=KTML_Bold=د. محمود عباس: هل كان للكرد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام - الجزء العاشر=KTML_End=
أرفق صور صفحات من كتاب (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) لأبن الوحشية، يقال إنه كلداني الأصل، نبطي، عاش في منتصف القرن الثالث الهجري، ويرجح أنه توفي عام 296ﮪ، أرسلها لي مشكوراً الأخ (سردار رامان) تتبين فيها الحروف الكردية قبل الإسلام، وهي تسبق الحروف التي كتبت بها (الأفيستا) الزرادشتية. في إحدى هذه الصفحات يقول بأنه “وجد أكثر من ثلاثين كتابا منسوخاً بهذه الحروف، وباللغة الكردية، ومنها: كتاب الفلاحة والنخيل، التي ترجمها إلى العربية، ونقل عنه أبن العوام الأندلسي كتابه (كتاب الفلاحة) الشهير، ووصف بناءً على ما أورده أبن الوحشي واستسقاه من الكتاب الكرد أسماء وأوصاف المئات من الأعشاب. وكتاب في علم المياه واستخراجها، فيقول: جعلتهم ذخيرة لخزانة أمير المؤمنين عبد الملك ابن مروان (ملاحظة: على الأغلب يوجد هنا خطأ تاريخي، فيما إذا لم يكن المقصود مكتبة الخليفة، وهذه الاحتمالية بحد ذاتها ملغية، فلا يعتقد بأن مكتبة ابن مروان حفظت بعد الدمار الذي خلفه العباسيون بآثار الأمويين. فالخليفة ولد في 26ﮪ وتولى الخلافة في 65ﮪ، والكتابان ترجما في النصف الأول من القرن الثالث الهجري). ولا بد من الانتباه هنا إلى حقيقتين، الأولى غياب هذه الكتب من المكتبات بعد ترجمة ما تمكن منه أبن الوحشي، والذي على الأغلب كان يجيد الكردية، وهي دلالة إما أن أبن الوحشي كان قد عاش بين الكرد، أو أن اللغة الكردية كانت لغة ثقافة وعلم في فترة السلطات العربية الأولى، أي في مراحل الإمبراطورية الساسانية والخلافة الراشدية والأموية وحتى فترة الغدر بأبو مسلم الخرساني واتهام الكرد بالخيانة، وبالتالي ضياع أسماء مؤلفي جميع تلك الكتب، والثانية، الشعب الذي كان يؤلف وينسخ كتب في طرق استخراج المياه والفلاحة والزراعة وإصلاح التربة في مراحل قبل الإسلام لا يمكن إلا أن يكونوا على قدر واسع من المعرفة الأدبية والفلسفية والعلوم التي نورد مثالا عنها هنا. وفي أحد الصفحات يقارن بين الكرد والكلدانيين، وتقدم هؤلاء على الكرد بالعلوم والمعارف، وبالمقابل تفوق الكرد وبراعتهم بالمعارف الزراعية والفلاحة، وتوصيف وخواص النباتات، ويقول بأنه يقال إن هذه العلوم وصلتهم من عهد نبينا آدم عليه السلام، إلى جانب تفوقهم بالعلوم الدينية والفنون التي وصلتهم من الكلدانيين، وعلى أثر هذه العلوم كانت هناك عداوة بين الكلدانيين والكرد. وتأكيدا على أن اللغة الكردية كلغة ثقافة كانت سائدة وحتى في المراحل اللاحقة، وكلمات الأدبية والعلمية كانت دارجة في الأوساط الثقافية، فيقول ابن عساكر، في كتابه (تاريخ مدينة دمشق) الجزء السادس، الصفحة(103-104) منقول عن تاريخ يعود إلى قرابة منتصف القرن الثالث الهجري، أخبرنا أبو الحسين…عن أبو الحسن الفارسي، سمعت أحمد بن يعقوب يقول” فلما دخلت بغداد فأول من سألت عنه سألت عن أبي العَبَرطن، فقيل: يعيش وله مجلس. فقمت وعمدت إلى الكاغد والمحبرة… فجلست في أخريات القوم وأخرجت الكاغد” و(الكاغد) باللغة الكردية تعني الورق، ويقال في قاموس المعجم الوسيط “الكاغد: القرطاس، وهو فارسي معرب، ومن المعروف أن أول مصنع للكاغد، كان بأمر من الوزير يحيى البرمكي(الكردي) سنة 178ﮪ. وكما ذكرنا في مقالات سابقة أن الثقافة الكردية صنفت ضمن الفارسية، على خلفية عوامل سياسية وقومية، تبنتها سلطات فارسية وعربية. وعليه يظل سؤالنا المحير، هل تم تدمير هذا الإرث الأدبي العلمي ضمن المكتبات العديدة التي قضيت عليها بأوامر قادة القبائل العربية الجاهلية، أم بسبب الإهمال المتعمد؟ وفي الحالتين فإننا أمام كارثة فكرية ثقافية حصلت مع وصول القبائل العربية الغازية لحضن الحضارة الساسانية.
المثال الثاني-
من الحكمة، عدم فبركة التاريخ، والتغطية على ما خلفته غزوات القبائل العربية الجاهلية من الدمار للحضارات المجاورة، بل يجب عرضه كما حدث، وعزل المجازر وحوادث النهب والسبي عن الرسالة المحمدية. وهو ما ينطبق على ما أثير من جدالات حول مكتبة الإسكندرية، حتى ولو أنها ليست مجال مقالنا هذا، لكن السيرة مشابهة لمصير المدارس ومكاتب الحضارة الساسانية. ولا خلاف على أن مكاتب الإسكندرية كانت تحوي على مجموعة هائلة من الكتب، وفيها يقول أبن النديم في كتابه الفهرست الصفحة (241) ناقلا عن إسحاق الراهب” أن بطولوماوس فيلادلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك فحص عن كتب العلم وولي أمرها رجلاً يعرف بزميره فجمع من ذلك على ما حكى أربعة وخمسين ألف كتاب ومائة وعشرين كتاباً وقال له الملك قد بقي في الدنيا شيء كثير في السند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم”
هذه الثروة الثقافية الهائلة، المكتبة التي تعرضت إلى حريقين متعمدين، الروماني المسيحي والعربي الإسلامي، سبقهما الحريق العرضي الهائل، أثناء الحرب ما بين الإمبراطور الروماني، وجيوش روما المناوئة له، عام 48 ق.م. وفيها يتهم المؤرخون يوليوس قيصر، وخير من يذكر هذا الحدث هو المؤرخ (بلوتارخ) فيقول بأنه بقيت في المكتبة أربعمائة ألف مجلد سالماً من أصل سبعمائة ألف بعد ذاك الحريق، ويضيف، أن القيصر مارك أنطونيو أهدى لكليوباترا بسببها مائتي ألف مجلد، عمرت أو وسعت بها مكتبة المعبد، إلى جانب إعادة تصليح المكتبة الملكية، ومن بعد الحادثة بمئة عام تحدث الفيلسوف (سنيكا) عن أسباب وخلفيات الحريق. أما الحريق المتعمد الأول: كان على خلفية التبشير بالدين الجديد (المسيحية) بأمر من القيصر الروماني ثيودوسيوس عام 391م، طالت حتى مكتبة المعبد التي كان يتحصن فيها المعادين للمسيحية، ولم تتأثر كثيرا المكتبة الملكية، مع ذلك فالمجادلون في هذه القضية يدرجونهما ضمن الحدث ذاته، علماً أن مكتبة القصر الملكي أصلا كانت في ظل الإمبراطور، أو حاكم الإسكندرية التابع للإمبراطور المسيحي.
ورغم الحريقين، العرضي والمتعمد، تبقى احتمالية تجديد المكتبتين كبيرة، أو لنقل المكتبة الملكية على الأقل، فالفترة الزمنية كانت كافية لإعادة بنائهما وتجديدهما حتى وهي تحت السيطرة المسيحية، فمن سنة الحرق الأخير إلى ظهور القبائل العربية توجد قرابة 500 سنة، ويذكر العديد من مؤرخي تلك الحقبة كيف تم الاهتمام بالمكتبة الملكية وتوسعت، وكانت قبلة العلماء والأدباء، من جميع أطراف الحضارة الرومانية المسيحية، واليونانية، وكانت لهم علاقة بملوك الساسانيين، وفيما بعد ما قام به الأقباط من دور ثقافي. ولا يعقل أن تكون الدولة القبطية التي راسلها الرسول واستلم من ملكها جاريتين، وبينهما أم المؤمنين مريم القبطية، بدون أرث أدبي وفلسفي، فأين اندثر ذاك الإرث؟ وأين اختفت آثار ما قبل الإسلام من الآدب والفكر الفلسفي وغيره؟ وهل فعلا كانت الحضارة القبطية المصرية، والتي كانت في كثيره امتداد للحضارة البيزنطية، خالية قبل الإسلام من الشعراء والأدباء، والعلماء؟! علما بأنه ورد عند العديد من المؤرخين إن أوائل الشعراء العرب تعلموا الشعر من شعراء ملوك الإسكندرية، والساسانيين. ولا يعقل أن تكون الآثار الأدبية والعلمية التي بقيت محفوظة في مكاتب الحضارة اليونانية والرومانية عن مصر هي الوحيدة، ولم تكن لها مماثلها في مركز الحضارة، ومدينة الإسكندرية والمدن القبطية-الفرعونية الأخرى؟! وعليه فإن جدلية رسالة الخليفة عمر بن الخطاب لعمر بن العاص أقرب إلى الصحة من نفيها، وحرق المكتبة بل وغيرها من مكاتب الحضارة المصرية، بيد القبائل العربية الجاهلية حقيقة، وإنكارها بفبركة تاريخية كالقول بأن الكتب كانت غير قابلة للحرق، مرفوضة لأنها ومنذ الفراعنة كانت تنسخ على ورق البردي القابل للحرق، إلى أن حل محلها (الكاغد)…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[1]