=KTML_Bold=محمود عباس: مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً “الجزء العشرون”.=KTML_End=
قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
حول الديمغرافية الكوردية وهجراتهم
الفصول التي تتناول الديمغرافية الكوردية في جنوب غربي كوردستان والجزيرة بالتحديد، وعرضه للإشكالية التي أثارتها السلطات العروبية منذ تشكل سوريا، وفيما بعد وبشكل ممنهج، ومفاهيمه عن الهجرات الكوردية الخارجية، وتحليلاته ونظرياته حولها، والدوافع والأسباب التي يقدم على الحضور الكوردي في الجزيرة، تحتاج إلى تنقيب دقيق وعميق، ففيها الكثير من التلاعب المقصود، وتحوير في الوقائع التاريخية ليسند بها غايته في هذا المجال، لذلك يعتم على الوجود الكوردي التاريخي في هذا الجزء من كوردستان، كالعادة بأسلوبه السلس، والتكثيف من عرض المعلومات التي لا علاقة لها بالقضية، والحوادث التاريخية، ويتنوع في المصادر والتي معظمها خالية من المصداقية، أو أنها صادرة من مراكز غير موثوقة، والموثوقة هي نفسها المكررة من بداية البحث، في معظمها لا تتوافق وغايته وتضارب ومفاهيمه، وحتى عندما يستند على مصادر كوردية، ككتابي السيد حميد حاج درويش، لا يأتي على ما دحضه السيد درويش لآراء ومفاهيم بعض العروبيين حول الديمغرافية في جنوب غربي كوردستان، وتاريخهم في المنطقة، والانتماء الأصلي لهذه البقعة الجغرافية، لأن مصادر السيد حميد حاج درويش رصينة في مصداقيتها، لذلك يستخدم كتبه في قضايا أخرى، غير القضايا المذكورة.
لا شك الكاتب يتناول العديد من القضايا في هذا المجال، لكنه لا يتمكن من عرضها كباحث متمسك بالمصداقية، فهو لا يستطيع التخلص من النهج البعثي، ويلاحظ ذلك من خلال صفحات الكتاب، حيث النهج القومي العروبي العنصري المسيطر، لذلك نراه يمجد بخطاب الملك فيصل العروبي مثل تعظيمه لمفاهيم البعث، الخطاب الذي فضل فيها القومية العربية على الأديان السماوية الثلاث، حتى ولو كانت بطريقة غير مباشرة، فيورد على أثرها أجزاء من خطابه عدة مرات وفي مناسبات مختلفة، وهي الكلمة التي ألقاها في مدينة حلب عام 1919م من على شرفة فندق بارون، فيوردها في هامش (8) الصفحة(296)وفي الصفحة(301) وغيرها. يمزج فيها الملك القضية الخلافية بين الوطنية والقومية العربية، ومن خلال خطابه، تتبين بأن المفاهيم الوطنية إما أنها لم تكن قد بلغت سيادة الملك حينها، أو أنه لم يكن يؤمن بها، لذلك أنتقل من العلاقة الدينية إلى القومية. ولحض المسلمين والمسيحيين على مبايعته، نقر على مفهوم القومية العربية، وكان قد غرروا به البريطانيون، وساعدوه في الثورة العربية الكبرى، ونصبوه ملكا على سوريا، ليتقاسموا أملاك الرجل المريض (الإمبراطورية العثمانية) وعلى الأغلب كان الخطاب يعد من أحد الركائز التي استند عليها فيما بعد العديد من القوميون العرب حينها، والأجيال اللاحقة كالبعثيين ومن بينهم الكاتب محمد جمال باروت. علماً أن المطران جبرائيل تبوني، رد على هذا النهج القومي الذي أريد منه تعريب المجتمع المسيحي، كالسريان والأرمن، والأثوريين وغيرهم، فوجه رسالة في 18 تموز عام 1919م إلى اللجنة القومية الأرمنية عن التوكيلات العثمانية رافضا سيطرة العرب، ذاكراً أن ” العرب هم الذين شاركوا في عام 1915م في مذابح أورفه وماردين ودير الزور…” ويقول أيضا أن العرب نفذوا في 28 شباط 1919م الذبح بالمسيحيين في حلب وفي غمرة الحكم العربي، وهم الذين أتموا إبادة المسيحيين في الصحراء بعد أن قبضوا من تركيا ثمن فعلتهم” وكان توجهه معاكسا لتوجه المطران أفرام برصوم المحاول ترسيخ الوطنية السورية.
يتبع الكاتب نهجه هذا في الصفحة(305) فيعرض تقرير واقتراح وزير المعارف السوري العلامة محمد كرد علي، وهو من أصل كوردي، كسند على رؤيته في الديمغرافية الكوردية في الجزيرة، وذلك عندما اقترح الوزير، بعد جولته إلى الجزيرة، بأن يتم سكن الكورد ” في أماكن بعيدة من حدود كوردستان لئلا تحدث في وجودهم في المستقبل القريب أو البعيد مشاكل سياسية تؤدي إلى اقتطاع الجزيرة أو معظمها من جسم الدولة السورية ” لا شك هنا يكمن تناقض غير ظاهر بين ما يعرضه الكاتب وما يقدمه الوزير، فالأول ينفي الوجود الديمغرافي التاريخي للكورد في المنطقة، ويبني ظهورها على الهجرات الخارجية، والثاني يؤكد عليها لذلك يطالب بنقلهم، كما ويؤكد على وجود كوردستان كجغرافية. كما وأن محمد جمال باروت ينطلق من خلفية قومية عروبية عنصرية، والعلامة المسلم-الكوردي من خلفية وطنية-دينية، فتستقيم عنده الكورد والعرب ضمن جغرافيته الذهنية والجغرافية السياسية.
تلك الاستنادات إلى جانب ما أورده في الفصول الأخيرة من كتابه، بحق النائب الكوردي عن منطقة عفرين السيد (أحمد جعفر الشيخ إسماعيل) تندرج ضمن عملية تبرئة السلطات العروبية من مخططات تعريب الكورد، والقضاء على كوردستانية شمال سوريا، منذ فترة الاستقلال وحتى الأسد مرورا بحكمي حزب الشعب والبعث. فيتهم البعض من الكورد بمنهجية تعريبهم، لذلك يركز على تقرير محمد كرد علي، ويورد مطلب النائب العفريني، فيقول في الصفحة(703) “” الحقيقة أن الدعوة ل “تعريب” الأكراد، “صهرهم” في البوتقة القومية العربية” لم تصدر من النواب البعثيين، بل من نائب عفرين أحمد جعفر الشيخ إسماعيل، وهو كوردي، في صورة تنمية المناطق الكوردية الحدودية،… وطالب جعفر بأن يخصص قسم في الإذاعة يبث “التوجه القومي الصحيح” باللغة الكوردية، وتعليم الأكراد الذين يجهلون اللغة العربية، وفتح المدارس لهم”” وفي الواقع أن دعوة النائب كانت ذكية، رغم ترجيحه ظاهرياً البعد الإسلامي على القومي، إلا أنه ومن منطق الاقتناع بأن السلطة في سوريا أصبحت عربية ولا مفر منها وبدعم من فرنسا، فلو طالب بالقضية الكوردية وبشكل مباشر، فسيلاقي مواجهة عروبية حادة أو على الأقل التعتيم على المنطقة، ولربما كان يستشف هذه النزعة في البرلمان الذي كان يسيطر عليه حزب الشعب والبعثي العروبيين. لذلك فمطالبه كانت رؤية مستقبلية بعيدة المدى، ودعم غير مباشر لتوعية المنطقة الكوردية، وذلك من خلال نشر وتطوير اللغة الكوردية عن طريق تخصيص جزء من الإعلام الرسمي له في فترة كان الكورد يحتاجون فيه إلى كل خطوة ثقافية، إلى جانب فتح المدارس لتثقيف المجتمع، ولربما كان يتوقع أن مثل هذا المجتمع سيتمكن مستقبلا من فرض قضيته بشكل أوعى. خاصة وأن السيد جعفر يبين في تقريره ذاك عن كثافة سكانية للكورد في المنطقة، وهي تعكس نسبة الكورد العالية في بداية الخمسينات يوم لم تكن سكان سوريا تتجاوز المليونين، وذلك بشهادة الكاتب وعلى لسان النائب، فيقول “” تعلمونا لغتكم وثقافتكم لأن هناك في مناطق الحدود ما يقرب من ربع مليون نسمة ““أي بما معناه أنه في منطقة عفرين وحدها كان نسبة الكورد تقترب من ربع عدد سكان سوريا! لأن النائب كان يمثل منطقته، فلم يتحدث عن الجزيرة أو منطقة كوباني، وهنا فمحمد جمال باروت، مثلما كان يفعلها البعث، والعديد من المثقفين العروبيين لتبرئة جرائمهم، يستخدمن هذه المصادر وغيرها في غير أبعادها.
ويتبع الكاتب في عرض قضايا أخرى أثيرت في تاريخ المنطقة، لينكر العمق التاريخي لوجود الجغرافية الكوردستانية وبالتالي الديمغرافية الكوردية فيها، علما أنه في عدة أمثلة يناقض ذاته، كالمثال الذي يورده حول قضية قرية أبو راسين(كرباوي) والتي هي من أملاك عشيرة بينار علي، وذلك عندما يقول في الصفحة(712) ” وكانت بيوت هذه العشيرة موزعة بين الأراضي السورية والأراضي التركية” وهنا كحالة استباقية ينفي الوجود الكوردستاني جغرافيا، ويفرض الكيانين المتشكلين حديثا، تركيا وسوريا، ويعتبر الكورد مجموعات مهاجرة لا انتماء لها مع الأرض، وعليه يتمم ” وهو ما يفسر لأن العدد في القرى في النصف الثاني من الأربعينيات بلغ 3000 بيت أو ما يراوح 20 و25 ألف نسمة” والحديث يجري عن قرى عشيرة بينار علي، وهي من العشائر المتوسطة من حيث الحجم السكاني ما بين ديركا حمكو وعامودا، وحتى لو سلمنا جدلا بهذه الإحصائية العشوائية والتي لا سند لها، فهي تعني وحسب الكثافة السكانية للمنطقة حينها، نسبة الكورد العالية لمجمل سكان سوريا، وإذا تمت مقارنة العشائر الكوردية الأخرى بعدد سكان عشيرة بينار علي، والممتدة من ديركا حمكو وحتى سري كانية، والمتجاوزة العشرين عشيرة على الأقل، إضافة إلى العشائر الأخرى القاطنة بين سري كانية وحتى كري سبي(تل أبيض) سيبلغ عدد سكان الكورد حينها في هذا الجزء من الجزيرة الفراتية أكثر من نصف مليون، لأن عدد سكان بعض العشائر ربما يزيد بثلاثة أضعاف عن عشيرة بينار علي، وإذا أضفنا عليهم ربع مليون سكان عفرين، والذي تم ذكرهم من قبل النائب جعفر عن المنطقة في فترة الاستقلال، ضمن البرلمان السوري، سيصبح عدد سكان الكورد قرابة نصف سكان سوريا، ونحن هنا لا نضيف عليهم المجموعات التي تسكن جبل الأكراد، وسكان حي الأكراد في دمشق، وآل البرازي في حماه، ومجموعات متوزعة في المدن السورية ما بين حلب واللاذقية وحمص وغيرها، ومعظمها تم استعرابهم على خلفية اللغة، وجغرافية كوردستان المقتطعة تشكل ربع مساحة سوريا المتشكلة حديثا، وهذا بحد ذاته إثبات على أن الديمغرافية الكوردية التي يود الكاتب وبعض المثقفين العروبيين، المدعومين من سلطاتهم، الطعن فيها، وبالتالي التسلط على كوردستانية الجغرافية، والتعتيم على أن العرب مهاجرون إليها وغرباء عن المنطقة من حيث البعد التاريخي …
يتبع…
[1]