مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة السادسة والعشرون ) شيخ الإسلام ابن تيمية (661 728ﮪ)
د. أحمد الخليل
إمام جليل، وعالم جريء، وفقيه بارع، وداعية لامع، ومقاتل شجاع، وكاتب عبقري، وباحث محقّق، وخطيب مفوَّه؛ ذلكم هو شيخ الإسلام ابن تيميّة، وقد وصفه الحافظ الذهبي في (معجم الشيوخ) بقوله:
” فريد العصر علماً ومعرفة، وذكاء وحفظاً، وكرماً وزهداً، وفرطَ شجاعة وكثرةَ تآليف …”.
ووصفه ابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب) قائلاً:
” الشيخ الإمام العالم، العلاّمة، المفسِّر الفقيه، المجتهد الحافظ المحدّث، شيخ الإسلام، نادرة العصر ذو التصانيف والذكاء”.
وجاء في كتاب (العقود الدرّية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيميّة):
” هو الشيخ الإمام الرّباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيّد الحفّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وقريع الدهر، شيخ الإسلام، بَرَكة الأنام، وعلاّمة الزمان، وترجمان القرآن، عَلَم الزهّاد، وأوحد العبّاد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين “.
فماذا عن عصر الرجل؟
وماذا عن نشأته وفكره ومواقفه؟
العصر الصعب
عاش ابن تيميّة في عصر هو من أشد عصور شرقي المتوسط حرجاً وأكثرها خطراً، أجل، كانت شعوب شرقي المتوسط تتعرّض فيه للهجوم من جهات شتى، فمن الشرق كانت جحافل المغول تأتي على الأخضر واليابس، وتقتحم المدن، وتقيم أهرامات من رؤوس البشر، إنهم اقتحموا كردستان، ثم اندفعوا نحو بغداد عاصمة الخلافة العباسية سنة (656 ﮪ / 1258 م)، فدمّروها تدميراً.
ومن الشمال كانت الدولة البيزنطية تهاجم بلاد الشام وشمالي كردستان كلما سنحت لها الفرصة، وكان الفرنج يهيمنون على مراكز هامة في سواحل بلاد الشام، مستعينين في ذلك بالفرنج القادمين من أوربا، وعندما ولد ابن تيميّة كانت ذكريات الحملة الفرنجية السابعة على مصر، بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع سنة (647 ﮪ/ 1249 م)، ما تزال حيّة في الأذهان.
وفي أقصى الغرب كان الإسبان قد انتقلوا من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، واستردوا البلاد التي فتحها المسلمون، وعملوا للقضاء على مملكة غرناطة آخر الممالك الإسلامية في شبه جزيرة إيبيريا (الأندلس)، وليس هذا فحسب، بل نشطوا للانقضاض على سواحل شمالي إفريقيا، وجرّد ملك فرنسا لويس التاسع حملة على تونس سنة (668 ﮪ)، لكنه لم يفلح في السيطرة عليها.
وكانت مصر وبلاد الشام آنذاك خط الدفاع الأول لحماية شعوب شرقي المتوسط، وكانتا كذلك طوال العﮪد الأيوبي، وظلتا كذلك في عهد المماليك البحرية تلامذة المدرسة الأيوبية، بلى، لقد تسلّم المماليك من أساتذتهم الكرد الأيوبيين راية الدفاع عن البيت الشرق متوسطي الكبير، والتصدي للمغول والفرنج، وكان لزاماً عليهم أن يبقوا تلك الراية خفّاقة، إذ كان الخطر ما يزال قائماً.
أصل ابن تيمية
في ﮪذا العصر الحرج ولد ابن تيمية، وكانت ولادته في مدينة حَرّان بالمنطقة الكردية في جنوب شرقي تركيا، واشتهر بكنية أسرته (ابن تيميّة) أكثر من اشتهاره باسمه، وثمة تفسيرات عديدة لأصل هذه الكنية، أشهرها أن (تيميّة) اسم بعض جدّاته، وكانت واعظة، وفي المجتمع الكردي كثيراً ما يُعرف المرء بأمه، ويُنسب إليها في الوسط الاجتماعي، ولا تزال آثار هذه العادة باقية في القرى الكردية إلى عصرنا هذا، ونستدل منها على أهمية المرأة في المجتمع الكردي، إلى درجة أنها تمنح اسمها لأولادها وللعائلة بكاملها.
ولم يذكر المؤرخون القبيلة التي تنتمي إليها أسرة ابن تيميّة، ولم يشيروا إلى أصله، لكن دعونا نتفحص الأمر برويّة، فالمعروف أن غالبية سكان منطقة جنوب شرقي تركيا هم من الكرد، وقد وفد إليها قليل من العرب مع الفتوحات الإسلامية في القرن الأول الهجري، ثم وفد إليها بعض التركمان في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) مع الغزو السلجوقي، وهكذا فنحن أمام ثلاثة احتمالات لأصل ابن تيمية:
– الاحتمال الأول أن يكون ابن تيمية عربياً، لكننا لا نجد في سلسلة نسبه أية إشارة إلى انتمائه العربي، ولو كان عربياً لما تردّد هو أو أحد أفراد أسرته- ومعظمهم من العلماء- في ذكر قبيلته، ولا سيما أن الانتماء إلى قبيلة عربية كان يعدّ في ذلك الوقت مفخرة، وشكلاً من أشكال التميّز الاجتماعي.
ولو كان ابن تيمية عربي النسب لما تردّد من كتب سيرته قديماً وحديثاً في الإشارة إلى ذلك؛ هذا مع العلم أن الإشارة إلى الأصل العربي للأعلام كان أمراً معهوداً في كتب التراجم القديمة، حتى إذا كان العلَم من سكان بلاد بعيدة جداً من بلاد العرب، وأكتفي في هذا المجال بذكر عَلمين اثنين: الأول هو إسحاق بن راهويه، فقد أشير إلى نسبه الحنظلي التميميى؛ رغم أن اسمه (راهويه) فارسي وأنه كان في خراسان. والثاني هو أبو عبد الله بن مسلم القُشَيْري صاحب (الرسالة القُشيرية) في التصوف، إذ رغم أنه من سكان بلاد فارس فقد ورد اسم قبيلته بني قُشَير في ترجمته.
– والاحتمال الثاني أن يكون ابن تيمية تركمانياً، وهذا ما لم تحصل الإشارة إليه لا من قريب ولا من بعيد، ولا ظناً ولا ترجيحاً، وعدا ذلك فإن التركمان وفدوا إلى مناطق غربي آسيا، ومنها كردستان، في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وكانوا رجال حرب وغزو، كانوا بداة حديثي عهد بالعلم، ثم إننا لا نجد في سلسلة نسب ابن تيمية ما يُشعر بتركمانيته، بخلاف ما هو معهود في سلسلة نسب الأعلام التركمان، ومنهم الحافظ الذهبي (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز) وقايماز اسم تركماني صرف، وكذلك الصَّفَدي (صلاح الدين خليل بن أيْبَك)، وأَيْبَك اسم تركماني صرف.
– والاحتمال الثالث أن يكون ابن تيمية كردي النسب، وهذا ما نرجّحه، معتمدين على ثلاثة أدلة: أولها أنه ليس عربياً أو تركمانياً. وثانيها أن أسرته تنتمي إلى منطقة كردية منذ العهد الميتاني على أقل تقدير. وثالثها أن طباعه هي طباع معظم علماء الكرد، وأنه ممثل أصيل ل (العقل الكردي).
ومن بين الباحثين الذين كتبوا سيرة ابن تيمية- وهم كثر- كان للشيخ محمد أبو زهرة الفضل في احتمالية نسبه الكردي، فقد قال في كتابه (ابن تيميّة: حياته وعصره آراؤه وفقهه، ص 18- 19):
” لم يذكر المؤرخون الذين قرأت لهم القبيل الذي تنتمي إليه أسرة ابن تيميّة، فلم يذكروا له نسبه إلا أنه الحرّاني، فنسبوه إلى بلده حرّان موطن أسرته الأول، ولم ينسبوه إلى قبيلة من قبائل العرب، وإن هذا يشير إلى أنه لم يكن عربياً، أو لم يعرف أنه عربي منسوب إلى قبيلة من القبائل العربية، ولذلك نستطيع أن نفهم أو أن نعلم علماً ظنياً أنه لم يكن عربياً، ولعله كان كردياً، وهم قوم ذوو همّة ونجدة وبأس شديد، وفي أخلاقهم قوة وحدّة، وإن تلك الصفات كانت واضحة جليّة فيه مع أنه نشأ في دعة العلماء، واطمئنان المفكرين وهدوء المحقّقين، وإن الأكراد كانت لهم في القرن السادس والسابع المواقف الرائعة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين “.
نشأة ابن تيمية
ولد ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم) سنة (661ﮪ / 1263م)، واسمه الكامل أحمد تقيّ الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله، وأمه هي الشيخة الصالحة ستّ النِعَم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرّانية،
وعندما بلغ ابن تيميّة السابعة من عمره، كان التتار يشنّون الغارة على مراكز العلم والحضارة في شمالي كردستان، ومنها حرّان، ففر أهلها خوفاً من البطش التتري، وكانت أسرة ابن تيميّة ممن هاجرت إلى دمشق، ووصلت إليها بسلام، بعد كثير من العنت والمشقّة.
وأسرة ابن تيميّة أسرة مثقّفة، ذات قدم راسخة في علوم الدين على وجه خاص، لذا ما كادت تحطّ رحالها في دمشق حتى ذاع شأن الشيخ شهاب الدين والد أحمد، واشتهر أمره، فكان له كرسي للدراسة والتعليم والوعظ والإرشاد بجامع دمشق، وتولّى مشيخة دار الحديث السكرية، وبها كان سكنه، وفيها تربّى ولده أحمد، وكان الأب قوي الحافظة، ناصع البيان، ثابت الجَنان، وهي صفات بارزة في ولده.
كما أن مجد الدين جدّ ابن تيميّة كان عالماً جليلاً، ويعدّ من أئمة الفقه الحنبلي، وله كتابات قيّمة في أصوله، وكان الجدّ نفسه قد تلقّى العلم من عمه فخر الدين، وكان هذا بدوره عالماً خطيباً وواعظاً، وجمع تفسيراً للقرآن في مجلدات ضخمة.
تلك هي أسرة ابن تيميّة، إنها أسرة علم ومعرفة، وبيئة درس وبحث، فكان من الطبيعي أن يتّجه الفتى أحمد منذ نعومة أظفاره الوجهة ذاتها، فحفظ القرآن حسب تقاليد التدريس الديني في ذلك الزمان، واتجه بعد حفظ القرآن إلى حفظ الحديث واللغة، ومعرفة الأحكام الفقهية، وقد ظهرت فيه منذ صغره ثلاث مزايا:
الجد والاجتهاد، والانصراف عن لهو الصبيان وعبثهم.
انفتاح نفسه وقلبه لكل ما حوله إدراكاً ووعياً.
الذاكرة الحادة، والعقل اليقظ، والنبوغ المبكّر.
وقد وصفه الحافظ الذهبي فقال:
” كان أبيض، أسود الرأس واللحية، وشعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوريّ الصوت، فصيحاً، سريع القراءة، تعتريه حدّة، لكن يقهرها بالحلم، ولم أر مثله في ابتهالاته واستعانته بالله وكثرة توجّهه “.
مسيرته العلمية
ورث ابن تيميّة الذاكرة الواعية من أسرته، وجاء في كتاب (العقود الدرية) أن بعض العلماء سمع بشهرة الصبي ابن تيميّة بسرعة الحفظ، فأحب التأكّد من ذلك، فالتقاه وهو قادم من الكتّاب، وأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر حديثاً، فقال: اقرأ هذا. فلم يزد أحمد على أن تأمّله مرة واحدة حتى حفظه، وقرأه عليه عرضاً كأحسن ما أنت سامع. فقال له العالِم: يا ولدي امسح هذا. ففعل. وأملى عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال له: اقرأ هذا. فنظر فيه أحمد وفعل كما فعل أول مرة. فقال الشيخ: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله.
وبما أن والد ابن تيميّة كانت له رئاسة في مشيخة الحديث، فقد اتجه ولده أحمد بعد حفظ القرآن إلى حفظ الحديث وروايته، وسماع أمهات كتب الحديث على المشايخ الكبار، كمسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وجامع التِّرْمِذي، وسنن أبي داود والنَّسائي وابن ماجَه والدار قُطْني، وكان مع دراسته للحديث يدرس الرياضيات وعلوم العربية ولا سيما النحو، عِلاوة على كتب التاريخ.
وكانت دمشق آنذاك ثاني مدينتين استقرّ فيهما العلماء من المشرق والمغرب، وأولاهما القاهرة، وقد استفاد ابن تيمية من بيئة دمشق الثقافية، فنهل من مدارسها الدينية، والتقى علماءها المشهورين، وتعلّم العلوم التي كانت رائجة في عصره، ولم يترك باباً من الأبواب إلاّ أتقنه، حتى قال فيه أحد معاصريه:
” قد ألان الله له العلوم، كما ألان لداود الحديد، كان إذا سئل عن فنّ من العلم ظنّ السامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرف مثله “.
ولما شبّ أحمد عن الطوق، وبلغ الحادية والعشرين من عمره سنة (682 ﮪ) توفي والده، فحل محلّه في التدريس، وأصبح نظيراً لأئمة الحديث الممتازين؛ كابن دقيق العيد وغيره من أئمة ذاك العصر.
بهذه الصفات وتلك المواهب، وذلك العلم الغزير، ألقى ابن تيمية دروسه في الجامع الكبير، فاتجهت إليه الأنظار، وتعلّقت به الأفئدة، وتحوّل كثيرون من المستمعين إلى تلاميذ ومريدين معجبين به متحمسين له، وهو خلال ذلك لا يتوانى عن البحث والاطلاع والاستزادة من المعرفة، وكان ينهج في دروسه النهج الذي يعود بالإسلام إلى عهد الصحابة في عقائده وأصوله وفروعه، وقد رآه المحدّث الكبير ابن دقيق العيد، وكان حجة العصر في الحديث وعلومه، فأبدي إعجابه به، وقال:
” رأيت رجلاً جمع العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريده “.
من محنة .. إلى محنة
كان الهدف الأكبر لابن تيمية هو إعادة الإسلام إلى عهده الأول، وإزالة ما علق به من غبار البدع، لذلك كان الناس إزاءه فريقين: فريق معجب موافق، وآخر مقاوم مخالف؛ وهذا هو شأن المصلحين في كل عصر ومجتمع، وقد جرّت عليه صلابته في مواقفه كثيراً من المحن، وألواناً من الاضطهاد.
إن ابن تيمية وقف بحزم في وجه كل خروج على الشريعة، وكان متشدداً في هذا الباب، كما أنه حارب البدع بقوة، فسار- ومعه جماعات من الناس- إلى مسجد النارَنْج، وكان عند هذا المسجد صخرة قائمة في نهر قلوط (قليط) بدمشق، وكان العامة يزورونها، وينذرون لها النذور، فقطعها وفتّتها، لأنه رأى أن زيارتها من صور الإشراك بالله، وشن في الوقت نفسه حملات شعواء على مغالاة الصوفية، الأمر الذي زاد من أعدائه وحسّاده.
وأرسل إليه أهل مدينة حماه السورية يسألونه عن الصفات التي وصف الله نفسه بها في القرآن الكريم، فأجابهم ب (الرسالة الحموية)، وفيها خالف الأشاعرة، فتصدّى له المخالفون بالمناقضة، ولكنهم لم يقووا على فصاحة لسانه، فألّبوا عليه جماعة من الفقهاء، واضطهدوا مريديه، وناقشوه في آرائه الواردة في (الرسالة الحموية)، فأجاب عنها بما أسكتهم؛ وجدير بالذكر أن المدرسة الأشعرية الشافعية كانت قد هيمنت على منطقة شرقي المتوسط مع الهيمنة السلجوقية، وقويت في العهد الأيوبي، استمرت مهيمنة في العهد المملوكي.
على أن حسّاد ابن تيمية وأعداءه لم يكفّوا عن الطعن فيه، وإلحاق الأذى به، ولا سيما أنه كان صارماً معهم، حاداً في مناوءتهم، لا يتراخى ولا يهادن، وكان السلطان المملوكي الناصر قلاوون يحكم مصر والشام، فاستطاع منافسو ابن تيمية أن يوغروا صدر السلطان عليه، فاستُدعي إلى القاهرة سنة (705 ﮪ) وكانت الاتهامات قد حيكت له بعناية، وكان القاضي زين الدين بن مخلوف هو الخصم والحكم، وزُجّ بابن تيميّة في السجن، بعد أن عجز خصومه عن تفنيد حججه بالبرهان.
وكانت محنته الثانية على أيدي الصوفية في مصر، إذ كان لهم عند الحكام سلطان كبير، وقد وجدهم ابن تيميّة يأخذون بمذهب الاتحاد، اتحاد الخالق والمخلوق، وذهب متصوّفة آخرون إلى أنهم إذا وصلوا إلى حال من الروحانية، يمكنهم معها الاتصال بالذات الإلهية، ويكونوا في حِلّ من التكليفات الشرعية مثل الصلاة والصيام، فتصدّى لهم ابن تيميّة، وأبطل مزاعمهم بقوة حجته وسلامة منطقة، وثبات جنانه، ورباطة جأشه. فكثر شكوى الصوفية، وتمكنوا من التضييق عليه، فأودعته السلطات السجن، ولم يلبث قليلاً حتى خرج منه بقرار من مجلس للفقهاء والقضاة.
وتكررت محن ابن تيميّة، وتكرر دخوله السجن وخروجه منه، وهو في كل ذلك لا يكلّ ولا يملّ، ولا يتردّد في مجابهة كل من يخلّ بالشرع، ويلصق بالإسلام ما ليس منه، وكانت محنته الأخيرة هي الأدهى والأمرّ، وفيها كانت نهايته.
من مجالس العلم إلى ميادين القتال
جمع ابن تيميّة في شخصه صفات العالم المحقّق، والباحث المبدع، والفقيه الحازم، والداعية البارع، والخطيب البليغ، والمجادل القدير، والأستاذ الجليل، وكان إلى جانب كل هذا مقاتلاً شجاعاً، ومحارباً باسلاً، يحمل القلم بيد والسيف بيد.
ففي سنة (699 ﮪ) هاجم التتار بلاد الشام بقيادة قازان، وكانت قوتهم عاتية، فألحقوا الهزيمة بجند السلطان قلاوون حاكم مصر وبلاد الشام، وصل التتار إلى أبواب دمشق، ودبّ الذعر في النفوس، وفر كثير من العلماء وأعيان المدينة إلى مصر، أما ابن تيمية فبقي في دمشق، وحالت شجاعته بينه وبين الفرار، ومنعته مروءته من أن يترك العامة يواجهون المصير الرهيب وحدهم، وعزّ عليه أن تبقى أمور الرعية فوضى، لا حاكم يردع، ولا نظام يمنع، وأن تصبح مقاليد الأمور بين أيدي أهل الشطارة والدعارة، يسلبون وينهبون.
لقد شمّر ابن تيميّة عن ساعد الجد، فجمع من تبقّى من أعيان المدينة، واتفق معهم على ضبط الأمور، وشكّل وفداً منهم يقوده هو إلى ملك التتار، وانطلق مع الوفد الدمشقي، والتقى قازان ملك التتار، طالباً منه عدم دخوله دمشق، ويقول أحد الذين شاهدوا اللقاء:
” كنت حاضراً مع الشيخ، فجعل يحدّث السلطان بقول الله ورسوله في العدل، ويرفع صوته، ويقرب منه، والسلطان مع ذلك مُقبل عليه، مُصغ لما يقول، شاخصٌ إليه، ولا يُعرض عنه، وإن السلطان- من شدّة ما أوقع الله في قلبه من الهيبة والمحبّة- سأل من هذا الشيخ؟! إني لم أر مثله، ولا أثبتَ قلباً منه، ولا أوقعَ من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه. فأُخبر بحاله وما عليه من العلم والعمل “.
ومما خاطب به الشيخ ابن تيمية ملك التتار عن طريق الترجمان:
” قل لقازان أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذّنون على ما بلغنا، وأبوك وجدّك كانا كافرين، وما عملا الذين عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت، وجُرت “.
وأثمرت المقابلة خيراً وإن كان محدوداً، وأعلن قازان الأمان.
وفي سنة (700ﮪ) انتشرت الأخبار أن التتار سيقصدون الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، ففر الأهالي ثانية، وانبرى الشيخ للخطب مرة أخرى، والتقى الجماهير، وحثّها على الجهاد، ونهاها عن الفرار، وحضّ الأغنياء على إنفاق المال في سبيل الدفاع عن الديار. فتوقّف الناس عن الفرار، وسكن جأشهم.
ولكن عندما بلغ التتار حلب، سرى الذعر مرة أخرى في القلوب، وخاصة عندما انتشر النبأ أن السلطان الناصر قلاوون قفل راجعاً إلى مصر، وتطلّعت الأنظار في ذاك الوقت العصيب إلى الشيخ البطل ابن تيميّة، فخرج إلى جند الشام يحثّهم على القتال، ويدفعهم إلى الميدان، ويعدهم بالنصر، ولم يكتف بذلك، بل سار بنفسه إلى القاهرة، والتقى السلطان، وحثّه على إعداد العدّة للقاء العدو، قائلاً له:
” إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه، ولو قدّر أنكم لستم حكّامه ولا ملوكه، واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنه” ؟!
وما زال ابن تيمية يلحّ على السلطان، ويقوّي عزائم الأمراء، حتى خرج السلطان بجنده إلى بلاد الشام مدافعاً، وكان الذعر قد استولى على سكّان دمشق في غيبة الشيخ، لكن بعودته سرعان ما عاد الاطمئنان إلى القلوب، وكشف الله الغمة بعودة التتار من حيث أتوا.
على أن أطماع التتار في بلاد الشام ومصر ما كانت قد توقّفت، ففي سنة (702ﮪ) زحفت جموعهم إلى دمشق، وأرجف المرجفون، وبلغت القلوب الحناجر، واستعدّت الجيوش المصرية والشامية لملاقاتها، ونشر دعاة التردّد والهزيمة الرعب في قلوب الناس، وهبّ ابن تيميّة يثبّت القلوب، ويعد بالنصر، … حتى إنه كان يقول حالفاً بالله: ” إنكم لمنصورون “، فيقول له بعض الأمراء: قل إن شاء الله! فيقول: أقولها تحقيقاً لا تعليقاً.
وحرّك ابن تيميّة النخوة في النفوس، ثم امتطى صهوة جواده، وخرج إلى ميدان القتال محارباً، فما كان ليقبل أن يدعو إلى الجهاد وينكص على عقبيه، وأن يقول ولا يفعل، وانطلق إلى مرج الصُفَّر قرب دمشق.
وابتدأت الموقعة التي تعرف في التاريخ بموقعة (شَقْحَب)، وتلاقى الجمعان، وخاض العالم الفارس ميادين الموت مقاتلاً، وراح يثبّت القلوب بأقواله وأفعاله، والتقى قبيل القتال بالسلطان قلاوون، فحثه وجنده على الجهاد في سبيل الله، وردّ المعتدين، إذ كان قد بلغه أنه على وشك أن يرجع.
وكان الوقت رمضان، فحثّ الشيخ الجنود وأمراءهم على الإفطار؛ ليكونوا أقوى على القتال، وكان يروي لهم قول النبي محمد للصحابة في غزوة الفتح: ” إنكم ملاقو العدوّ والفطر أقوى لكم“. وما اكتفى بذلك، بل راح يدور على الجنود، ويأكل أمامهم من شيء معه، ليبيّن لهم أن إفطارهم في هذا الموقع ليس خروجاً على أمر الله، بل هو ممارسة للشرع في حقيقته ونقائه.
ووقعت الواقعة، واشتد القتال، وشارك فيه ابن تيمية مقاتلاً، وأبلى هو وأخوه زين الدين في المعركة بلاء حسناً، وصدق أهل الشام وجند مصر القتال، واستمرت الحرب طوال اليوم الرابع من رمضان، حتى إذا حلّ العصر كانت الهزيمة قد حاقت بالتتار، فراحوا يقتحمون التلال والجبال، وجنود الشام ومصر يطاردونهم، وما انبلج الفجر إلا كانت الغمّة قد انكشفت، وكان خطر التتار قد زال.
في ظلام السجن
كان الشيخ ابن تيمية مقاتلاً على جبهتين:
– جبهة الدفاع عن الوطن، ورد التتار المعتدين.
– وجبهة الإصلاح، وتحرير العقول من البدع والجمود.
وكان من الطبيعي أن يصطدم بأصحاب المصالح، ومن لهم نفع في أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وجر عليه نقمة الفقهاء، لأنه أصدر فتاوى لا يرضون عنها، وكانوا الأكثرية، فاستطاعوا أن يحملوا السلطان الناصر على إصدار أمر بمنعه من الإفتاء، وكان ذلك سنة (718 ﮪ).
والتزم الشيخ ذاك الأمر زمناً قليلاً، ثم ما لبث أن عاد إلى الفتيا، إيماناً منه بأنه لا يجوز كتمان العلم؛ إنه امتنع أولاً نزولاً عند نصيحة العلماء، فلما جاء المنع من السلطان علم أنها الدنّية في الدين، فتقدم بالفتيا غير هيّاب ولا وجل.
وترامت إلى أسماع السلطان أنباء عودة الشيخ إلى الفتيا، فلم يقبل أن تردّ أوامره وهو الحاكم، فعاد وأصدر سنة (719 ﮪ) أمراً آخر يؤكد منع الشيخ من الفتيا، وعُقد مجلس ضم الشيخ والقضاة والفقهاء، وأكدوا فيه عليه المنع، على أن الشيخ لم يعط عهداً بالامتناع، واستمر في الإفتاء، لا يخشى في الله لومة لائم ولا عقاب حاكم، ولما تكرّر المنع ولم يمتنع الشيخ، قرروا حبسه في القلعة، فحُبس بأمر نائب السلطنة، وظل محبوساً خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، ثم أفرج عنه سنة (721ﮪ).
وعاد الشيخ إلى دروسه وبحوثه وتصنيفاته، وشرع يمارس حقه في الإفتاء كلما اقتضت الحاجة، بيد أن خصومه لم يكونوا سعداء بأن يكون حراً طليقاً، إنهم كانوا يتربصون به الدوائر، ويتحيّنون الفرص للإيقاع به، والحدّ من نشاطه العلمي، وأخذوا يحصون عليه الهفوات.
حتى إذا كانت سنة (726 ﮪ) وجد الخصوم ضالّتهم المنشودة في فتوى أفتى بها الشيخ منذ سبعة عشر عاماً، منع بموجبها من زيارة القبور، معتمداً فيها نهج السلف، ولما أحكموا التدبير، كاتبوا السلطان في مصر بذلك، فأمر باجتماع القضاة عنده، فنظروا في الفتوى في غياب صاحبها، وحكموا بأن الشيخ حرّف الكلم عن مواضعه، فرأى السلطان حبسه في محبس يليق به.
ووصل الأمر إلى دمشق في السابع من شعبان سنة (726 ﮪ)، وبلغ إلى الشيخ، ونُقل إلى قلعة دمشق، وأخليت له قاعة، وأجري إليها الماء، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان.
وما إن اعتقل الشيخ حتى ظهر الأذى في تلاميذه وأوليائه، فأمر القاضي بحبس جماعة من أصحابه، وعاقب جماعة منهم بإركابهم الدوابّ والمناداة عليهم، ثم أطلقوا من محابسهم، ما عدا تلميذه وحامل لوائه من بعده شمس الدين محمد ابن قَيّم الجَوْزِيّة، فإنه حبس بالقلعة.
وفي الوقت الذي أظهر فيه الخصوم الشماتة، أظهر الشيخ السرور عندما انتقل إلى القلعة، وقال:” أنا كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة “. إنه كان آنذاك قد بلغ الخامسة والستين، وأحسّ بحاجته إلى الهدوء بعد أن بلّغ الدعوة وأدّى الأمانة، إنه في هدأته تلك سيكون أقدر على تدوين آرائه لتتلّقاها الأجيال من بعده وتنتفع بها.
وهكذا انصرف الشيخ إلى العبادة من ناحية، وإلى التأليف من ناحية أخرى، وبين يديه الكتب يراجع فيها وينقّب، فكتب في تفسير القرآن الكريم، وكتب في المسائل التي خالف فيها عدّة مجلدات، ويبدو أن تلك المجلدات والردود كانت تصل إلى الناس، وتذاع بين العلماء، ويدور الحديث بشأنها، كما لو أن صاحبها كان حراً طليقاً.
نفس كريمة
أدرك خصوم ابن تيمية أنهم حبسوا شخصه، لكنهم عجزوا عن أن يحبسوا فكره، فنشطوا للسعي من جديد عند ذوي السلطان، ليمنعوا ذاك النور الذي كان يشرق من ردهات السجن، وأثمرت مساعيهم، ففي سنة (728 ﮪ)، أُخرج ما كان لدى الشيخ من الكتب والأوراق والمحابر والأقلام، ومُنع منعاً باتاً من المطالعة.
وحينذاك فقط بلغ الضيق أقصاه من نفس العالِم المكافح، فهو رجل فكر ودعوة، ولا يهمه أن يلزم بالإقامة هنا أو هناك، ما دامت الفرصة سانحة لأن يمارس ما نذر له نفسه، لكن البلاء هو في أن يعطَّل تفكيره، ويحال بينه وبين الاستمرار في الدعوة. وفي خضم تلك المحنة القاسية كان العالم الحبيس يضطر إلى تدوين بعض آرائه وخواطره، فيكتبها بالفحم على مزق من الورق، وقد جاء في بعضها قوله:
” نحن ولله الحمد في عظيم الجهاد في سبيله، بل جهادنا في هذا مثل جهادنا يوم قازان، والجبلية، والجهمية، والاتحادية، وذلك من أعظم نعم الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون “.
وقد ظل الشيخ عظيماً في نفسه، أيام كان حبيساً، مثلما كان كذلك أيام كان طليقاً، وها هو ذا وزير دمشق يسمع بمرضه، فيستأذن في الدخول عليه لعيادته، فيأذن له، فلما جلس أخذ يعتذر، ويلتمس منه أن يجعله في حِلّ مما وقع منه في حقه من تقصير، فأجابه الشيخ بقوله:
” إني قد أحللتك، وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق، وأحللت السلطان المعظّم الملك الناصر من حبسه إياي، لكونه فعل ذلك ولم يفعله لحظ نفسه، وقد أحللت كل أحد مما بيني وبينه، إلا من كان عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم “.
وتوفي ابن تيمية في الحبس سنة (728 ﮪ)، وما إن علم أهل دمشق بوفاة عالمهم، حتى حزنوا عليه أشد الحزن، وتحسّروا أبلغ التحسّر، فأحاطوا بنعشه، وخرجت دمشق كلها توّدعه، وتشيّعه إلى مثواه الأخير.
فكره .. وآثاره
قيل عن المتنبي: ” ملأ الدنيا، وشغل الناس “.
وإذا كان المتنبي شغل الناس في مجال الشعر، فإن ابن تيمية شغل الناس في عصره وإلى هذا اليوم، إنه شغلهم بشخصه وفكره، وبفتاواه ومواقفه، وما توفي إلا وكان لاسمه دويّ في البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، وكان له تلامذة تخرجوا على دروسه وعلى رسائله، وخلّف طائفة من الكتب والرسائل في عدة أبواب من العلم، بعضها في التفسير، وبعضها في الفقه والأصول، وبعضها في الكلام، وكان بعضها الآخر جدلاً بينه وبين خصومه.
كان ابن تيمية متعدد المواهب والاهتمامات، لقد فكر في السياسة تفكير العالم الذي يهمه أمر الرعية، وجدّد في الفكر الفقهي، وكان الزمن حينذاك زمن الساسة والفقهاء، وخاصم الشيعة، وخاصم السنة سواء أكانوا من الأشاعرة الشافعيين، أم من الصوفية، فأثار الزوابع الفكرية، وخاض الخصومات السياسية والفقهية، ولم يترك من بأيديهم مقاليد الأمور ينعمون بالسلطة والجاه، فلم يتركوه ينعم بالهدوء والاستقرار.
وقد لخّص الشيخ محمد أبو زهرة منهج ابن تيمية في عناصر أربعة:
– أولها أنه لا يثق بالعقل ثقة مطلقة في مقدمات الحكم على العقائد والأحكام من حيث سلامتُها وعدم سلامتها، وخصوصاً في متشابهات الأمور، فجرّه ذلك إلى الصدام مع المتكلّمين (المعتزلة) والفلاسفة.
– وثانيها أنه لا يتبع الرجال على أسمائهم، فليس لأحد عنده مقام إلا الدليل من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، فخرج على الناس بآراء لم يألفوها، فأثار استياءهم، وكان الاستياء يتفاقم فيصبح نقمة.
– وثالثها أنه يرى أن الشريعة أصلها القرآن، وقد فسر النبي القرآن، وتلقّى الصحابة منه التفسير، ونقلوه إلى التابعين، فكان ابن تيمية يرجع في الشرع إلى القرآن والسنة، ويستأنس بأقوال التابعين، ويحتج بها أحياناً، فخالف بذلك آراء كثير من الفقهاء.
– ورابعها أنه كان حر التفكير، لا يتعصب لفكر معيّن، ولا يجمد عليه، وخلع نفسه من كل قيد إلا القرآن والسنة وآثار السلف الصالح، وصحيح أنه نشأ على المذهب الحنبلي، لكنه درس المذاهب الإسلامية جميعها، وتعمّق في فهم المصادر؛ الأمر الذي جعله يخالف المذاهب الأربعة في بعض آرائه.
هذه خلاصة منهجه الفكري.
أما آثاره العلمية فتتمثل في أمرين اثنين:
– مؤلفاته: لقد ترك ابن تيمية مجموعة كبيرة من الكتب والرسائل في عدة أبواب من العلم؛ بعضها في التفسير والعقائد، وبعضها في الفقه والأصول، وبعضها في علم الكلام، وكان بعضها جدلاً بينه وبين خصومه.
– تلامذته: استقطب ابن تيمية عدداً كبيراً من التلامذة، منهم الشاميون ومنهم المصريون، لأنه كان يتنقّل بن مصر وبلاد الشام، وكان بعضهم من الحنابلة، وبعضهم من الشافعية، وكانوا حُماة تركته الفكرية، بل كان ينالهم نصيب من الاضطهاد الذي كان يناله، ولعل أشهرهم هو ابن قيّم الجَوْزيّة.
والحق أن تأثير ابن تيميّة لم يقتصر على عصره بل امتد من أيامه إلى عصرنا هذا، وحسبنا أن نشير هنا إلى أن غالبية دعوات الإصلاح الإسلامية في العصر الحديث إنما استقت من أفكاره، وأفادت من بحوثه، واستضاءت بآرائه واجتهاداته.
– – –
إن سيرة ابن تيمية تذكّرني بسيرة عالم كردي آخر من علماء الكرد، إنه الشيخ العبقري سعيد النورسي الشهير بلقب (بديع الزمان)، وصحيح أن بين الرجلين أكثر من ستة قرون، لكنهما كانا يتشابهان في أمور عديدة هي:
– كان كل منهما من أبناء المنطقة الكردية الواقعة الآن في جنوب شرقي تركيا.
– وكان كل منهما ذكي الفؤاذ، سريع البديهة، قوي الحجة، موسوعي الثقافة، حر الفكر، عميق الرؤية، عنيد الموقف.
– وأمضى كل منهما شطراً كبيراً من عمره في السجون، دفاعاً عن المبدأ، إن سطوة السلطان قلاوون وولاته عجزت عن إسكات صوت ابن تيمية، وأفلح مصطفى كمال أتاتورك وأتباعه في إجبار جميع علماء تركيا على خلع العمامة، إلا النورسي، فإنه ارتضى الحكم بالإعدام، وأبى أن يخلع العمامة.
أليس هذا هو (العقل الكردي) الذي ذكرته ذات مرة؟!
المراجع
الحافظ الذهبي: (محمد بن أحمد ): معجم الشيوخ، تحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة، مكتبة الصديق، الطائف، 1988م.
خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1977م.
الشوكاني (محمد بن علي): البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1978 م.
عبد الرحمن النحلاوي: ابن تيمية، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1986م.
عمر فرّوخ: ابن تيمية المجتهد بين أحكام الفقهاء وحاجات المجتمع، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1991م.
ابن القاضي (أحمد بن محمد المكناسي): درّة الحجال في أسماء الرجال، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة، المكتبة العتيقة، تونس، 1970م.
الشيخ كامل محمد محمد عوَيضة: أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية شيخ الإسلام، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1992م.
الإمام محمد أبو زهرة: ابن تيمية (حياته وعصره، آراؤه وفقهه)، دار الفكر العربي، القاهرة، 1977م.
محمد شاكر الكتبي: فوات الوفيات والذيل عليها، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1973م.
محمد يوسف مرسي: ابن تيمية، العصر الحديث للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1988م.
مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي: الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، تحقيق وتعليق نجم عبد الرحمن خلف، دار الفرقان للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م.
وإلى اللقاء في الحلقة السابعة والعشرين.
د. أحمد الخليل في 17-10-2006
[1]