شكلت الجغرافيا والتاريخ موطن الأكراد وصبغت ملامحه السياسية عبر التاريخ، فموقع استيطان الأكراد وتضاريسه الجبلية وعدم محدودية المكان وسعة انتشارهم وتوزعهم جغرافيًّا أسهم بدور كبير في جعلهم على مفترق طرق في العلاقة مع الدول الكبرى المحيطة بهم.
ولعل تموضع كردستان في المنطقة الواقعة بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية أدخل الأكراد في أتون معترك الصراع العالمي أو بالأحرى جعلهم بين فَكَّي كماشة لا مهرب ولا مناص منها، فعلى سبيل المثال: عندما أصبحت الدولة الصفوية مصدر تهديد للدولة العثمانية منذ القرن الخامس عشر الميلادي، كان موطن الأكراد ساحة للصراع العسكري بين الدولتين. فتشير المصادر التاريخية إلى أن الدولة العثمانية أعلنت الحرب على الدولة الصفوية إثر توسعها على حساب دولة الخروف الأبيض الآق قويونلو التركمانية” وما تبع ذلك من مكتسبات وتوسع في المناطق الكردية التي اعتبرها الشاه إسماعيل الصفوي (1501-1524) مجالاً حيويًّا لدولته، فخضعت له عدة إمارات كردية مثل إمارة “حكاري” وغيرها من الإمارات الكردية، وسلم إدارتها للقزلباش عوضًا عن الأكراد، وأجبرهم على ترك المذهب السني واعتناق المذهب الإثنى عشري، وذلك في إطار سياسة مذهبية شاملة تم اتباعها في عموم الأراضي التي سيطر عليها الصفويون، واستخدمت في سبيل ذلك القمع والوحشية المفرطة وإرهاب السكان، وتسخير الإمكانيات المادية والعسكرية للإمارات الكردية لمصلحة الدولة الصفوية، وفي إطار تلك السياسات التوسعية الصفوية في كردستان وآسيا الصغرى أدرك العثمانيون خطورة التوسع الصفوي في حدود دولتهم الشرقية. ولذلك كانت الحرب بين الدولتين.
استخدم العثمانيون سياسة الخديعة مع الكُرد وعملوا على إخضاعهم.
بعدما أمن السلطان سليم الأول (1512-1520) جانب أوروبا من الناحية العسكرية، أعلن الحرب ضد الدولة الصفوية وزحف بجيشه سنة (1514) إلى الأناضول الشرقية، حتى وصل إلى مدينة “جرميك” وهناك أودع للأمير الكردي مصطفى بك عددًا من قادة الجناح الأيسر لجيشه، ومصطفى بك المذكور أصبح فيما بعد وزيرًا في الدولة العثمانية، وحاول الطرفان العثماني والصفوي استمالة الأمراء الأكراد إلى جانبهم، إلا أن جهود الشيخ إدريس البدليسي قد أثمرت بأن أقنع عددًا من أمراء الإمارات الكردية بأنهم لن يفقدوا استقلالهم إذا ما خضعوا للعثمانيين، فمال معظمهم إلى المعسكر العثماني. هناك التقى الجيشان العثماني والصفوي في (23-8-1514) في سهل #جالديران# في الشمال الشرقي من بحيرة “وان”، وانتهت المعركة بهزيمة الصفويين هزيمة منكرة، وكان للأكراد دور كبير بمشاركتهم في تلك المعركة، حيث شارك حوالي ستة عشر أميرًا من الأمراء الأكراد، وقد استمر خضوع الإمارات الكردية للدولة العثمانية حتى عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566) وحافظت تلك الإمارات على استقلالها الذاتي وتعيين القائمين والمتصرفين والإداريين عليها من الأكراد ذاتهم. ويذكر المؤرخ الكردي الأمير شرف خان البدليسي في كتابه “الشرفنامة” بأن الإمارات الكردية في العصر العثماني كانت تحكم نفسها بنفسها فالضفة اليسرى من نهر الفرات الغربي وجميع مناطق الضفة الشرقية من نهر “مراد صو” أحد فروع الفرات كانت تحت حكم الإمارات الكردية. وكان الأكراد يقدمون الطاعة والهدايا للسلطان ويقومون بالأعمال التي يطلبها السلاطين منهم ويقدمون الجيوش الاحتياطية عندما يكونون بحاجة إليها.
ورغم استقلال تلك الإمارات وارتباطها بالسلطات العثمانية إلا أنها كانت تقوم بحركات ثورية ضد العثمانيين. وكانت تنجح السلطات العثمانية في حملاتها العسكرية ضد الثوار الأكراد بإيجاد بعض العملاء لضرب الأكراد فيما بينهم من خلال اتباع سياسة فَرِّق تسد. وهي سياسة ناجعة استخدمها القانوني مع بعض الإمارات الكردية للحد من طموحاتهم وحركاتهم المضادة للسلطات العثمانية، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما فعله مع أحد أمراء بابان الكردية، إذ ظهر له منافسٌ مدعومٌ من العثمانيين بعد فترة بسيطة من تنصيبه في الإمارة. ونتج عن تلك السياسة أن عين القانوني أول والٍ تركي في عهده على كردستان، ليقضي على حكم الأمراء الأكراد وعلى إماراتهم المختلفة بعدما كانوا يتوارثون إدارة إماراتهم أبًا عن جد.
حين احتاج العثمانيون الأكراد منحوهم الاستقلال ثم انقلبوا عليهم.
1- إبراهيم الداقوقي، أكراد تركيا، ط2 (إربيل: منشورات ئاراس ، 2008).
2- أحمد عبد الرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني (القاهرة: دار الشروق، 1982).
3-باسيلي نيكيتين، الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ترجمة: نوري طالباني، ط2 (بيروت: دار الساقي، 2001).
4-سعدي عثمان هروتي، كردستان والإمبراطورية العثمانية دراسة في نفوذ سياسة الهيمنة العثمانية (إربيل: مؤسسة مو كرياني للبحوث والنشر، 2008).
5-كاميران عبد الصمد الدوسكي، كردستان في العهد العثماني (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2006).[1]