخصيّةِ عصمت إينونو. ولتحقيقِ ذلك تمَّ اتباعُ سياساتٍ وأساليبَ متعدّدةٍ بحقِّ الشّخصيّة الكرديّة، لتشويهِ معنى الذات وحرفِها عن أصالتِها وإفقادها الإحساسَ بخصوصيّتها منها:
1 التذويبُ الكاملُ للمُدركِ الكرديّ في الثّقافةِ المُغايرةِ، وما يُؤدّي إليه ذلك من تناقضاتٍ وطمسٍ لبؤرةِ الإحساسِ بالذّاتِ والكينونةِ والاستقلاليّةِ.
2 العجزُ والاستلابُ من خلالِ فرضِ القيودِ الثقافيّةِ والسياسيّةِ والأمنيّة التي تجعلُ الكرديّ محكوماً بإدراكه لجهةِ عدمِ القدرةِ على التحكّمِ فيما حوله أو التأثيرِ فيه وإحداثِ التغييرِ فيه، ما سيؤدّي بالنهاية إلى الإحساسِ الواقعيّ باللا جدوى والعبثيّة وبالتالي الاستسلامُ لما لا يرغب.
3 الكبتُ من خلال عدمِ إتاحة الفرصةِ للتعبيرِ عن المشاعرِ العفويّةِ المختلفة التي تتّصلُ بالانتماءِ والهويّة كالموروثِ الاجتماعيّ والفلكلور، وإضفاءِ توصيفاتٍ متنوعةٍ عليها من قبيلِ التخلّف وعدمِ ملاءمتها لروحِ العصرِ أو بإسباغ دلالاتٍ سياسيّةٍ عليها والمبالغة في ذلك، وكذلك التخويفُ وممارسةُ الإرهابِ الثقافيّ، خشيةَ أن تؤدّي الثقافةُ رسالتَها في بعثِ الرّوحِ القوميّة وخصوصيّات الانتماءِ القوميّ، وتؤدّي إلى وحدة العملِ في هذا المنحى.
4 محاولاتُ تكريسِ الشّعورِ بالدّونيّةِ والنقصِ، رغم أنَّ جزءاً غير يسيرٍ من الغُبنِ الثقافيّ والتاريخيّ قد أُلحق بالذات، ومازال النضال مستمرّاً ضدّه على المستوى الإدراكيّ وقد تمَّ تمريرُ تلك المشاعرِ السلبيّة من خلالِ ما يمكنُ تسميته «سياسة التفريغ الممنهج» لمعاني الأصالةِ المتمثلة بالأبعادِ والجذور التراثيّة والتاريخيّة والإنسانيّة ومن ذلك:
أ التعاطي مع الأصلِ التّاريخيّ للكُردِ على أنّهم ينحدرون من أصولٍ عربيّة أو تركيّة أو فارسيّة، وما ينطوي عليه ذلك من قطعِ صلتهم مع تاريخِهم، وإلغاءُ خصوصيّاتهم، وتشويهُ حقائقِ الانثروبولوجيا، في تنكّرٍ كاملٍ لاستقلاليّةِ الكُردِ في جذورِهم وصفاتِهم الموروثةِ ولغتهم، وصولاً لترسيخِ فكرةِ أنّهم فرعٌ نازلٌ من أصلٍ آخر، ووفقاً لذلك يُفرضُ عليهم سلوكُ الأدنى تجاه الأسمى، أو الفرع تجاه الأصل.
ب إسقاطُ الهويّةِ الكُرديّةِ عن الجغرافيا والتّاريخ كليّاً وتجنّبُ أيّ ذكرٍ لوجودِهم التاريخيّ في المنطقةِ، والتأكيدُ المتواصل على الهُويّة القوميّة للأرضِ وفقَ التقسيم السّياسيّ الحالي، واعتبار الوجود الكُرديّ طارئاً عليها.
ج استهدافُ اللغةِ الكُرديّةِ والنّيلُ من استقلاليّتها، لغةً متكاملةً في مفرداتِها وقواعدِها، والتّرويجُ لفكرةِ أنّها لهجةٌ مشتقّةٌ من لغةٍ أخرى، أو أنّها لهجةٌ ريفيّةٌ قاصرة عن التّعبيرِ، ولا تصلحُ أن تكونَ لغةً معتمدةً في العِلمِ والمعرفة.
د قلبُ الحقائقِ والتشويهُ المتعمّدُ لها ماضياً وحاضراً سواءٌ على مستوى الأحداثِ والسّردِ التاريخيّ أو الرّموزِ أو المنجزاتِ، على أنّ الانتحالَ وسرقةَ التّراثِ ما هي إلا نماذجٌ وأمثلة يمكن الاستدلالُ بها.
ﮪ تقزيمُ الإسهاماتِ الثقافيّةِ والعلميّةِ والتاريخيّةِ والانتقاصُ منها، بهدفِ زعزعةِ الثّقةِ بالنّفسِ وبكلِّ ما يتّصلُ بالقيمِ والمُثلِ العليا، ومن ذلك نزعُ الهويّةِ القوميّةِ الكُرديّةِ عن العلماءِ والقادةِ والشّخصيّات الفكريّة الكرديّة التي ساهمت برفدِ الفِكرِ الإنسانيّ وإغنائه، وتجاهلُ دوِر الكرد في التّاريخ العامِ للمنطقةِ.
و التّركيزُ على الجوانبِ السّلبيّة ونكئ جِراحِ الماضي من جانب، ونشرُ ثقافةِ التّشاؤمِ والخوفِ من المستقبلِ وكلّ ما من شأنه ضربُ الرّوحِ المعنويّة من جانب آخر.
سياساتُ الصّهر أفضت إلى مظاهرَ عامّةٍ دون تحقيقِ أهدافِها النهائيّة
على أنَّ تلك الأساليبَ والسياساتِ تفاوتت في شدّتِها وكثافتِها، وكذلك في نتائجِها وآثارِها، ولكنّها لم تحقّقِ الأهدافَ المرسومةَ لها تماماً بالقضاءِ على مفرداتِ الهويّة، والدّليلُ استمرارُ حالةِ الصّحوةِ والوعي بالذّاتِ والهويّة، رغم اختلافِ الظّروفِ وتفاوتِ مستوى المناعةِ بينَ عمومِ الكُردِ، لكنّ بعضَ تفاصيلِ هذه الهويّة كُتبَ لها الاستمرار عبرَ التّراثِ الشّعبيّ، وبالمجملِ فقد أفضت سياساتُ الصّهرِ ومحاولاتِ الإبادةِ الثّقافيّةِ إلى جملةٍ من المظاهرِ، اتّضحت معالمُها على مستوى الشّخصيّةِ والذّات، ومؤدّاها:
1 الانفصامُ الثقافيّ وذلك بسببِ فقدانِ الدّعمِ الثقافيّ الذي تتلقّاه من الثقافةِ الأصليّةِ باعتبارِها المنبعَ الأساسَ الذي يُغذّي كلِّ أبناءِ القوميّةِ الواحدةِ وتستقي أصولَها من روافدِ التّاريخِ والتّراث وخصوصيّةِ النّظرةِ للجمالِ والإنسانِ والحياةِ بالإجمال، وما يحدث هو عدمُ التّواصلِ مع مصادرِ التّغذيةِ وقطعُ العلاقةِ بالماضي.
2 الخواءُ القيميّ والوجدانيّ، الدائرة اللا شيئيّة، ومن تجلّياتها :
أ الذّهان الصّفريّ: هي حالةُ من التآكلِ القيميّ الذّاتيّ أمام تنامي الحالة العبثيّة واستحواذها على الوعي الفرديّ والجمعيّ، رياضيّاً يمكن تشبيهه بنتيجةِ الجِداء بصفر (العنصرُ الماص)، ويتمظهرُ بالاجترارِ المتمحورِ حول جلدِ الذّاتِ والحطِّ من قيمتها، على نحو اللا وزن، اللا دافع، اللا حافز، اللا هدف، اللا اتجاه، اللا جدوى، اللافاعليّة، اللا استجابة، وبالمجملِ اللا دور وحالةِ بطالةٍ ثنائيّةٍ في الفكرِ والعملِ.
ب الفردانيّة: استفحالُ وسيادةِ الأنا في الوعي، والتّماهي في المنفعيّةِ في مقاربةِ المسائلِ وبذلك يتمُّ تعزيزُ هذه الأنا بنزعاتِ حبِّ الظّهورِ وإثارةِ اهتمامِ الآخرين واستمالتِهم أو التّحكّمِ بهم أو بآرائهم أو الوصايةِ عليها ومصادرةِ حقّ التّعبيرِ، والمعادلةُ الصحيحةُ هي بتنافي المنفعةِ الفردانيّة، وإحياءِ الفردِ باعتبارِه عنصراً مشمولاً في الجماعةِ «نحن»، وهذا يتطلّبُ تقويةَ وشائجِ العلاقةِ بين الفردِ والجماعةِ، فالشعورُ الفرديّ مدماكٌ يهدُّ بنيانَ الوعي والشعورِ بالانتماءِ. فالهويّةُ لا تُعرفُ بذاتِها، وإنّما بنوعيّةِ ومستوى علاقاتِها مع الجماعةِ، وما يمكنُ أن تضيفَه إلى المحيطِ، وما التّاريخُ إلا ذاكرةً مجتمعيّةً يتشاركُ فيها كلُّ أبناءِ المجتمعِ.
ج الاستقالةُ: هي صورةُ الانكفاءِ أو الانسحابِ الطوعيّ على أساسِ التبرؤ وإقالةِ المسؤوليّةِ، والنّظرُ إلى التغييرِ على أنّه المستحيلُ، وأنّه سيرورةُ الزّمنِ وقدرٌ ثابتٌ، وبهذا فالتاريخُ بمجرياته وأحداثه وتشوّهاته يمثّلُ ماضياً لا سبيلَ لتغييره، وكذا هو الحاضرُ، من حيث كونه نتائج ذلك الماضي وإفرازاتِه.
تحوّل الإسلام إلى دولةٍ قوميّة شتّت الرّوافعَ القوميّةَ للشعوبِ الأخرى
في سياقِ الثنائيّةِ التي قامَ عليها الحُكمُ العربيُّ الإسلاميّ (العروبة وهي القوميّة والإسلام كحالةٍ فِكرٍ عابرةٍ للقوميّات)، برز مصطلحُ «الموالي» إشارةً للمسلمين غير العربِ، الذين دخل العربُ بلادَهم «فاتحين»، والمفارقة أنَّ هذا المصطلحَ ميّز المسلمين الأعاجمَ عن العربِ، رغمَ أنَّ الدّينَ ساوى بينهم، وأنَّ الأعاجمَ أسلموا اعتقاداً وإيماناً بفعلٍ اختياريّ منهم، وكانت لهم أيدٍ بيضاءَ في العلمِ والمعرفةِ ولم يدّخروا جهداً لخدمةِ الدّين والدولة والذّودِ عن حياضها، فكانت الدولةُ تتوسّعُ بفضلِ صنائعِهم إلى أنّ أضحت إمبراطورية مترامية الأطراف، فالسلطةُ جنّدت أبناءهم لرفدِ الجيوش وتحقيقِ مزيدٍ من التوسّعِ، وانقلبَ ولاءُ الموالي لسلطةِ العربيّ بدلَ الدّينِ، ورغمَ كلِّ ذلك ظلّوا دائماً موضعَ الشكّ، وحكمتهم الدولة بالقوّة، وكانوا هاجسَها الأكبر خوفاً من تطلَعهم للانفصالِ والخروجِ من العباءةِ العربيّةِ، ويُفسّرُ ذلك بعقدةِ «الاستحكامِ» التي بدأت مع المُلكِ العضوضِ لبني أمية، ولم تنتهِ بسلاطين بني العباس، فالدولةُ العثمانيّةُ سارت على النّهجِ ذاته، ولعلَّ المؤرخين العربَ مازالوا يمتدحون الدّولةَ الأمويّة بسببِ تعريبِها الدّولةَ والمجتمعَ، وأمّا العباسيون فقد انقلبوا على الأعاجمِ بعدما كانوا حاضنة ثورتهم على أبناءِ عمومتهم، وبالتالي فإنَّ تحوّلَ الإسلام إلى دولةٍ قوميّة عربيّة أو عثمانيّة شتّت الروافع القوميّة للشعوبِ الخاضعةِ لسلطانها وحدَّ من تطلّعاتها «الانفلاتيّة»، وتمّ طرحُ شعارِ «أخوةِ المسلمين» لإسكاتها، والاحتكامُ إلى الإسلامِ صوريّاً لسلبِ حجّة تلك الشعوب لإنتاجِ ثورةٍ مضادةٍ على أساسٍ قوميّ، ونُسفتِ الأسسُ النظريّة والمعنويّة لهكذا خطوة، ومورسَ التهويلُ من مغبةِ الخروجِ على الأمرِ وشقِّ عصا الطاعةِ، فيما رَكَنَ العربُ إلى عروبةِ الدّينِ والنصِّ لضمانِ قوميّة الدولةِ وطابقوا بشكلٍ تامٍ بينَ الدّينِ والقوميّة.
عمليّاً وتماشياً مع النظرةِ الاستعلائيّة تمَّ تطبيقُ سياسةِ التمييز «العنصريّ»، فكان العربيّ على رأسِ الترتيب في القيادةِ والإدارةِ، وأضحتِ البلادُ المفتوحةُ باسمِ الإسلامِ إقطاعاتٍ وزّعَها الخليفةُ على من يشاءُ باعتباره مالكَ شؤونِ البلادِ والعِبادِ، ولولا ذلك فما المانع أن يُصبحَ أعجميٌّ خليفةً أو أميراً، ربما يكون هذا الافتراضُ صعباً في ظلِّ واقعِ الصّراعِ على السلطةِ السّياسيّة والتّنازع بين أبناءِ الأسرةِ ذاتها، واستندت نظريةُ الحُكمِ إلى أحاديث نُسبِت للنبي مفادها أنّ الخليفة يجبُ أن يكونَ عربيّاً، وأنَّ العربَ هم السّادةُ والقادةُ باعتبارِهم حملة الرّسالةِ، وهم «خيرَ أمة»، وهنا تمَّ التّجاوزُ والخلطُ بين مفهومي القوميّة والأمة.
وبالجملةِ تماهى «الموالي» مع حالةِ الإسلام السّلطويّ قروناً طويلةً وتشرّبوا الثقافةَ التي كرّستها السلطةُ بصحيحِها وسقيمِها، وما ظاهرةُ الشعوبيّةِ التي ظهرت في العصر العباسي واُصطلح على أنّها نزْعةٌ تُنكِرُ تفضيلَ العربِ على غيرهم، وتحاولُ الحطَّ منهم، إلا نظريّةٌ بائسةٌ تختزلُ تلك النظرةَ الاستعلائيّة، وما يزالُ القومويون العروبيون يتداولونها اليومَ لتكونَ تهمةً جاهزةً للطعنِ بغير العربِ وتقديمِ صورةٍ مشوّهةٍ عنهم، تنطوي على الكثيرِ من الانتقاصِ، ومبرّراً للتغطيةِ على مواطنِ الخللِ والفسادِ، فمروانُ بن محمّد الخليفةُ الأمويّ المعروف ب «رجلِ الحربِ والسّياسة» ورغم عروبتِه الثابتة وحنكتِه، فشِلَ في نيلِ الدّعمِ العائليّ وجمعِ البيتِ الأمويّ حول شخصِه، لأنّه كان مطعوناً في «نقاءِ دمه» ونسبِه لجهةِ أخواله الكُرد، وأمّا أبو مسلم الخُراسانيّ فلم تشفع له كلُّ مآثرِه وخدماتِه الجليلة عند مقتله، فتمنعَ التشهيرَ به وبكرديّتِه، لأنّه أخافَ الخليفةَ أبا جعفرٍ المنصور، إذ استقطبَ حولَه كلَّ الموالي من كُردٍ وعجمٍ وسواهم، ورغم أنّه لم تبدر منه بادرةٌ للانفصالِ أو الثورةِ على الدّولةِ، إلا أنّه اعتبرَ ولايةَ خراسان حقّاً مكتسباً له ليكونَ والياً عليها بين أهلِه، فأُريدَ بتوليته مِصرَ نفيُه وليكونَ القتلُ هو الجزاءُ. وكان صلاحُ الدّين الأيوبيّ مثالاً واضحاً للانصهارِ في ثقافةِ الآخر، المسألةُ ليست حولَ انتصارِه على الصّليبيين في حطين، وإنّما إسقاطَه دولةَ الفاطميين الإسماعيليّةِ في مِصرَ وإتباعَها لحُكمِ الخليفةِ السّنيّ في بغداد، وسار ورثتُه بالمنهجِ نفسِه، لكنّهم كانوا أضعفَ فتنازعوا فيما بينهم، والبوتقةُ جعلتهم بعيدين عن تمثلِ الهويّةِ القوميّةِ.
الترويجُ للأخوةِ الإسلاميّةِ بين الكُردِ والتّرك ذرٌّ للرمادِ في العيون
على أنَّ الحالَ لم يتغير أيامَ الدولة العثمانيّة لا من جهةِ السّلطاتِ التي استمرّت في ممارسة شتّى أساليبِ القمعِ والاضطهادِ والإلغاءِ حتى آخر أيامِها مع اشتدادِ الصّراع السّلطويّ، ولا من جهةِ المجتمعِ بشكلٍ عامٍ فكان يعتبرُ السّلطاتِ على الرغم من كلِّ مساوئها مصدرَ الشّرعيّة، وعليهم الانضواءُ تحتَ سقفها، وكانت أرض كردستان قد شهدت إبانَ الحِقبةِ العثمانيّة كما قبلها بمراحل كثيرةٍ قيامَ إماراتٍ كرديّةٍ هنا وهناك، إلا أنّها جميعاً لم تخرج عن إطارِ الإقطاعيّاتِ تخضعُ لزعاماتٍ أميريّةٍ، تنظرُ إلى المسألةِ من زاويةِ الملكيّةِ الخاصّةِ وتوسيعِ السيطرةِ فقط، وربما في أحسنِ الأحوالِ كان أكثرُ ما يهمُّ الأميرَ أو الزّعيمَ أن يطبعَ صورتَه على العُملةِ التي يسكُّها إن تسنّى له ذلك، ويبني مجداً شخصيّاً ويجعله إرثاً عائليّاً بعيداً عن البُعدِ القوميّ والعملِ على توحيدِ أبناءِ قوميّته، ورغمَ ذلك فإنَّ السّلطاتِ العثمانيّة كثيراً ما كانت تتربّصُ بهم الدّوائرَ لتُوقعَ ببعضِ هؤلاء الأمراء وتقودُهم إلى ساحاتِ الإعدامِ، وعمِلت على التّرويجِ للأخوةِ الإسلاميّةِ بين الكُرد والترك لذرِّ الرمادِ في العيونِ، والحقيقةُ أنَّ الزعاماتِ أنفسَها تنافست وكذلك الأسر المستقلة، وأمّا الحديثُ عن المجتمعِ ودرجةِ وعيه فلم يتعدَ عتبةَ الولاءِ المطلِق لهذا الزعيمُ أو ذاك وبغيابِه يذهبُ الولاءُ تلقائيّاً للدولةِ المتمثلةِ بالسلطنةِ كقوّةٍ مهيمنةٍ على البلادِ وتحكمُ رقابَ الناس، وليبدو السؤالُ عن الذّات وماهيتها ساذجاً وفي غير محلّه.
مع ظهورِ الدّولِ القوميّةِ في المنطقةِ فالدولةُ العثمانيّةُ كانت دولةُ الخلافةِ الدّينيّةِ تمَّ تقسيمُ كردستان وبقيت المسألةُ على حالِها ورغم بعضِ الاستثناءاتِ لحالات متقدّمة على شكلِ ثوراتٍ وانتفاضاتٍ لم يُكتب لها النجاحُ لأنّها لم تستوفِ شروطَ الصّحوةِ ولم تستكملِ العواملَ الذاتيّةِ الموضوعيّةِ لبلورةِ مشروعٍ قوميّ واضحِ المعالمِ، بل أنّها لم تخرج عن إطار ردّات الفعلِ أو الفعلِ المنفردِ المُثقَلِ بعواملِ اليُتمِ، مع التأكيدِ على دورِها في تشكيلِ منصاتِ وعي، وإضافاتِها إلى رصيدِ الثقافةِ التوعويّة العامّة لاحقاً، وإغناءِ التاريخِ والفكرِ السّياسيّ كتجربةٍ نضاليّة.
النهوضُ ورفضُ سياساتِ الإمحاءِ والمقاومةُ هو سلوكٌ طبيعيّ للكُردِ
لا يختلفُ الواقعُ الذي يعيشه كلُّ الكُّردُ عموماً، إذ هم يعيشون في كنفِ دولٍ قوميّة، تضعُ في اعتبارِها إحياءَ قوميّةٍ محدّدةٍ وتنكرُ ما عداها، ولذلك فالنتائج ومستويات الإنكارِ والإلغاءِ والصّهرِ هي ذاتُها، إلا أنَّها تختلفُ بالبوتقةِ وشكلِ الثقافةِ التي يُرادُ إذابتُهم فيها, والهدفُ المشتركُ للسياساتِ الممارسة بحقّهم هو استمرارُ محو الشخصيّةِ الكرديّةِ في مستواها الفرديّ والقوميّ, وقبل ذلك كان الكُرد شركاءَ مع شعوبٍ أخرى في الخضوعِ للاستعمارِ الغربيّ، في مرحلةِ ما بعد الحربِ العالميّة الأولى وسقوطِ الدولةِ العثمانيّةِ، ولكن التحرّرَ والاستقلالَ أفضى لقيامِ دولٍ قوميّةٍ وتقسيمِ المنطقةِ على هذا الأساسِ، ما جعل الكردَ موزّعين على عدّة دولٍ, رغم التّواصلِ الجغرافيّ لمناطقِهم، وليُتركَ نزفُ الجُرحِ لعقودٍ طويلةٍ, ويتمُّ الحديثُ عنهم مجرّدَ «أقليّاتٍ» ديمغرافيّةٍ، وليسوا من أبناءِ المنطقةِ الأصلاءِ وتُقطعُ صِلتهم بالتاريخِ، وتُسلب حقوقُهم الثقافيّةِ والسياسيّة، ويُستبعدون من الشراكةِ الحقيقيّةِ في بناءِ الوطنِ والسلطةِ, وأما قضيتهم فتحولت لملفٍ للتداولِ والضغطِ حسب الظرف والطلبِ, وبشكلٍ عام أصبح إبراز تفاصيل الهويّة محلَّ مساءلة المؤسساتِ الأمنيّةِ والعسكريّةِ, وتُوجّه التّهمةَ لهم بالانفصاليّة وزعزعةِ الأمنِ القوميّ أو الإرهابِ، أو أنّهم طابورٌ خامسٌ في حالِ مطالبتهم بحقوقِهم المشروعةِ.
لم تشهدِ العلاقاتُ الرسميّةِ بين الدولِ التي يعيشُ فيها الكردُ الاستقرار والانسجامِ والتعاونِ وحسنِ الجوارِ، بل تحكمها الخلافات ووصلت حدَّ التنازع والحرب، إلا أنَّ مواقفَها إزاءَ القضية الكرديّة كانت محلَّ التوافق بينها أو سبّبه، وتدرك هذه الدول أنَّ أيّة صيغةٍ لحلٍّ ديمقراطيّ في أيّ منها سيؤدّي بالضرورةِ لانتقالِ التجربةِ إلى الدولةِ المجاورةِ, وبذلك فإنَّ تشاركيّة المخاوف تعني إقراراً غير مباشر منها بوحدةِ القضيةِ والتأثيرِ المتبادلِ فيما بينَ الأجزاءِ التي يُفترض أنّها مفصولةً بحدود رسميّة, وبذلك فإنّ صيغة اللا حلّ بقيت هي المعتمدة وعلى أساسِها تقوم العلاقات بين هذه الدول.
مقابلِ كلّ ذلك كان السلوكُ الطبيعيّ للكرد هو النهوض ورفض سياسات الإمحاء، وتنظيم حالاتِ المقاومةِ التي تفاوتت في مستوياتها حسب البيئة والظروف والمنطلقات الأوليّة، بعضها اتّسم بطابع السلمِيّة والحوار والتفاوض، فيما كان الكفاحُ المُسلّح يُفرض نفسه نتيجة الإفراط في استخدام القوّة ضدهم, ولكنَّ المقاومة في شكلِها الثقافيّ والاجتماعيّ كانت مطلوبةً لمواجهة سياسات التذويب.
تأكيدُ المضمونِ الإنسانيّ للقضيّة الكُرديّة
كان الكردُ على مشارف الاندثار والزوالِ في بداية سبعينيّات القرن الماضي وكانت الظروف بالغةَ التعقيدِ، عندما انطلقت الحركة الآبوجيّة كانت حركةَ انبعاثٍ في مواجهةِ الإبادةِ المتعدّدة الجوانبِ، وكان الهدفُ الأساس ل PKK خلقُ الشعبِ الكرديَّ على أسسٍ معاصرةٍ وإنجاز الحريةِ, لم تكن مجرّد تعبير عن حالة رفضٍ بل حركةَ مقاومةٍ وطنيّة جوهرُها إنسانيّ وقوامُها التضحية والنكران للذات ، استمدّت الحركة عنفوانَها من قوّتها الذاتيّة والصِّفاتِ المميّزة للشخصيّةِ الكرديّةِ المستندةِ إلى قيمٍ مجتمعيّةٍ، والتي تشكّل بطبيعتها ذاتها وهويّتها, ووضعتِ الحركةُ نُصبَ عينيها تحقيقَ أسمى الأهدافِ الاجتماعيّةِ المتمثّلةِ في الحرّيّة وإلغاءِ العبوديّةِ والتبعيّة والتسلّطِ ووضع حدٍّ للانهيارِ الأخلاقيّ، وكذلك مواجهة سياسةِ القمعِ من أجهزةِ الدولةِ الفاشيّة القومويّة التركيّة، واستطاعت الحركةُ أن تخلقَ وعياً يتجاوزُ بها الكردُ حالة الانكفاء والانغلاقِ على القوميّة الكرديّة, وأعادت صياغة الشخصيّة الكرديّة ليكونَ ذلك منطلقاً لتأكيد المضمون الإنسانيّ للقضية الكرديّة، فتنادي بحرّيّةِ كلِّ الشعوبِ وإظهار الحقيقةِ وترسيخِ مبادئِ العدالةِ من منطلقِ المساواةِ بين الشعوبِ.
بدأتِ الحركةُ بعد عقودٍ طويلةٍ من الاستكانةِ والخنوع والقبولِ السلبيّ تحت سطوة الدولة، تكرّست خلالها مفاهيمٌ سلبيّةٌ محبطة، واعتبرتِ المقاومةَ ضرباً من العبثِ والتهورِ، أو لعله المستحيل وشكلاً من الجنونِ, وبذلك فقد كان من المهم جداً أن تكون البداية بالعملِ على مستوى الفكرِ بتنميةِ الوعي والتعبئةِ الفكريّة وتحريرِ العقولِ من الخوفِ ورهبةِ الدولةِ التي فرِضتها أدواتُ الدولةِ الفاشيّةِ على المجتمعِ، ووفق هذا المنحى بدأ القائد عبد الله أوجلان عمليّة صعبة لإعادةِ تشكيل العقلِ والمفاهيم الفكريّة وتأهيل أبناءِ مجتمعِ كان مشرفاً على الانهيارِ والفناءِ، من خلال تحليلٍ صحيحٍ للواقعِ يأخذ العبرةِ من الماضي ويفسّر وقائع الحاضرِ ويتطلّع إلى آفاق رحبة للمستقبلِ, وهكذا تمّ بناءُ منظومةٍ فكريّةٍ تعي ظرفيّة المرحلةِ وتستطيعُ أن تختار الوسيلة الناجعة لإنجاز الأهدافِ ضمنَ إطارٍ تنظيميّ تتمَّ فيه ممارسةُ حالةِ المقاومةِ فعلاً عمليّاً من غير أن تبقى جامدة في إطار النظريّة, وكلُّ ذلك منح الحركة أسبابَ الاستمراريّةِ والصمودِ والقدرة على تجديد ذاتها لتستوعبَ المتغيرات والتحوّلاتِ، فلا ترهبها المصاعبِ فتنكصَ وتتراجعَ أمام التحدّياتِ مهما بلغ حجمها، ورفع درجة الاستعدادِ لديها لتحمّل المسؤوليّة أيّاً كان الثمن وصولاً للتضحية بالنفسِ.
كلُّ أشكالِ المقاومةِ كانت بهدفِ تأكيدِ الهويّة
انطلقتِ الحركةُ وهي مفعمةٌ بروحِ النّضالِ وبإرادةٍ متينةٍ فأطلقت صرخةً مدويّة ردّدت كلُّ أرجاءِ الأناضول وكردستان صداها، وجاءتِ الانطلاقةُ على يدِ مجموعةٍ من الشبابِ شكّلوا نواةَ المقاومةِ الأولى فكانوا الروادَ الأوائلَ لصياغةِ معالمِ الشخصيّةِ المناضلةِ, وكانتِ الظروفُ التي انطلقت فيها مرحلةُ الكفاحِ المُسلّحِ استثنائيّةً بالغةَ التعقيدِ من حيثُ ضعفِ الدّعمِ والتّموينِ وصعوبة الطبيعةِ الجغرافيّةِ لمناطقِ العملِ، واضطلع المناضلُ عكيد بدورٍ رياديّ في التبشيرِ للثورةِ والدعوةِ لها, وجاء تنفيذُ العملياتِ النوعيّةِ ضدَّ قواتِ الجيشِ التركيّ ردّاً حاسماً على الرّوحِ الانهزاميّة التي سادت أوساطَ المجتمعِ, وليصبحَ اسمُ «الكريلا» علامةً فارقةً تميّزُ هذا النضالَ, واليوم يمكن لنا أن نتأكّدَ أنَّ المناضلين الأوائلَ انتهجوا طريقَ الحريّة والحقِّ المشروعِ, وأنَّ شهادتَهم كانت ثمنَ إيقاظِ الضمائرِ وشحذِ النفوسِ وصناعةِ الأملِ، ومنذ ذلك التاريخ لم تخبُ جذوةُ النّضالِ ولا انطفأت شعلةُ الأملِ، فاستمرّت حركةُ المقاومةِ في سبيلِ أهدافِها, تستمدُّ من قادتِها العزمَ والإصرارَ والثّباتَ.
مع بدايةِ الثمانينات كان التّحوّلُ النوعيُّ إذ استطاعتِ الحركةُ توسيعَ آفاقِ نضالِها ونشاطِها في المجتمعِ وتواصلت مع الناسِ أكثر واقتربَت من مختلفِ الشرائحِ، وامتدّت على كاملِ جغرافيا كردستان فقصّرَتِ المسافاتِ مع الفئاتِ المتنوّرةِ والمعبأةِ وطنيّاً, وفي هذه المرحلةِ أصبحتِ السجونُ ساحاتٍ نضاليّةٍ ومقاومة, فالدولةُ الفاشية التركيّةُ بدأت حملات الملاحقةِ واعتقالِ المناضلين, ولم يكن إيقادُ المناضلِ مظلوم دوغان شعلةَ الاحتفالِ بعيد النوروز عام 1982 وهو سجينٌ مجرّد طقوسٍ احتفاليّة فلكلوريّة، بل تأكيدٌ لمعنى الوفاءِ لاستحقاقاتِ الهويّةِ التي نذرَ حياته لأجلها، ما جعله مستحقّاً بجدارةٍ اسمَ كاوا العصرِ, وبذلك فقد تجاوزتِ المقاومةِ معنى مجرّد الرفضِ، وليكون السجنُ ميدانَ تحقيقِ النّصرِ, وهنا محلُّ المفارقةِ بأنَّ ينتصرَ الشهيدُ بقِيمِه وخلودِه ويُغني معنى الحرّيّة ذاتِها, لأنَّ عدالةَ القضيةِ تكفلُ بقلبِ المعادلةِ، فليس الأسيرُ هو من وُضعَ بالقوّةِ بين الجدرانِ, بل من فقدَ الإرادةَ أو من تحكمُهُ نزعاتُ التّطرّفِ والشوفينيّةِ وكان سلوكُه القتلُ والإجرامُ، وبذلك يجترُّ القاتلُ والسجّانُ مرارةَ الخيبةِ والهزيمةِ ويعتريهما الخوف دائماً من الأسيرِ.
تأكيدُ المضمونِ الإنسانيّ للهويّة الكرديّة جاء على نحوٍ واضحٍ من خلالِ فكرةِ الأمّةِ الدّيمقراطيّةِ التي طرحها قائدُ الشّعبِ الكُرديّ عبد الله أوجلان الذي أتمَّ السنة الثامنة عشرة في سجنِ الفاشيّةِ التركيّةِ في جزيرة إيمرالي، ولكنّه حوّله بصمودِه وفكرِه إلى ميدانِ مقاومةٍ وجعله منارةً للفكرِ الحُرِّ.
الفيدراليّةُ الديمقراطيّةُ، انتصارٌ على مستوى الفكر الإنسانيّ الحُرّ
ما نشهدُه منذ ستِ سنواتٍ في روج آفا من حالةِ صمودٍ وبسالةٍ للتصدّي لمختلفِ تنظيماتِ المرتزقةِ وقوى الإرهابِ المدعومةِ إقليميّاً ودولياً هي صورٌ نادرةٌ للمقاومةِ الحقيقيّةِ المشروعةِ, إذ لطالما كانت المقاومةُ هي كلُّ عملٍ في مواجهةِ محاولاتِ الاجتثاث والاستئصال والإبادةِ, التي تصنّف كجرائم بحقِّ الوجودِ الإنسانيّ والحياةِ, ولكن شعلةَ كاوا الرمز بقيت متألقةً ينقلُها الرفاقُ من يدٍ إلى يدٍ في كلِّ السّاحاتِ في كوباني وقُراها وعلى حدودِ عفرين وسري كانيه دون وهنٍ أو ضعفٍ أو يأسٍ, ولتتحد ميادينُ النضال, رغم كلِّ محاولاتِ فصلِ الجغرافيا لأنّها في الفكر والمنهج أعمق وأمتن, ولتكونَ نصيبين وسور وجزير في باكور كردستان صدىً مباشر لثورة روج آفا في مواجهة إرهابِ الدولة المنظّم وسياسات القمع والتّوحّش لحكومة العدالة والتنمية, وما يجري في مناطق الكرد هي مآثر نضاليّةٌ جديدةٌ تُضاف إلى سجلِ التاريخِ، فالمعتدون المجرمون لم يدّخروا أيّ وسيلة لمحاربة الكرد والتضييق على سبل العيش من خلال فرض الحصار وقطعِ الطرقات ومنع وصول ضرورات الحياة إلى مناطقهم، وكذلك بقصفِ مناطقهم بقذائفِ الحقدِ، وحتّى الأسلحة الكيماويّة إمعاناً بالجريمة، من أجلِ إيقاعِ أعدادٍ كبيرةٍ من الضحايا في صفوفِ المدنيين الأبرياء.
أما اليوم ومع وجودِ هذا الكمِّ الكبيرِ من الأحزاب والعدد الأكبر من الشخصيات المؤطرة كردستانيّاً، وفي ظلِّ التقدّم التقنيّ وصولاً لوسائلِ التواصلِ وثوراتِ المعرفة، فإنّنا نجد بعضَها عندَ كلِّ منعطفٍ خطير يحاولُ دفعنا القهقرى، ومن هؤلاء من دخلَ لعبة السياسة على حسابِ شعاراتٍ أو على سبيلِ الانتفاعِ والعلاقات الخارجيّة وآخرون يمارسونها بعقليّةِ تلك الزعاماتِ الإقطاعيّة، ولتتوزع الولاءاتُ بين الإقليميّ والدوليّ، وعليه فإنَّ التناحرَ والتنازعَ على أشدّه إلى حدِّ التآمر والاصطفافِ مع العدو في الخندقِ ذاته، وليكرّر التاريخُ نفسه مرّات ومرّات وليظهرَ «بكو» متقمّصاً أدواراً شتّى ويتكلم باسمنا ويفرض وصايته علينا على أنّنا جزءٌ من إقطاعيته ويطعننا من الخلفِ فيما سهمُ العدوِ من الأمامِ، وليفعل ما عجزت السلطاتُ الحاكمة أن تفعله.
وفي هذا الإطارِ وفي ظلِّ الحربِ الطاحنةِ التي تشهدها سوريا وحجم التدخل الإقليميّ والدولي، والممارسات والسياسات العدائية التي تقودها حكومة العدالة ضدَّ الكرد، فإنَّ الفيدراليّة الديمقراطيّة، هي بحقّ انتصارٌ ليس على مستوى العملِ الميدانيّ والأرض فحسب، بل على مستوى الفكر الإنسانيّ وإغناء له، إذ أنها تجاوزت مساحات كبيرة من الزمن تمتدُّ لقرونٍ طويلةٍ، بكلِّ ما فيها من حوادث ومآسٍ، وراحت تخاطب الآخرين بلغةِ المستقبلِ مباشرةً، فيما عقول الكثيرين معتقلة في زنازين الماضي القديم، وتُحاربُ على ذِمته.
الفيدراليّة مصداقٌ لهويّةِ الكُرد بقبولِ الآخر والتعايشِ المشتركِ
الفيدراليّةُ جعلت من الديمقراطيّةِ العنوانَ الأسمى لتتعايشَ الشّعوبُ في ظلّه، في وقتٍ ثبُتَ فيه فشلُ كلِّ نماذجِ الدّولِ القوميّة على المستوى الأخلاقيّ والاجتماعيّ، وأنّها لم تحقّق للإنسانِ السّعادةَ، ولم توفّرِ الأمنَ والاستقرارَ ولا الحاجاتِ الماديّةِ الضروريّةِ، بل قامت على مراكمةِ الظّلمِ وكانت سببَ شقاءِ الإنسانِ ومعاناته، وبذلك فقدت صلاحيّتها الأخلاقيّة.
طرحُ الفيدراليّة أكّدَ المضمونَ الحضاريَّ للقوميّة الكرديّة وانفتاحَها على الإنسانيّةِ، مقابلَ انغلاقِ الآخرين ضمنَ أطرٍ شوفينيّةٍ ضيّقةٍ، فالديمقراطيّةُ هي الإطارُ الأكثرُ رحابةً لممارسةِ الوطنيّة والتمتعِ بها، ولعلَّ الانتصارَ الأكبرَ والأعمقَ هو للإرادةِ والإطاحةِ بكلِّ العواملِ السلبيّة المُحبطةِ، التي أُريد زرعُها وترسيخها لتكونَ مسلماتٍ تحُولُ دونَ أيّةِ حالةِ نهوضٍ وعلى أيّ مستوىً عبرَ الاستلابِ الفكريّ والثقافيّ، وليتمَّ إسقاطُ كلِّ المخططاتِ الهادفةِ لمحوِ الذّاتِ وإنهاءِ الشخصيّة الفكريّة الكرديّة.
ما رصدناه ليس دعوة لليأسِ ولا مأتماً نجدّدُ فيه الحزنَ على أطلالِ الماضي ولا محاكمةً لجلدِ الذاتِ أو تبخيسِ قدرِها، فواقعُ اليوم يتجاوزُ كلّ ذلك، وما تحقق من منجزات هو حافزٌ للمزيدِ منها، والعبرةُ هي مقتضى دراسةِ التاريخِ من أجلِ لملمةِ ما فرط منا جميعاً وأفرطنا به ومن أجلِ بلورةِ وعي يرتقي بنا، ويقوّمُ ما اعوج في ثقافتنا ويجسّدُ خصوصيّاتِ هويتنا الحضاريّة، ونراكمُ به المنجزاتِ، ولا نقمطُ جهدَ أحدٍ ونسلُّ خيطِ الأمل باتجاه مشروعٍ فكريّ يؤسّسُ لثقافةٍ تتسعُ المستقبلَ وتستوعبُ كلَّ طموحاتِنا، ونستكملُ ثورتنا في البعد الثقافيّ والمعرفيّ.[1]