عدنان حسين أحمد
صدرت عن دار «تيشك» بالسليمانية «أوراق من السيرة الذاتية» للقاصة والروائية الكردية كلاويز صالح فتاح التي عرفت في الوسط الثقافي الكردي بعد نشرها الجزء الأول من ثلاثيتها الروائية المعنونة «نحو كهف الشجعان»، ثم تعزز حضورها حينما أصدرت روايتي «الأم والابن» و«كنة آته خان» اللتين ترجمتهما بنفسها إلى العربية. ثم توالت رواياتها الأخر مثل «الخادمة» و«العالم غابة» و«عابرة سبيل هائمة» وسواها من الأعمال الأدبية.
تنطوي هذه الأوراق من السيرة الذاتية على جوانب متعددة تتوزع بين السياسة والنضال العائلي من جهة، وحب الزوج والأسرة والانقطاع إلى الأدب من جهة ثانية. ولعل أبرز ما يميز هذه السيرة الذاتية هو مصداقية كاتبة السيرة التي كانت تضع الأمور في نصابها الصحيح من دون مبالغة أو تهويل. تخبرنا هذه الأوراق بأن كلاويز من مواليد الموصل عام 1930. ينتمي والدها صالح فتاح إلى عشيرة «قوجه به كي» في زاخو. أما جدها وجدتها لوالدتها فهما من مدينتي «زوزان» و«وان» الواقعتين في كردستان تركيا.
الإبعاد والمطاردة
ما إن تخرج خال كلاويز، حمزة عبد الله ، في كلية الحقوق حتى انخرط في السياسة وأصبح نجما سياسيا معروفا تلاحقه الأجهزة الحكومية. وحينما دشن مكتبه للمحاماة بزاخو التفت حوله الجماهير العمالية والفلاحية، الأمر الذي أثار حفيظة الإقطاعيين والمتعاونين مع الحكومة فاتهموه بالشيوعية، وكتبوا عنه العديد من التقارير السرية في محاولة لتوريطه، وبالفعل قبضوا عليه، وزجوا به في سجن الموصل، وظلت هذه الحادثة عالقة في ذهن كلاويز ومخيلتها، بل إن كلمات مثل «الشرطة، والأمن والسجن» ظلت تقلقها لمدة طويلة من الزمن. ونكاية بهذه الأسرة فقد أحالت الحكومة خالها الضابط محمد عبد الله على التقاعد، ثم أعيد إلى الخدمة، لكنه أبعد هو وعائلته إلى قضاء «عفك» في جنوب العراق، فسياسة الإبعاد لمناوئي الاستعمار وأعوانه كانت متبعة ضد العرب والأكراد في آن معا.
لم يشف الإبعاد غليل الحكومة فأحالت محمد على التقاعد ثانية حينما كانت الأسرة تقيم في القرنة. وفي عام 1945 سمح لأفراد الأسرة بالعودة إلى كردستان، لكن خالها حمزة ظل مختفيا عن أنظار الحكومة، فقد عبر الحدود إلى إيران حينما أعلنت جمهورية مهاباد، وكان الملا مصطفى قد ذهب إلى هناك أيضا. وعندما عادت الأسرة من النفي إلى كركوك قوبلت بالترحاب من قبل السيد أحمد خانقاه وعائلته الكريمة، وبالذات ابنته الكبرى مريم خانم التي كانت أنموذجا للمرأة المثقفة ذات الشخصية القوية الجذابة.
لقد أفادت كلاويز من تجاربها الحياتية ووظفتها بطريقة غير مباشرة. فحينما دهمت الشرطة منزلهم بزاخو وقبضت على خالها حمزة وجدت هذه الحادثة طريقها إلى رواية «الأم والابن»؛ لأن ظروف بطل الرواية «حمه» قريبة جدا من ظروف خالها حمزة، كما أن شمسة خان، أم رحمة لها نفس أحاسيس ومشاعر والدتها.
تتوفر هذه السيرة الذاتية على الترقب والحذر، فحينما أرسل حمزة أحد مرافقيه لجلب الأسرة إلى السليمانية كانوا خائفين جميعا، لكنهم ما إن وصلوا منزل المحامي إبراهيم أحمد حتى تهللت أساريرهم وهم يشاهدون الخال حمزة بانتظارهم.
تغطي المذكرات مرحلة تأسيس حزب «بارتي ديمكراتي كورد» في 16-8-1946 حيث انتخب حمزة عبد الله سكرتيرا للجنة المركزية، ومصطفى بارزاني رئيسا للحزب، لكنه التحق بالاتحاد السوفياتي عام 1947 بعد سقوط جمهورية مهاباد، وظل هناك حتى عام 1958.
جرت خطوبة كلاويز إلى المحامي #إبراهيم أحمد# بعد مدة قصيرة من تأسيس حزب البارتي الذي انتمى إليه إبراهيم أحمد والأكثرية الساحقة، فأصبح مسؤولا لفرع البارتي في السليمانية. ازدادت المداهمات وحملات الاعتقالات للوطنيين المعارضين وعلى رأسهم إبراهيم أحمد، خصوصا بعد اعترافات الشيوعيين وأبرزهم رفيق جالاك الذي باح بكل الأسرار. اعتقل إبراهيم أحمد لمدة سنتين، كما وضع تحت الرقابة لسنتين أخريين وكان عمر ابنته هيرو ثمانية أشهر. تعتقد كلاويز أن أعداء الزعيم عبد الكريم قاسم قد أغووه بضرب الأكراد، ومع ذلك فقد بكت عليه عندما قتل، ولا تزال تتذكر المذيع الذي قال: «لو كان عبد الكريم قاسم قد عالج قضية الأكراد بتعقل لما كان الآن في عداد الأموات». ثم تسرد حكاية إغلاق مقرات حزب البارتي وصحيفة «خبات» وحدوث أول مواجهة مسلحة عام 1961 حينما أخلى قادة الحزب وأعضاؤه المدن وصعدوا إلى الجبال ليشكلوا هناك قوة «البيشمركة». ثم تطويق القوات الأمنية لمنزلها في الوزيرية لكنهم تمكنوا من الهروب إلى كردستان للالتحاق بالبيشمركة. لم تكن السليمانية أفضل حالا من بغداد، إذ منع التجوال فيها، وقبضوا على الرجال من سن السادسة عشرة حتى التسعين. ومن حسن حظهم لم يجرِ دهم منزلهم لأنهم تصوروه بناية لتجار الجملة لكبر حجمه. ثم تبدأ رحلة أخرى يقطعونها على الجياد إلى بلدة «ماوت» و«خزينة» وصولا إلى قرية «آو كورتي الحدودية» حيث مكثوا هناك حتى عام 1964 إلى أن بدأت المفاوضات مع حكومة عبد السلام عارف، حيث وافق الحزب على الاتفاقية، لكن ما إن عاد إبراهيم أحمد الذي كان خارج العراق حتى رفض الاتفاقية لأن فيها إذلالا للأكراد، لكن هذه الإجراءات أفضت إلى تعميق الخلاف بين الطرفين، وأدى إلى نشوب الاقتتال بين الأكراد الذي تدينه كلاويز جملة وتفصيلا.
عبرت عائلة كلاويز نهر آو كورتي ثم انتقلوا إلى «بانة» ومنها إلى طهران، حيث مكثوا هناك نحو سنتين ثم عادوا بعد وفاة عبد السلام عارف بحادث الطائرة.
لم يتوقف الخلاف عند هذا الحد، فبعد بيان 11-03- 1970 تجدد القتال مرة أخرى، فالتحقت عائلة كلاويز بإيران، إضافة إلى عشرات الآلاف من اللاجئين بعد اتفاقية الجزائر التي أنهت الثورة الكردية المسلحة، وبعد أقل من سنة انتقلت عائلة كلاويز إلى لندن لتبدأ حياة جديدة.
نتيجة لهذه الظروف المضطربة لم تكمل كلاويز تعليمها، لكنها كانت قارئة نهمة تقرأ كل ما يقع تحت يديها من كتب وقصص وروايات. وهي تتذكر جيدا كتب توفيق الحكيم مثل «يوميات نائب في الأرياف» و«عودة الروح» التي حفزتها على الكتابة بأسماء مستعارة أول الأمر، ثم بدأت تكتب باسمها الصريح. ثم بدأت بكتابة روايتها الأولى «نحو كهف الشجعان» المستوحاة من الظروف التي عايشتها، ولكنها تقول إن أبطالها خياليون، ولا علاقة لها أو لأفراد أسرتها بهم. لقد شجعها زوجها إبراهيم أحمد كثيرا، وطبع لها جزءا من هذه الرواية على الآلة الطابعة هو والسيدة شيرين خان. ثم بدأت تترجم قصصا فكاهية بعنوان «الملف الإداري» للكاتب التركي عزيز نسين.
تؤكد كلاويز في هذه السيرة أنها تأثرت بأسلوب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، كما تأثرت عالميا بمكسيم غوركي وتولستوي، وأعجبت بأسلوبهما الواقعي السلس الذي يخلو من التعقيد والفذلكة، وهي في الأساس لا تحب الكتابات المعقدة.
لم تتحدث كلاويز كثيرا عن ابنتها هيرو، وزوجها الرئيس العراقي جلال طالباني؛ لأن شهادتها تعتبر مجروحة فيهما، لكنها تبين أن هيرو امرأة متفانية ومضحية وقد أمضت 18 عاما في الجبال واحدة من عناصر البيشمركة، ولم تترك كردستان رغم الظروف الصعبة التي عاشتها هناك متحملة القصف المتواصل والأسلحة الكيماوية أسوة بزوجها طالباني.[1]