مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الثانية والثلاثون ) القاضي كمال الدين الشهرزوري (رجل المهمات الصعبة) (ت 572 ﮪ / 1176 م)
د. أحمد الخليل
الواقعية أولاً
المنعطفات الكبرى
أما المنعطف الأول فكان مع الفتوحات الإسلامية، وكان الكرد حينذاك تابعين للإمبراطورية الفارسية، ولم يكونوا يمتلكون القرار السياسي، وكانت قدراتهم قد شُلّت، وسُحب منهم حق الإسهام في تشييد صرح الحضارة البشرية، وعندما حاقت الهزيمة بالمؤسسة الإمبراطورية الساسانية كان من الطبيعي أن يجد الكرد أنفسهم تحت لواء الدولة الحاكمة الجديدة، أقصد الدولة العربية الإسلامية.
وأما المنعطف الثاني فكان مع العهد العباسي، وهنا برز دور بعض الأسر الكردية الرفيعة الشأن، ومن يقرأ أحداث الثورة العباسية، وتاريخ نشوء الخلافة العباسية بعدئذ، لا بد أن يلاحظ دور الأسرة البرمكية الكردية في نجاح الثورة وقيام الخلافة العباسية من ناحية، وفي صناعة الفترة التي عُرفت في كتب التاريخ باسم (العصر العباسي العباسي الذهبي) من ناحية ثانية.
وأما المنعطف الثالث فكان مع نهضة شعوب شرقي المتوسط- عرباً وكرداً وتركاً بشكل رئيسي- لمقاومة الغزو الفرنجي، ولتحرير الأرض بدءاً من الرُّها (أورفا) الكردية شرقاً وشمالاً إلى دِمياط المصرية جنوباً وغرباً، ولا يمكن ها هنا تغييب دور الكرد الأيوبيين في العهد الزنكي، ودور الجماهير الكردية عامة في العهد الأيوبي، وفي العهد المملوكي بشقيه: التركي والشركسي.
وأما المنعطف الرابع والأخير فكان مع بدايات القرن العشرين، ولا يمكن إغفال دور الزعماء الكرد والجماهير الكردية في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا، ومقاومة الاحتلال الإنكليزي للعراق، ومقاومة الاحتلال اليوناني والطلياني للمدن التركية، مثل أزمير وغيرها، بل إن الزعيم التركي مصطفى كمال (آتاتورك) اتخذ الأناضول الشرقية (المنطقة الكردية في تركيا) قاعدة لانطلاقة المقاومة، وكان وقع حوافر خيول الفرسان الكرد أول ما سمع في شوارع إزمير لطرد الجيش اليوناني.
وفي المنعطفات الثلاثة الأخيرة لا يمكن إغفال دور المثقفين الكرد – أدباء وعلماء ومفكرين ورجال دين- في العمل المخلص للارتقاء بمجتمعات شرقي المتوسط علمياً واجتماعياً، ونقف في هذه الحلقة عند أحد أولئك المثقفين الكرد الكبار؛ إنه الإمام القاضي كمال الدين الشهرزوري.
فماذا عن حياته وشخصيته؟
وماذا عن إنجازاته الشرق متوسطية؟
الرجل… والهوية
مر في الحلقة السابقة (أسد الدين شيركوه) أن قاعدة الدولة التركمانية الزنكية كانت في بلاد الكرد، بدءاً من منطقة شهرزور (سليمانية الآن) شرقاً إلى الرُّها (أورفا) غرباً. ومرّ أيضاً أن قوة الزنكيين كانت مستمدة، إلى حدّ كبير، من موارد بلاد الكرد اقتصادياً وبشرياً، ومن موقعها جيوسياسياً. وذكرنا أهمية القوة القتالية للفرسان الكرد وللقادة الكرد في توسيع حدود الدولة الزنكية، وفي الانتصارات التي حققها الزنكيون على الفرنج، سواء أكانت تلك الانتصارات في عهد عماد الدين أم في عهد ابنه نور الدين محمود.
ويبدو أن صليل السيوف يطغى على صرير الأقلام، لكن لولا الاقلام لما استطاعت السيوف وحدها إنجاز الانتصارات، وتأسيس الممالك، وإنتاج الحضارات، وأذكر في هذا الصدد أن جماعة من الضباط الكبار في عهد السلطان صلاح الدين انتقصوا مستشاره الخاص الأديب القاضي الفاضل، وهو من فلسطين، وحطّوا من شأنه، فغضب صلاح الدين، وقال لهم: أتظنون أني فتحت البلاد بسيوفكم؟! إني فتحتها بقلم القاضي الفاضل.
وما صحّ في القاضي الفاضل يصح في القاضي كمال الدين الشهرزوري، فهو لم يكن مجرد قاض يفصل بين الناس في قضاياهم، ويحكم لهذا على ذاك، وإنما كان من كبار المثقفين في عصره، كما أنه كان من كبار رجال السياسة، وهاهنا تحديداً – أقصد الجمع بين الثقافة والنشاط السياسي – تكمن أهمية الدور الذي قام به هذا الرجل في عصره لصالح مجتمعات شرقي المتوسط.
وأفضل من كتب ترجمة القاضي كمال الدين هو مواطنه القاضي ابن خلّكان في كتابه (وفيات الأعيان)، لأنه قريب من كمال الدين في ثلاثة أمور:
أولاً لأنه ابن أربيل المتاخمة لمنطقة شهرزور.
وثانياً لأنه كردي مثل القاضي كمال الدين.
وثالثاً لأنه ابن مهنة القضاء التي ينتمي إليها كمال الدين.
وقد ذكر ابن خلكان في (وفيات الأعيان، 4/241) أن كمال الدين هو الفقيه الشافعي أبو الفضل محمد بن أبي محمد عبد الله بن أبي أحمد القاسم الشهرزوري، الملقب كمال الدين، وكانت ولادته بالموصل سنة (492 ﮪ / 1099 م)، ولن أتحدّث عن (شهرزور)، فقد فصّلت فيها القول خلال الحلقة الخاصة بشيخ الإسلام (ابن الصلاح الشهرزوري) ضمن هذه السلسلة، وأفضّل أن يعود إليها من لم يقرأ تلك الحلقة.
وينتمي القاضي كمال الدين إلى أسرة عريقة في العلم والقضاء؛ تعرف باسم (أسرة الشهرزوري)، وقد بدأت شهرة الأسرة بالانتشار بدءاً من الجد الأكبر، قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 4/68) يتحدّث عن الجد:
” أبو أحمد القاسم بن المظفر بن علي بن القاسم الشهرزوري، والد قاضي الخافقين أبي بكر محمد والمرتضى أبي محمد عبد الله وأبي منصور المظفر، وهو جد بيت الشهرزوري قضاة الشام والموصل والجزيرة، وكلهم إليه ينتسبون، كان حاكماً بمدينة إربل مدة ومدينة سنجار مدة، وكان من أولاده وحفدته علماء نجباء كرماء، نالوا المراتب العلمية، وتقدّموا عند الملوك، وتحكّموا وقضَوا، ونفقت أسواقهم، خصوصاً حفيده القاضي كمال الدين محمد، …“.
وقد تفقه كمال الدين على علماء بغداد، وسمع الحديث من أبي البركات محمد بن محمد بن خميس الموصلي، ثم تولّى القضاء بالموصل، وبنى فيها مدرسة للشافعية، كما بنى رباطاً بالمدينة المنوّرة.
تحوّلات دراماتيكية
وكانت الموصل وتوابعها – ومعظمها مناطق كردية- عاصمة الدولة الزنكية في طور نشأتها، لذا كان من الطبيعي أن يكون كمال الدين من الموظفين في تلك الدولة، ويبدو أنه، ومنذ بداية حياته- لم يكن من المغمورين، وإنما كان له شأن في عهد الملك الزنكي عماد الدين؛ ودليل ذلك أنه كان مع أخيه تاج الدين أبي طاهر يحيى في عسكر عماد الدين على قلعة جَعْبَر (في شمالي سوريا)، حينما قُتل هذا الأخير سنة (541 ﮪ/1146 م) ، ولما رجع العسكر إلى الموصل كانا في صحبته.
وقال ابن خلكان في (وفيات الأعيان، 4/241 – 242):
” ولما تولّى سيف الدين غازي ولد عماد الدين… فوّض الأمور كلها إلى القاضي كمال الدين وأخيه بالموصل وجميع مملكته، ثم إنه قبض عليهما في سنة اثنتين وأربعين، واعتقلهما بقلعة الموصل، وأحضر نجم الدين أبا علي الحسن بن بهاء الدين أبي الحسن علي، وهو ابن عم كمال الدين، وكان قاضي الرحبة، وولاه القضاء بالموصل وديار ربيعة عوضاً عن كمال الدين، ثم إن الخليفة المقتفي سيّر رسولاً، وشفع في كمال الدين وأخيه، فأخرجا من الاعتقال، وقعدا في بيوتهما وعليهما الترسيم [الإقامة الجبرية]، وحُبس بالقلعة جلال الدين أبو أحمد ولد كمال الدين، وضياء الدين أبو الفضائل القاسم تاج الدين “.
ولنا أن نستنبط من هذا القول أمرين:
الأول أن كمال الدين كان معروفاً، وكانت له مكانة مرموقة، حتى إن الخليفة العباسي في بغداد- وهو أعلى مرجعية دينية وأدبية في العالم الإسلامي حينذاك- يتدخّل للإفراج عنه.
والثاني أن مكانة كمال الدين كانت مرتفعة في بداية عهد سيف الدين غازي، لكن ما لبث أن خسر تلك المكانة، وانتهى به الأمر إلى الاعتقال فالسجن، ولم يذكر ابن خلكان سبب هذا التحوّل الدراماتيكي، لكن الأرجح أن له علاقة ما بالصراع المرير الذي دار على السلطة بين أبناء عماد الدين؛ إذ المشهور أنهم صاروا فريقين: الفريق الأول يضم سيف الدين غازي وقطب الدين مودود. والفريق الثاني يضم نور الدين محمود ونصرة الدين أمير أميران.
وكان الكرد يشكّلون قوة لها وزنها في دولة عماد الدين، سواء أكان ذلك على الصعيد العسكري أم على الصعيد الجيوسياسي، ويبدو أن الكرد انقسموا إلى فريقين أيضاً؛ فريق مع سيف الدين، وفريق مع نور الدين. وعلمنا فيما مرّ أن القوة الكردية الأكثر وزناً كانت تتألف من الأيوبيين وأنصارهم، وهم الذين حسموا الخلاف عندما وقفوا إلى جانب نور الدين، وأوصلوه إلى سدّة الملك، وليس من المستبعد، بل الأرجح أن كمال الدين كان من الذين يميلون ضمناً إلى الفريق الأيوبي، ومن ثم إلى جانب نور الدين محمود.
ولا نبني هذه الأرجحية على الظنون، وإنما تفيد الأخبار أن الترسيم رُفع عن كل من كمال الدين وأخيه بعد موت سيف الدين غازي، فالتحقا ببطانة قطب الدين مودود بن زنكي الذي حلّ محلّ أخيه سيف الدين. وفي سنة (550 ﮪ) انتقل القاضي كمال الدين إلى خدمة نور الدين، وأقام بدمشق مدة، وتولى فيها القضاء سنة (555 ﮪ)، قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 4/242):
” واستناب ولده وأولاد أخيه ببلاد الشام، وترقّى إلى درجة الوزارة، وحكم في بلاد الشام الإسلامية في ذلك الوقت، واستناب ولده القاضي محيي الدين في الحكم بمدينة حلب، ولم يكن شيء من أمور الدولة يخرج عنه، … “.
وهل كان من الممكن أن يجد كمال الدين هذه الحظوة عند نور الدين لو كان من أنصار الفريق المعارض؟ بل ألا تبدو هذه الحظوة وكأنها نوع من المكافأة والتقدير والاستقطاب لكمال الدين؟
مهمات صعبة
حقاً كان القاضي كمال الدين رجل المهمات الصعبة، ولا سيما على صعيد العلاقات الخارجية للدولة الزنكية، وفي الأوقات الحرجة التي كانت تمر بها الدولة وشرقي المتوسط عامة، وكان هذا دأبه في عهد كل من الملك عماد الدين وعهد ابنه السلطان نور الدين، ولو استخدمنا المصطلحات السياسية السائدة في عصرنا هذا لقلنا: إنه كان يقوم بمهامّ وزير الخارجية في الدولة الزنكية.
فبعد أن بسط عماد الدين سيطرته على المناطق الكردية توجّه إلى شمالي سوريا فسيطر عليها، واتخذ حلب قاعدة له، وبما أن البلاد التي حكمها كانت خط المواجهة ضد الفرنج، قرر بسط نفوذه على جنوبي سوريا، ولا سيما مدينة دمشق، وكان حاكم دمشق جمال الدين محمد بن بُوري بن طِغْدكين، وهو من التركمان السلاجقة، لكن السلطة الحقيقية كانت في يد مملوك لهم يدعى معين الدين أنر، وكان جمال الدين عاجزاً عن مواجهة الفرنج، ونرى أن القاضي كمال الدين كان عنصراً فاعلاً في تنفيذ خطة عماد الدين، فقد أوكل إليه، في سنة (534 ﮪ)، مهمة استمالة سكان دمشق إلى صفوف الزنكيين، ونجح كمال الدين في ذلك، لكن عماد الدين غيّر خطّته بعد ذلك؛ قال ابن الأثير في (الباهر في أخبار الدولة الأتابكية، ص 58):
” وكان أتابك [عماد الدين] قد أمر كمال الدين أبا الفضل بن الشهرزوري بمكاتبة جماعة من مقدّمي أحداثها وزناطرتها [صعاليكها]، واستمالتهم وإطماعهم في الرغائب والصلات، ففعل ذلك، فأجابه منهم خلق كثير إلى تسليم البلد، وخرجوا متفرقين إلى كمال الدين، وجدّد عليهم العهود، وتواعدوا يوماً يزحف فيه الشهيد [عماد الدين] إلى البلد ليفتحوا له الباب، ويسلّموا البلد إليه، فأعلم كمال الدين أتابك بذلك، فقال: لا أرى هذا رأياً، فإن البلد ضيق الطرق والشوارع، متى دخل العسكر إليه لا يتمكّنون من الفتل فيه لضيقه… “.
وذكر ابن الأثير في (الباهر، ص 62)، أنه في سنة (534 ﮪ) سار عماد الدين إلى بلاد الفرنج وأغار عليها، وجمع الفرنج قواهم، ودارت معركة ضارية بين الفريقين قرب حصن بارين (بين حمص والساحل السوري)، انتصر فيها عماد الدين، وفتح حصن بارين، فاستنجد الفرنج بالروم وبالفرنج في أوربا، فاجتمعت قوى الفرنج والروم لاسترداد حصن بارين، ومهاجمة البلاد التي في يد عماد الدين، فنازلوا مدينة حلب وحاصروها، وهم في جمع لم يشاهد الناس مثله كثرة، وهم مع ذلك موتورون، فلم ير عماد الدين أن يخاطر بالمسلمين ويلقاهم، فانحاز عنهم، ونزل قريباً منهم يمنع عنهم الميرة، ويحفظ أطراف البلاد من انتشار الفرنج والروم فيها والإغارة عليها.
وبطبيعة الحال كان الموقف صعباً، فإن سيطرة الفرنج والروم على حلب كان يعني توجيه ضربة قاصمة إلى واحدة من أهم المراكز الحربية والاقتصادية في مملكة عماد الدين، هذا عدا أن حلب كانت مدخل بلاد الشام إلى العراق مركز الخلافة، واتضح لعماد الدين أنه غير قادر بمفرده على صدّ الهجوم الفرنجي، ولا بد من الاستعانة بالسلطان السلجوقي مسعود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي في بغداد، واختار القاضي كمال الدين لتنفيذ تلك المهمة.
على أن القاضي كمال الدين نبّه عماد الدين إلى وجه الخطر في طلبه النجدة من السلطان مسعود، وقال (ابن الأثير: الباهر، ص 62):
” قلت للشهيد لما أرسلني: أخاف أن تخرج البلاد من أيدينا، ويجعل السلطان هذا حجة، وينفذ العساكر، فإذا توسطوا البلاد ملكوها. فقال الشهيد: إن هذا العدو قد طمع في البلاد، وإن أُخذ حلب لم يبق بالشام إسلام، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفّار“.
والحقيقة أن كمال الدين كان مصيباً في رأيه، فإن عماد الدين كان أحد رجال البيت السلجوقي الحاكم، وكان تابعاًُ لهم ويأتمر بأوامرهم، وها هو ذا قد أنشأ دولة تمتد من شهرزور شرقاً إلى ضواحي دمشق غرباً، وأصبح منافساً لسادته، هذا عدا أن بلاده كانت متاخمة للبلاد التي كان يسيطر عليها الفرنج، وقد اضطرّه موقعه إلى أن يرفع لواء الجهاد ضدهم، ويكسب من ثَمّ تأييد الجماهير في شرقي المتوسط، ففاقت شهرته شهرة أسياده في العراق وبلاد فارس؛ لذا كان الحكام السلاجقة يتحيّنون الفرص لتقليم أظافره وإعادته إلى التبعية لهم، بلى كان كمال الدين يدرك هذا كله، لكن أمام إصرار عماد الدين لم يبق أمامه سوى تنفيذ المهمة، فتوجه إلى بغداد، وقال في ذلك (ابن الأثير: الباهر، ص 62 – 63):
” فلما وصلت إلى بغداد، وأديت الرسالة، وعدني السلطان بإنفاذ العساكر، ثم أهمل ذلك، ولم يتحرك فيه بشيء، وكتب الشهيد متصلة إليّ يحثني على المبادرة بإنفاذ العساكر، وأنا أخاطب ولا أُزاد على الوعد “.
إذاً ما العمل إزاء تردّد السلطان مسعود وتقاعسه؟
وكيف يحمله كمال الدين على إرسال النجدة المطلوبة؟
ها هنا تفتّق دهاء القاضي عن خطّة بارعة، تتمثّل في إثارة جماهير العامة – ولا سيما الرَّعاع منهم- في بغداد، وتحويلهم إلى قوة ضاغطة على أصحاب القرار السياسي، فينتزع منهم النجدة التي قدم للحصول عليها، وقال موضّحاً خطته (ابن الأثير: الباهر، ص 62 – 63):
” فلما رأيت قلة اهتمام السلطان بهذا الأمر العظيم، أحضرت فلاناً- وهو فقيه وكان ينوب عنه في القضاء، … فقلت له: خذ هذه الدنانير وفرّقها في جماعة من أوباش بغداد الأعاجم [يسمّيهم ابن الأثير نفسه في كتابه الكامل في التاريخ، 1/58 – 59 باسم رنود العجم، ولعل المقصود: جماعات الشغب]، وإذا كان يوم الجمعة، وصعد الخطيب المنبر بجامع القصر، قاموا وأنت معهم، واستغاثوا بصوت واحد، وا إسلاماه! وا دين محمداه! ويخرجون من الجامع ويقصدون دار السلطان مستغيثين، ثم وضعت إنساناً آخر يفعل مثل ذلك في جامع السلطان “.
إذاً أحكم القاضي كمال الدين خطته، مستغلاً في ذلك انجذاب الناس العامة إلى داعي الجهاد، ووقوفهم إلى جانب كل من يدعو إليه، وسخطهم على كل من يتقاعس عنه، وشرح كمال الدين ما حصل قائلاً (ابن الأثير: الباهر، ص 62 – 63):
” فلما كانت الجمعة، وصعد الخطيب المنبر، قام ذلك الفقيه، وشق ثوبه، وألقى عمامته عن رأسه، وصاح، وتبعه أولئك النفر بالصياح والبكاء، فلم يبق بالجامع إلا من قام يبكي، وبطلت الجمعة، وسار الناس كلهم إلى دار السلطان، وقد فعل أولئك الذين بجامع السلطان مثلهم، واجتمع أهل بغداد وكل من بالعسكر قاطبة عند دار السلطان يبكون ويصرخون ويستغيثون، وخرج الأمر عن الضبط، وخاف السلطان في داره، وقال: ما الخبر؟ فقيل له: إن الناس قد ثاروا حيث لم ترسل العساكر إلى الغزاة. فقال: أحضروا ابن الشهرزوري”.
لقد أدرك السلطان مسعود أن القاضي كمال الدين هو وراء تحريك الجماهير، وأنه ما لم يرسل النجدة فإن نتائج ثورة العامة في بغداد ستتفاقم، وقد تنتشر إلى المدن الكبرى الأخرى، وقد يخرج الأمر من يديه، قال القاضي كمال الدين (ابن الأثير: الباهر، ص 62 – 63):
” فحضرت عنده وأنا خائف منه. فلما دخلت عليه قال: يا قاضي، ما هذه الفتنة؟ فقلت: إن الناس قد فعلوا هذا خوفاً من القتل والشرك، ولا شك أن السلطان ما يعلم كم بينه وبين العدو، إنما بينكم نحو أسبوع، وإن أخذوا حلب انحدروا إليك من الفرات وفي البر، وليس بينكم بلد يمنعهم عن بغداد، وعظّمت الأمر عليه حتى جعلته كأنه ينظر إليهم”.
إذاً لم يكتف القاضي كمال الدين باستثارة العامة على السلطان وبطانته، وإنما راح يؤثر على السلطان نفسه بصورة مباشرة، موضحاً له خطورة استمراره في التقاعس عن الوقوف مع عماد الدين ضد الهجوم الفرنجي، وأن مركزه في بغداد ليس بعيداً عن خط الدفاع الأول في حلب، وأن سلطنته نفسها واقعة تحت التهديد الفرنجي، وقد أثمرت جهود القاضي، وقال في ذلك (ابن الأثير: الباهر، ص 62 – 63):
” فقال [السلطان مسعود]: اردد هؤلاء العامة عنا، وخذ من العساكر ما شئت وسر بهم والأمداد تلحقك. قال: فخرجت إلى العامة ومن انضم إليهم وعرّفتهم الحال، وأمرتهم بالعود، فعادوا وتفرّقوا. وانتخبت من عسكره عشرين ألف فارس، وكتبت إلى الشهيد أعرّفه الخبر، وأنه لم يبق غير المسير، وأجدّد استئذانه في ذلك. فأمر بتسييرهم والحث على ذلك، فعبرت العساكر إلى الجانب الغرب “.
ويبدو أن عماد الدين كان قد تنبّه بدوره إلى خطر وجود قوة سلجوقية منافسة له في بلاده، وأن السلطان مسعود قد يتخذ موضوع الجهاد ذريعة لبسط سيطرته على بلاد الشام، فأرسل رسولاً إلى القاضي كمال الدين، يخبره أن الروم والفرنج قد رحلوا عن حلب، ويأمره بعدم الحاجة إلى قوات السلطان مسعود، وليس من المستبعد أن جواسيس الفرنج هم الذين أنهوا إليهم خبر قدوم الجيش السلجوقي من العراق، فرأوا أنه لا طاقة لهم بملاقاة الجيشين الزنكي والسلجوقي، فآثروا الانسحاب.
لكن الموقف الجديد الذي اتخذه عماد الدين لم تجعل جهود القاضي المضنية تذهب عبثاً فقط، بل زجّت به في موقف أكثر صعوبة، فهو بعد أن أثار العامة على السلطان مسعود، وضيّق عليه الخناق، وجعله يوافق على تزويده بقوة قتالية تشارك في الدفاع ضد الهجوم الرومي الفرنجي، كيف يمكنه أن يطالب بعكس ما ألحّ عليه سابقاً؟ وماذا سيقول للناس الذين حرّضهم على الثورة؟ دعونا نقرأ ما قاله كمال الدين حول معالجة الوضع الجديد (ابن الأثير: الباهر، ص 62 – 63):
” فلما خوطب السلطان في ذلك أصرّ على إنفاذ العساكر إلى الجهاد، وقصد بلاد الفرنج، وأخذها منه، وإزاحتهم عنها، وكان قصده بذلك أن تطأ عساكره البلاد بهذه الحجة فيملكها… فلم أزل أتوصل مع الوزير وأكابر الدولة، حتى أعدت العساكر إلى الجانب الشرقي، وسرت إلى الشهيد “.
وهكذا فقد أفلح القاضي كمال الدين في تنفيذ سياسة عماد الدين، وإنقاذ مملكته من قبضة السلطان مسعود، وعلق ابن الأثير على هذا الموقف قائلاً وهو يبدي إعجابه الشديد بحنكة القاضي في التعامل مع المهمات الصعبة (ابن الأثير: الباهر، ص 63):
” فانظر إلى هذا الرجل الذي هو خير من عشرة آلاف فارس. رحم الله الشهيد [عماد الدين]، فلقد كان ذا همة عالية، ورغبة في الرجال ذوي الرأي والعقل، يرغّبهم ويخطبهم من البلاد، ويوفّر لهم العطاء، حكى لي والدي، قال: قيل للشهيد: إن هذا كمال الدين يحصل له كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية، وغيره يقنع منك بخمسمئة دينار. فقال لهم: بهذا العقل والرأي تدبّرون دولتي؟! إن كمال الدين يقلّ له هذا القدر، وغيره يكثر له خمسمئة دينار، فإن شغلاً واحداً يقوم فيه كمال الدين خير من مئة ألف. وكان كما قال رضي الله عنه “.
في عهد نور الدين
في عهد نور الدين زنكي تولّى القاضي كمال الدين قضاء دمشق سنة (555 ﮪ)، غير أن عمله لم يقتصر على أمور القضاء، وإنما أهّلته خبرته في العلاقات الخارجية خلال عهد عماد الدين لأن يستمر في المجال نفسه خلال عهد نور الدين.
ومن أولى إنجازاته الداخلية في هذا المجال أنه راح ينصح كمال الدين بما يحفظ للدولة الزنكية قوّتها، ويبصّره بما يمكن أن يكون سبباً في ضعفها، ومن ذلك أنه لما امتلك نور الدين الموصل خلعها على سيف الدين ابن أخيه قطب الدين مودود، وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين، فنبّهه القاضي كمال الدين إلى وجه الخطأ في ذلك. قال ابن الأثير في (الكامل في التاريخ، 11/364 – 365)، وهو يسرد أحداث سنة (566 ﮪ):
“ فلما فعل ذلك قال كمال الدين بن الشهرزوري: هذا طريق إلى أذًى يحصل لبيت أتابك، لأن عماد الدين كبير، لا يرى طاعة سيف الدين، وسيف الدين هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين، فيحصل الخُلْف، ويطمع الأعداء، فكان كذلك على ما سنذكر سنة سبعين وخمسمائة “.
ومن إنجازاته الخارجية أنه كانت له اليد الطولى في إقناع ديوان الخلافة بتسليم مقاليد السلطة إلى نور الدين بعد مقتل والده عماد الدين، وكانت الخلافة هي المرجعية الشرعية والدستورية في العالم الإسلامي حينذاك، وكان اعتراف دار الخلافة بالحكّام والملوك والسلاطين أمراً لا بد منه، وإلا فإن سلطة الحاكم لا تكون شرعية، بل يعدّ خارجاً على الشرع؛ لذا كان على نور الدين زنكي أن يحصل على مرسوم صادر من الخليفة، فلم يجد من يقوم بهذه المهمة أفضل من كمال الدين، فأرسله سنة (568 ﮪ) إلى الخليفة، قال ابن الأثير في (الباهر، ص 54، 63)، وانظر (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 11/395):
” وحمّله رسالة مضمونها الخدمة للديوان، وما هو عليه من جهاد الكفّار [الفرنج]، وفتح بلادهم، ويطلب تقليداً [مرسوماً] بما بيده من البلاد؛ مصر والشام والجزيرة والموصل، وبما في طاعته كديار بكر، وما يجاور ذلك، … فأُكرم كمال الدين إكراماً لم يُكرَم به رسول مثله، وأجيب إلى ما التمسه “.
وكان القاضي كمال الدين هو رسول نور الدين إلى الخليفة المقتفي، كما أن الخليفة المقتفي اتخذه رسولاً للإصلاح بين نور الدين وقلج أرسلان بن مسعود صاحب الروم. وذكر أبو شامة في (عيون الروضتين، 1/328) أنه في سنة (568 ﮪ) انتصر مليح بن لاون زعيم الأرمن- وكان مخاصماً للروم متحالفاً مع نور الدين- على الروم، وأسر منهم ثلاثين أسيراً، ووجّههم إلى نور الدين، فأرسل نور الدين القاضي كمال الدين إلى الخليفة المستضيء بأمر الله، ومعه هدايا وأسرى، وكتب معه كتاباً يشرح فيه هزيمة الفرنج، وما فتحه من البلاد.
ولما توفي السلطان نور الدين زنكي سنة (569 ﮪ)، وتولّى صلاح الدين الأيوبي السلطنة، ودخل دمشق، وضمّها إلى مملكته، أقرّ القاضي كمال الدين على المناصب التي كانت موكولة إليه.
خصال رفيعة
إن سيرة القاضي كمال الدين، والمهمات السياسية الصعبة التي قام بها خير قيام، لا تدع مجالاً للشك في أن الرجل قد جمع في شخصه بين خصائص المثقف القدير والسياسي الحكيم، وأنه كان يتميّز بقدرات ومؤهّلات رفيعة، وإلا لما بقي محتفظاً بمكانته المرموقة خلال عهود ثلاثة؛ عهد عماد الدين، وعهد نور الدين، وعهد صلاح الدين، وقد أجمل ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 2/242 – 243) وصف شخصية القاضي كمال الدين قائلاً:
” وكان فقيهاً أديباً شاعراً كاتباً ظريفاً فكه المجالسة، يتكلم في الخلاف والأصولين كلاماً حسناً، وكان شهماً جسوراً كثير الصدقة والمعروف، وقف أوقافاً كثيرة بالموصل ونصيبين ودمشق، وكان عظيم الرياسة خبيراً بتدبير الملك، لم يكن في بيته مثله، ولا نال أحد منهم ما ناله من المناصب مع كثرة رؤساء بيته، وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وله نظم جيد…”.
ووصفه ابن القلانسي في (تاريخ دمشق، ص 548) قائلاً:
” وولي قضاء دمشق القاضي الأجل الإمام كمال الدين بن الشهرزوري، وهو المشهور بالتقدم، ووفور العلم، وصفاء الفهم، والمعرفة بقوانين الأحكام، وشروط استعمال الإنصاف، والعدل، والنزاهة عن الإسفاف، وتجنّب الهوى والظلم، وحكم بين الرعايا بأحسن أفصال الحكم، …”.
وكان القاضي كمال الدين مهتماً بالعلماء، حريصاً على إنزالهم منازلهم التي تليق بهم، وذكر أبو شامة في (عيون الروضتين، 1/283) أن العماد الكاتب الأصفهاني قدم دمشق في سنة (562 ﮪ)، فأنزله القاضي كمال الدين الشهرزوري بالمدرسة النورية بباب الفرج، وهي المعروفة بالعمادية نسبة إلى العماد الكاتب هذا، وذكر لنور الدين حاله، وعرّفه به، وعرض عليه قصيدة له في مدحه. ولا ريب أن هذا التقديم كان مدخل العماد الأصفهاني من بعد للارتقاء في دولة نور الدين، وبصور أكبر في دولة صلاح الدين الأيوبي.
وكان القاضي كمال الدين جريئاً على قول الحق، وذكر ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 5/201) أنه حينما دخل السلطان السلجوقي مسعود بغداد أرسل عماد الدين القاضي كمال الدين من الموصل برسالة إليه، فوقف القاضي يوماً على باب خيمة الوزير حتى قارب المغرب، ولم يتمكن من مقابلته، فعاد والتقى في طريقه بفقيه في خيمة فنزل وصلّى معه المغرب، وسأله كمال الدين: من أين هو؟ فقال أنا قاضي مدينة كذا. فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وهو أنا وأنت، وقاض في الجنة، وهو من لا يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم. فلما كان من الغد أرسل السلطان مسعود وأحضر كمال الدين، فلما دخل ورآه السلطان ضحك، وقال: القضاة ثلاثة. فقال كمال الدين: نعم يا مولاي. فقال: والله صدقت، ما أسعد من لا يرانا ولا نراه! ثم أمر به فقضيت حاجته، وأعاده من يومه.
وتوفي القاضي كمال الدين سنة (572 ﮪ) بدمشق، ودفن بجبل قاسيون.
المراجع
ابن الأثير:
– التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة، القاهرة، مكتبة المثنى، بغداد، 1963 م.
– الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م.
الأسنوي (جمال الدين عبد الرحيم ت 772): طبقات الشافعية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1987 م.
ابن خلكان: وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1969 م.
خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1977 م.
أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق أحمد البيسومي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.
ابن القلانسي: تاريخ دمشق، تحقيق الدكتور سهيل زكّار، دار حسّان للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1983 م.
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والثلاثين.
د. أحمد الخليل في 16-01-2007
[1]