سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ ( الحلقة 5) الكرد في الذاكرة العربية قبل الإسلام
د. أحمد الخليل
حفريات ونتائج
في الحلقة الرابعة ناقشنا السؤال (هل الكرد من أصل عربي؟)، وأوصلتنا المعلومات التاريخية إلى أن الكرد ليسو من أصل عربي، وإنما هم شعب آري (هندو أوربي)، له خصوصيته الإثنية مثل باقي شعوب العالم، واقترحنا حينذاك أن نجعل السؤال كالآتي: (هل هناك جذور إثنية وثقافية مشتركة بين العرب والكرد؟)، وجدير بالانتباه إلى أن الفضاء التاريخي الذي كنا نتحرك فيه للإجابة عن السؤال الأول (هل الكرد من أصل عربي؟) لا يتجاوز أربعة عشر قرناً من الزمان، أي منذ ظهور الإسلام في بداية القرن السابع الميلادي.
أما للإجابة عن السؤال الثاني فلا بد لنا من الانتقال بالبحث والتنقيب إلى فضاء تاريخي أرحب، وإلى مواقع أكثر غموضاً في تاريخ غربي آسيا، أجل، سنكون بحاجة إلى التحرك على امتداد ثلاثين قرناً قبل الميلاد (36 قرناً قبل الإسلام)، وفي جغرافيا شاسعة، تمتد من وسط آسيا شرقاً إلى نهر النيل غرباً، ومن جبال القوقاز (قفقاسيا) شمالاً إلى اليمن جنوباً.
والحقيقة أنني لم أُثر السؤال الثاني على أنه مجرد (فرضية) بحاجة إلى (برهان)، وإنما لأنني لمحت في تاريخ العرب والكرد، قبل الميلاد بثلاثين قرناً، مؤشرات قليلة تُشعر بأن المسألة أكبر من أن تكون مجرد فرضية، وتشجّع المرء على متابعة الاستقصاء في هذا المجال، والبحث عن الأدلة التاريخية التي قد- إلى الآن أقول: قد- تؤكد أن ما هو مشترك بين العرب والكرد لا يقتصر على الإسلام فقط، وإنما له صلة- إلى حد ما- بالجانب الإثني أيضاً، ولعل رحلتنا في هذه السلسلة تدفعنا إلى المزيد من الحفر عميقاً في طبقات تاريخ غربي آسيا، ولعلها توصلنا بين حين وآخر إلى مؤشرات جديدة ومفيدة في هذا الاتجاه.
وآمل من القراء الأعزاء ألا يتفاجأوا عندما أعدّل معلومة كنت قد أوردتها في حلقة سابقة، أو ألغي نتيجة كنت قد توصلت إليها بناءً على قرائن معيّنة، أو أتوصّل إلى نتيجة جديدة تتعارض مع نتيجة سابقة، فالحقيقة أننا أمام كمّ هائل من المصادر تمّ إنتاجها طوال أربعة عشر قرناً، ويحتاج الحفر فيها إلى سنين، هذا إذا جعلنا الحفر مقتصراً على المصادر المؤلفة بالعربية فقط.
لكن كيف يكون الأمر إذا ضممنا إلى المصادر العربية مصادر مؤلفة بلغات أخرى (الهندية، الفارسية، السريانية، القبطية، الأرمنية، التركية، الإنكليزية، الألمانية، الروسية، إلخ)، ولها صلة بجغرافيا غربي آسيا وبتواريخ شعوبها؟ لا شك في أن العبء حينئذ يكون أشدّ وطأة، ومع ذلك حبذا أن يقوم من يجيد إحدى هذه اللغات بتلك المهمة، إنها في الغاية من الفائدة، ولا أشك في أن المعلومات الواردة في تلك المصادر ستجعل النتائج أكثر دقة وموضوعية.
وما دمنا قد تناولنا موضوع تجدد النتائج بتجدد الحفر في المصادر أذكر أنني قلت في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، وهي بعنوان (أصل الكرد في التراث الإسلامي 2: ملاحظات وتساؤلات) ما يلي:
” فمن خلال مراجعاتي المتكررة للأدب العربي قبل الإسلام (الجاهلي)، ولا سيما الشعر- وهو دائرة تخصصي الأكاديمي إلى جانب الأدب العربي في صدر الإسلام- لم أجد أيّ ذكر للكرد، لا من قريب ولا من بعيد، وهذا يعني أن العرب- خاصّتهم وعامّتهم- ما كانوا يمتلكون، قبل الإسلام، معلومات عن الكرد “.
وصحيح أنني التزمت بالدقة عندما أضفت قائلا:
” أو أنهم كانوا يمتلكون معلومات قليلة جداً، ولم يعرفوهم عن قرب إلا مع بدء الفتوحات الإسلامية على الجبهة الشرقية، والصراع مع الدولة الساسانية الفارسية “.
لكنني لم أكن حذراً بما فيه الكفاية عندما أطلقت النتيجة الأولى، وكان عليّ أن أقيّدها بعبارة (إلى الآن) فتصبح العبارة كالآتي: ” لم أجد- إلى الآن- أيّ ذكر للكرد، لا من قريب ولا من بعيد “. ولو فعلت ذلك لكنت موضوعياً ودقيقاً تماماً؛ أقول هذا لأنني وجدت خلال الحفر في المصادر التراثية ثلاث معلومات جديدة، لها صلة بالكرد في الذاكرة العربية قبل الإسلام، وفاتني أن أذكر معلومة رابعة كنت أعرفها منذ بضع سنوات، وتلك المعلومات دليل على أن بعض النتائج لا تصبح نهائية ومؤكدة، أو شبه نهائية وشبه مؤكدة على أقل تقدير، إلا بعد الانتهاء من التنقيب في المصادر.
والمعلومات المشار إليها هي موضوع حلقتنا هذه، فماذا عنها؟
السلاح الميدي
قال الشاعر اليَثْرِبي عبد الله بن رَواحَة (من مشاهير الصحابة في الإسلام) يردّ على منافسه الشاعر اليَثْرِبي قَيْس بن الخَطِيم، قبل الإسلام (الكامل في التاريخ، ج 1 / ص 683):
ومُعْتَرَكٍ ضَنْكٍ يُرى الموتُ وَسْطَه
مَشينا له مَشْيَ الجِمال المَصاعِب
برَجْلٍ تَرى الماذِيَّ فوق جلودهم
وبَيضاً نَقيّاً مثلَ لون الكواكب
[ معترك: معركة. ضنك: حامية جداً. المصاعب: جمع مُصْعَب، وهو الفحل القوي الذي لا يُركب، ويُترك للفحولة، وبه سمّى العرب اسم مُصْعًب، ومنهم مُصعب بن الزُّبَيْر بن العَوّام. رَجْل: مقاتلون مشاة. الماذيّ: السلاح. بَيض: جمع بيضة، أي خوذة].
وجاء في (لسان العرب، مادة حقب) لابن منظور (ت 711 ﮪ) قول النابغة الذُّبياني (شاعر جاهلي) يمدح بعض العرب:
مُسْتَحْقِبِي حَلَقِ الماذِيِّ يَقْدُمُهم
شُمُّ العَرانِينِ ضَرَّابُونَ لِلﮪامِ
[ مستحقب: حامل معه. حلق الماذي: السلاح. العرانين: الأنوف. الهام: الرؤوس].
وبالعودة إلى معجم (لسان العرب، مادة مَذَيَ) نجد ما يلي:
– ” المَذْيُ البَلَل اللَّزِج الذي يخرج من الذكر عند مُلاعبة النساءِ “.
– ” المِذاء أَن تَجْمع بين رجال ونساء، وتتركهم يلاعب بعضهم بعضاً”.
– ” المَذاء: الدِّياثة، والدَّيُّوث الذي يُدَيِّث نفسَه على أَهله فلا يبالي ما يُنال منهم “.
– ” الماذِيُّ: العسَل الأَبيض “.
– ” الماذِيَّةُ: الخَمْرة السهلة السَّلِسة شُبّهت بالعسل “.
– ” الماذِيَّةُ: من الدروع البيضاء ودِرْعٌ ماذِيَّة سهلة ليِّنة”.
– ” الماذِيُّ: السلاح كله من الحديد. … الماذيُّ الحديد كله؛ الدِّرْع والمِغْفَر والسلاحُ أَجمع، ما كان من حديد فهو ماذيٌّ … ويقال الماذِيُّ: خالص الحديد وجَيِّدُه “.
وفي معجم (تاج العروس، مادة موذ) للزبيدي (ت 1205 ﮪ) نجد ما يلي:
– ” المَاذِيُّ : العَسَلُ الأَبْيضُ “.
– ” والماذِيُّ : الدِّرْعُ اللَّيِّنَةُ السَّهْلَةُ “.
– ” والماذِيُّ : السِّلاَحُ كُلُّه الدِّرْعُ والمِغْفَرُ وغيرُهما “.
– ” والمَاذِيَّةُ : الخَمْرُ “.
والمعروف في اللغة العربية أن الأسماء والأفعال تقوم على الجذور الثلاثية، وأن الصيغ المشتقة من الجذر اللغوي الواحد يتضمن كلٌّ منها شيئاً ما من المعنى الأصلي للجذر، ولنأخذ على سبيل المثال الجذر اللغوي (ج ن ن)، فجميع الكلمات المشتقة منها تشتمل، بمستويات مختلفة، على معنى (الاستتار والغموض)، وإليكم مشتقات ذلك الجذر ومعنى كل مشتق:
– الجِنّيّ: غير المرئي وهو عكس الإنسي (المرئي).
– الجَنين: الولد ما دام في بطن أمه.
– المجنون: الذاهب العقل.
– الجَنّة: المكان الكثيف الشجر، فيستتر ما بداخله ولا يظهر.
– الجُّنّة: الدرع تستر جسم لابسه.
– الجِنّة: الجنون، والجِن.
– المِجَنّة: التُّرْس.
– جَنّ الليل: أظلم.
– اجتنّ: استتر.
وتعالوا نطبّق هذه القاعدة على ما أدرجه ابن منظور والزبيدي ضمن مشتقات الجذر اللغوي (م ذ ي) و( م و ذ)، سنجد أن البون شاسع بين بعض تلك المشتقات، وإذا كنا نجد وجهاً للتشابه بين (المَذْي) و(الماذِيّ، بمعنى العسل) و(الماذِيّة بمعنى الخمرة) من حيث الليونة والبياض، فلا أدري كيف يمكن التوفيق بين معاني هذه الكلمات من حيث الطعم، لا بل إن التوفيق يبدو صعباً حينما نصل إلى كلمة (الماذيّة بمعنى الدرع البيضاء)، ويصبح ضرباً من المُحال حينما نصل إلى كلمة (الماذيّ بمعنى السلاح المصنوع من الحديد الخالص الجيد).
حسناً، إذاً ما الذي جعل ابن منظور والزبيدي وغيرهم من اللغويين يدرجون بعض الكلمات الغريبة ضمن أسرة لغوية معيّنة (جذر لغوي)؟
هنا ينبغي أن نأخذ في الحسبان أن لغة كل شعب هي جزء جوهري من هويته، كما أنها بنية أصيلة من ثقافته في عصور التكوين، بل لعلها أكثر تلك البنى أصالة، ولعلها أصدقها تجسيداً لملامح تلك الثقافة، وأقدرها على الصمود في وجه التقلّبات والتحوّلات عبر القرون، وقل الأمر نفسه في اللغة العربية، إنها تحمل في طيّاتها ملامح الثقافة العربية في عهود التكوين الأولى، فالفرد يحمل جنسية القبيلة، ومبرّر حمله لتلك الجنسية هو أن يكون له موقع في سلسلة نسب القبيلة.
وماذا إذا لجأ أحد الغرباء إلى القبيلة، وعاش فيها، وقررت قادة القبيلة منحه جنسية القبيلة لسبب أو لآخر؟ ها هنا يحصل (الدخيل) على الجنسية عبر آلية (الإلحاق)، ويأخذ (الإلحاق) أحياناً شكل (الموالاة)- بالكردية (كِرِيفْ Kirîf) فيما أعلم- وبموجب هذه الآلية يفوز الغريب بجنسية القبيلة.
وهذا ما فعله اللغويون في المجال اللغوي، فالكلمات التي تنتسب إلى الجذر اللغوي في الأصل تحمل جنسية (الجذر اللغوي) بالأصالة، أما الكلمات الدخيلة فمنحوها جنسية الجذر اللغوي بالإلحاق، ومثال ذلك:
– كلمة (زَنْجَبيل) غير العربية أُلحقت بالجذر (ز ن ج).
– كلمة (سُرادِق) الكردية الفارسية ألحقت بالجذر ( س ر د).
– كلمة (فِرْدَوْس) اللاتينية أُلحقت بالجذر (ف ر د).
وماذا كان يفعل اللغويون حينما كانوا يجدون كلمات لا يمكن إلحاقها بقبيلة لغوية معيّنة؟ حينئذ كانوا يختلقون قبيلة لغوية جديدة، ويعطونها اسماً خاصاً، ويمنحون جنسيتها لتلك الكلمات الغريبة الوافدة؛ ومثال ذلك كلمات (إسْطَبْل، أُسْطُرْلاب، أُسْطُوانة، أُسْطورة، أُسْطول)، فقد اختلقوا لها القبيلة اللغوية؛ أقصد الجذر اللغوي (أ س ط)؛ والدليل على ذلك أننا لا نجد كلمة عربية أصيلة مشتقة من هذا الجذر.
ولنعد إلى كلمة (الماذيّ) فهي في رأينا غير عربية الأصل، ولا تحمل جنسية الجذر (م ذ ي) والجذر (م و ذ) بالأصالة، وإنما بالإلحاق ليس غير، وهي معرّبة من كلمة (مادي)، فالعرب كانوا يحوّلون حرف الدال (د) في كثير من الكلمات غير العربية الوافدة إلى حرف الذال (ذ)، ومثال ذلك (بغداد / بغداذ)، (آزاد / آزاذ)، (آباد / آباذ)، (همدان / همذان)، (قُباد / قُباذ)، (سُنباد / سُنباذ)، والأمثلة كثيرة في كتب التراث العربي.
وكلمة (مادي) هي بالآشورية (ماداي) Medai، و(أماداي) Amadai، و(ماتاي) Matai، وبالعيلامية الحديثة (ماتا- په) Mata- pe، وبالعبرية القديمة (ماداي)، وبالفارسية القديمة (مادا) Mada، وباليونانية القديمة (مادُوي/ميِدُوي) Madoi، Medoi (دياكونوف: ميديا، ص 146)، وهي كلمة (ميدي) المعروفة في الدراسات الحديثة، وتعني الميديين (أحد فروع الشعب الكردي قديماً).
وقد يقال: ما علاقة الميديين باسم (الماذيّ) الذي يعني السلاح بالعربية؟
ها هنا لا بد من مراجعة سريعة لتاريخ الميديين؛ فالميديون شعب هندو أوربي (آري)، وصل إلى غربي آسيا قبل الميلاد بأكثر من ألف عام، واستقر في منطقة جبال زاغروس وحوافّها، وتحديداً في المنطقة التي كنت تُعرف قبل ذلك باسم (غُوتيوم= گُوتيوم) نسبة إلى شعب (غُوتي= گُوتي= جُوتي= جُودي)، وكان الميديون يتألفون من اتحاد ستة قبائل، سمّاها دياكونوف: Boussi, Paretaknoi, Strouknates, Arizantoi Boudloi, Magoi، وسمّاها هيرودوت (بوسّي، وباريتاسيين، وستروكاتي، وأريزانتي، وبودلوي، وماجي)، وكانت اللغة الميدية مشتركة بين أفراد هذا الاتحاد القبلي، ويستفاد مما ذكره أرشاك سافراستيان أن ميديا هي امتداد جغرافي وتاريخي وثقافي لگوتيوم (انظر دياكونوف: ميديا، ص 143، 146. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 80. أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ص 24، 25).
ووقع الميديون تحت هيمنة الإمبراطورية الآشورية في البداية، لكن السلطات الآشورية عجزت عن فرض سيطرتها الكاملة عليهم، إذ كانوا يقاومونها باستمرار وبعناد، ثم برز من بين الميديين زعماء عظام (دياكو، خُشْتريت، كَيْخُسرو)، امتازوا بالذكاء والحنكة وقوة الإرادة، فوحّدوا القبائل الميدية، ووضعوا قواعد الدولة، وانتقلوا بوعي الإنسان الميدي من دائرة (القبيلة) إلى دائرة (الأمة)، وأسسوا جيشاً وطنياً قوياً، وألحقوا الفرس بالدولة الميدية، ثم عقدوا تحالفاً مع الدولة البابلية التي كانت ترزح تحت الاحتلال الآشوري، وأعلنوا الحرب على السلطة الآشورية، وقضوا عليها سنة (612 ق.م).
إن سقوط الإمبراطورية الآشورية القوية والشرسة، على أيدي الميديين، وتحرير شعوب غربي آسيا من جبروتها، كان حدثاً هائلاً في ذلك العصر، ودوّى صداه في أرجاء العالم القديم، وهل كان من الممكن للميديين أن يقضوا على دولة عظمى معروفة بقوة الشكيمة كالدولة الآشورية، لولا وجود جيش ميدي يمتلك أقوى أسلحة ذلك العصر، ويمتاز بالفروسية والخبرة القتالية المتطورة؟
إن الانتصار الذي حققه الميديون، وقيامهم بتأسيس إمبراطورية قوية ومزدهرة، جعل اسمهم مخلداً في ذاكرة شعوب العالم القديم، حتى إنه بعد سقوط إمبراطورية ميديا في قبضة أتباعهم الفرس الأخمين سنة (550 ق.م) كان ملوك العالم القديم ومؤرخوه يطلقون على ملوك الأخمين الأوائل لقب (الملك الميدي) تارة، ولقب (ملك فارس وميديا) تارة أخرى، كما جاء في التوراة (سفر المكابيين الأول، الأصحاح الأول، الآية 1، والأصحاح الرابع عشر، الآية 2)، وأصبح زيّ الفارس الميدي مشهوراً بين شعوب غربي آسيا وعند اليونان.
وإليكم بعض الشواهد على ذلك:
· وصف هيرودوت جيش الملك الأخميني أحشويرش بن دارا الأول الزاحف على أوربا، فقال: ” أولاً الفرس، ويرتدون القبّعة المثلّثة وهي من اللبّاد الناعم، والقميص المطرَّز مع أكمامه، وفوقه الدرع الذي يبدو كحراشف السمك، والسِّروال، وأما عَتادهم فهو التُّرس المصنوع من قضبان الصَّفصاف، وتحته المِقلاع والرمح القصير، والقوس القوية، والسهام المصنوعة من الخَيزران، والخنجر المربوط بالنِّطاق على الفخذ اليمنى… أما الفرقة الميدية فكانت بقيادة تيجرانيس الأخميني، ومسلّحة بذات العُدّة والعتاد كالفرس، والحق أن ﮪذا النمط من اللباس ميديّ الأصل، وليس زيّاً فارسيّاً بأيّ شكل” (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 515- 516).
· في تراقيا ” ولما وصل أحشويرش وجيشه إلى أكانثوس أظهر الصداقة لأهلها، وقدم لهم هدية من الأزياء الميدية ” (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 531).
· في جيش أحشويرش الزاحف على الإغريق، كان سلاح (السرنجيين)، وهم من أقوى فرق الجيش الفارسي ” القوس والنشاب والرماح الميدية ” (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 517).
· في جيش أحشويرش الزاحف على الإغريق: ” أما الآريون فكان على رأسهم سيزامنس بن هيدرانيس، وسلاحهم القوس الميدي “(هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 517).
· ” إن الميديين، بالنسبة إلى الفرس والسكايين، كانوا معروفين بالشجاعة، ويعتمد عليهم، وهؤلاء كانوا القوة الضاربة الرئيسية في جيش خشيارشاه” (دياكونوف: ميديا، ص 412).
وصحيح أن الفرس الأخمين قضوا على دولة ميديا، لكن شهرة العسكرية الميدية ظلت حية في ذاكرة شعوب غربي آسيا مدة طويلة، وبما أن الدول الفارسية المتعاقبة كانت تحكم العراق وبعض السواحل الغربية من الخليج، وبما أن ملوك الحِيرَة العرب (بنيت الكوفة بالقرب منها في الإسلام) كانوا من أتباع الدولة الفارسية، وكان عرب شبه الجزيرة العربية يتعاملون تجارياً مع الدولة الفارسية، كان من الطبيعي أن تنتقل إليهم شهرة السلاح الميدي، وشهرة زيّ المقاتل الميدي، وأن يفخروا بالأسلحة الميدية (المادية/الماذية) التي كانوا يقتنونها.
وها أراني قد سافرت بعيداً مع اللغة فالجغرافيا فالتاريخ، لكن كيف يمكن للباحث أن يرفع بسرعة حطاماً معلوماتياً هائلاً، تراكم عبر ثلاثين قرناً بعضه فوق بعض، وغيّب عن الأبصار والأسماع والأذهان والأفئدة ما يتعلق بتاريخ الكرد من حقائق؟! وهكذا فقد اضطررت إلى القيام برحلة مديدة؛ لأصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن العرب، في شبه الجزيرة العربية، لم يكونوا يجهلون ما له صلة بالكرد جهلاً تاماً، ولكن لعلهم- بل الأرجح- أنهم ما كانوا يعلمون أن الميديين (الماديين/الماذيين) هم من أجداد الكرد. بلى، إنني أطلت،
اللباس الكردي
المعلومة الثانية أكثر لصوقاً بالكرد، ويبدو أنها أحدث من (السلاح الماذيّ)، وهي تتعلق بلباس معيّن كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، وكانوا يسمّونه (الكُرديّ)، وإليكم خبره، فقد جاء في (سُنن أبي داود، ج1، ص 303 – 304) ما يلي:
” … عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ [أهداب]، فَقَالَ: شَغَلَتْنِي أَعْلامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَاماً يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِهَذَا الْخَبَرِ، قَالَ: وَأَخَذَ كُرْدِيّاً كَانَ لأبِي جَهْمٍ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْخَمِيصَةُ كَانَتْ خَيْراً مِنْ الْكُرْدِيِّ “.
وخلاصة ما جاء في كتاب (عون المعبود، ج 2، ص 409) لمحمد شمس الحق العظيم آبادي حول مضمون الحديث أن (الخَمِيصَة ) ” كِسَاء مُرَبَّع لَهُ عَلَمَانِ “. وأن ” خَمِيصَة هِيَ ثَوْب خَزّ أَوْ صُوف مُعَلَّم. وَقِيلَ: لا نُسَمِّي خَمِيصَة إِلاّ أَنْ تَكُون سَوْدَاء مُعَلَّمَة، وَكَانَتْ مِنْ لِبَاس النَّاس قَدِيماً “. و(الأَنْبِجَانِيَّة) ” كِسَاء غَلِيظ لا عَلَم لَهُ “، نسبة إِلَى مَوْضِع يُقَال لَهُ أَنْبِجَان. وأضاف صاحب (عون المعبود) يقول: “(وَأَخَذَ كُرْدِيّاً): أَيْ رِدَاء كُرْدِيّاً. الْكُرْد بِالضَّمِّ. وَيُشْبِه أَنْ يَكُون الرِّدَاء مَنْسُوباً إِلَى كُرْد بن عَمْرو بن عَامِر بن رَبِيعَة بن صَعْصَعَة، وَكَانَ عَمْرو بن عَامِر يَلْبَس كُلّ يَوْم حُلَّة، فَإِذَا كَانَ آخِر النَّهَار مَزَّقَهَا لِئَلاّ تُلْبَس بَعْده، هَكَذَا ضَبَطَ نَسَبه أَبُو الْيَقْظَان أَحَد أَئِمَّة النِّسَاب “.
ونستخلص الحقائق الآتية من هذا الحديث النبوي:
1 – كان الكساء الكرديّ الذي ارتداه النبيّ لا يقلّ زخرفة عن الخميصة، في وقت كان النبي يريد كساء أكثر بساطة، كي لا يشغله عن الصلاة.
2 – كانت البضائع المصنوعة في بلاد الكرد تصل إلى أسواق بلاد العرب، وكانت تحمل معها اسمها (الكردي)، ويبدو أن هذا الاسم كان يساهم في الترويج لتلك البضاعة، وهذا يذكّرنا في العصر الحديث بحرص تجار حلب، عند عرض بضاعتهم، على ذكر اسم (كردي) لبعض المنتجات الواردة من جبل الكرد في عفرين، مثل (زيت كردي، سُمّاق كردي، زَعْتَر كردي).
3 – وصول التجار العرب، أو التجار الذين كان العرب يتعاملون معهم، إلى بلاد الكرد، ووجود علاقات تجارية بين الفريقين.
4 – رغم وقوع الكرد تحت سلطة الدول الفارسية المتتابعة لم يفقدوا هويتهم، وبها كانوا يُعرَفون حتى في أعماق صحارى بلاد العرب.
5 – شيوع تنسيب الكرد إلى أصل عربي من سلالة كرد بن عمرو بن عامر، ودور النسّابة العربي أبي اليقظان في ذلك.
اٍلاسم الكردي
المعلومة الثالثة لها علاقة باسم (كرد)، فقد ذكر السيوطي في كتابه (لباب النقول في أسباب النزول، ج1 ، ص ، 193) الخبر الآتي بشأن الآية (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [سورة الجن، الآية 6]:
” عن كُرد بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أوّلَ ما ذُكر رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم، فآوانا المبيتُ إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حَمَلاً من الغنم، فوثب الراعي فقال: عامرَ الوادي [الجني الذي يحمي الوادي حسب اعتقاد العرب حينذاك]، جارَك! فنادى منادٍ: لا نراه يا سِرْحان [ لا نوافق يا ذئب]. فأتى الحَمَل يشتدّ [يركض] حتى دخل الغنم. وأنزل الله على رسوله بمكّة: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن…”.
ومعلوم أن سورة (الجِنّ) من السور المكية؛ أي أنها نزلت قبل هجرة النبي إلى المدينة؛ أي في الثلاث عشرة سنة الأولى من الدعوة، وهذا يعني أن كُرد بن السائب قد سُمّي باسمه (كرد) في الجاهلية، أي قبل بدء الغزوات العربية الإسلامية بأكثر من عقدين من الزمان، وهذا يعني بدوره ما يلي:
1 – كان اسم (كرد) معروفاً ومستخدماً عند العرب قبل الإسلام، لكن في نطاق محدود جداً.
2 – كان اسم (كُرد) من الأسماء المرغوب فيها عند عرب الجاهلية ولعل السبب في ذلك أنه كان يحمل دلالات القوة والشجاعة، باعتبار أن العرب البداة خاصة كانوا يطلقون على أبنائهم أسماء مثل (همّام، عَلْقَمَة، حَنْظَلة، صَخْر، إلخ)؛ تفاؤلاً بالقوة والصلابة والبأس، وبقصد إخافة الأعداء (الجاحظ: الحيوان، ج1، ص 324).
3 – نرجّح أن لوصول اسم (كرد) إلى المجتمع العربي في البادية قبل الإسلام علاقةً بما كان معروفاً عن الكرد من شجاعة وشدّة بأس طوال عهود أجدادهم، بدءاً من الكاشيين، فالگوتيين، فالميتّانيين (الحُوريين)، وانتهاء بالميديين، ولو تفحّصنا طبيعة تشكيلات جيوش الدول الفارسية المتتابعة لوجدنا للمقاتلين الكرد فيها موقعاً هاماً.
4 – نرجّح أن إطلاق العرب اسم (كُرد) على بعض أبنائهم لم يكن مقتصراً على فترة قُبَيل الإسلام (قُبيل القرن السابع الميلادي)، وإنما كان يمتد إلى أزمنة بعيدة، وتحديداً إلى العهد الذي يسمّيه المؤرخون (الجاهلية الأولى)، وهو يمتد إلى ما قبل (200) مئتي سنة قبل ظهور الإسلام، والدليل على ذلك وجود اسم (كُرْد بن عَمْرو بن عَامِر بن رَبِيعَة بن صَعْصَعَة) كما مر قبل قليل، واسم (كُرْد بن مَرْد بن صَعْصَعَة بن هَوازِن) كما مر في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، واسم (كُرد بن عَمْرو مُزَيْقِيا بن عامر ماء السماء) كما مر في الحلقة الأولى أيضاً.
5 – نرجّح أن النسّابة العرب ساروا في الاتجاه الخاطئ حينما وجدوا في شجرة الأنساب العربية تكرار اسم (كُرْد)؛ إذ بدل أن يستنتجوا من ذلك وجود علاقة ما بين العرب والكرد، تسرّعوا في تنسيب الكرد إلى العرب العدنانيين تارة وإلى العرب القحطانيين تارة آخرى.
الصحابي الكردي
للمعلومة الرابعة علاقة بالصحابي الكردي جابان، وقد بسطنا القول بشأنه في الحلقة الأولى من سلسلة (مشاهير الكرد) الإلكترونية، وكذلك في كتابنا (تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، ص 151 – 153)، فقد جاء في كتاب (أُسْد الغابة، ج1، ص 299) لابن الأثير، وفي (تجريد أسماء الصحابة، ج 1، ص 71) للحافظ الذهبي، وفي كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة، ج 1، ص 201) لابن حَجَر العَسْقَلاني، وفي تفسير (روح المعاني، ج 26، ص 103) للآلوسي، اسم صحابي يدعى جابان، وكنيته (أبو ميمون)، سمع من النبي محمد حديثاً يفيد أن أيّ رجل تزوّج امرأة وهو ينوي ألاّ يعطيها الصَّداق (المَهر) لقي الله عز وجل وهو زانٍ.
ولنا أن نستنتج أن جابان كان مقيماً – على الغالب في المدينة-، حيث أقام النبي محمد بعد الهجرة، ولعله كان من أهل مكة، فهاجر إلى المدينة بعد إسلامه؛ فالمعروف أن جاليات فارسية ورومية وصابئة وحبشية كانت تقيم في مكة، لأغراض تجارية أو تبشيرية أو سياسية، وقد يكون جابان أحد أفراد تلك الجاليات.
ولعل جابان كان قد وقع في الأسر خلال الحروب الفارسية والبيزنطية، ثم بيع في أسواق النخاسة، وانتهى به الأمر إلى مكة أو المدينة، باعتبارهما مركزين تجاريين بين العراق وبلاد الشام من ناحية، وبين اليمن بوّابة شبه الجزيرة العربية على إفريقيا وجنوبي آسيا من ناحية أخرى. وعلى أية حال لم يكن جابان حديث عهد بالحجاز، وإلا فكيف أجاد اللغة العربية فهماً وتحدثاً؛ إلى درجة أنه كان يفهم بدقة ما يسمعه من النبي، وينقل ما سمعه إلى الآخرين بدقة؟
وهذا كله يقودنا إلى الحقائق الآتية:
1 – إن جابان كان كردياً، فقد نصّت المصادر على كردية ابنه ميمون، ويسمّى (ميمون الكردي).
2 – إن جابان كان من الصحابة، وكان شديد الورع، إلى درجة أنه كان يتحرّج في رواية الأحاديث عن النبي، مخافة السهو أو الخطأ.
3 – إن سماع جابان من النبي كان متكرراً؛ أي أنه كان يجالسه مراراً، وإلا فلماذا يطالب الناس ابنه ميموناً بأن يروي لهم ما سمعه عن أبيه، عن النبي؟
4 – إن الكرد كانوا معروفين عند العرب قبل الإسلام بأنهم شعب قائم برأسه، معروف باسمه، ولذا لم يُسَمّ ميمون باسم (ميمون الفارسي) كما قيل لسلمان (سلمان الفارسي)، بل سُمّي (ميمون الكردي).
– – – –
وجملة القول أن العرب في الجاهلية الأخيرة (قبل الإسلام بحوالي 200 سنة) ما كانوا يجهلون الكرد جهلاً تاماً، وإنما كانوا يمتلكون معلومات محدودة عنهم، وهذا أمر منطقي، فحينذاك لم يكن الكرد يجاورون العرب من الشرق والشمال مباشرة، فقد كان أقصى مكان يصل إليه الحضور العربي هو منطقة الحِيرة في جنوب غربي العراق (شرقي نهر الفرات، قرب الكوفة حالياً)، وكان الفرس يحكمون العراق، ويشكلون فاصلاً بين العرب والكرد.
والجدير بالملاحظة أن صورة الكرد في الذاكرة العربية حينذاك لم تكن رديئة، ولم تكن سلبية، إنها كانت صورة عادية، وكانت تبلغ أحياناً مستويات تدعو إلى الإعجاب، حسبما وجدنا من خلال (السلاح الماذي / الميدي)، و(الكساء الكردي)، وإطلاق اسم (كرد) على بعض أبناء العرب.
لكن بعد ذلك تُرى كيف أصبحت صورة الكرد في التراث الإسلامي؟
هذا ما سنتابعه في الحلقة القادمة.
المراجع
1. ابن الأثير (عز الدين) أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق محمد إبراهيم البنا، محمد أحمد عاشور، محمود عبد الوهاب فايد، دار الشعب، القاهرة، 1970.
2. ابن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.
3. أحمد محمود الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو، 2007.
4. أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ترجمة أحمد محمود الخليل، دار هيرو، 2007.
5. الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1978.
6. الجاحظ: الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1938.
7. ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1970 – 1972.
8. أبو داود: سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر. (نسخة إلكترونية).
9. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، دمشق.
10. الذهبي: تجريد أسماء الصحابة، دار المعرفة، بيروت، 1960.
11. الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 ﮪ.
12. السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول، نسخة إلكترونية.
13. محمد شمس الحق العظيم آبادي: عون المعبود شرح سنن أبي داود، نسخة إلكترونية.
14. ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1970.
15. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.
وإلى اللقاء في الحلقة السادسة
د. أحمد الخليل في 02-12-2008
[1]