سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ ( الحلقة 15 ) جولة في تاريخ غربي آسيا (صراع الجبال والصحراء)
د. أحمد الخليل
فجر الحضارة
قارئ التاريخ والنسر شبيهان.
كلاهما بحاجة إلى التحليق عالياً.
أما النسر فكي يرصد أكبر رقعة ممكنة بحثاً عن الطرائد.
وأما قارئ التاريخ فكي يرى أكبر رقعة ممكنة بحثاً عن الحقائق.
أجل، إن قارئ التاريخ بحاجة إلى التحليق عالياً في فضاء التاريخ؛ ليس عجزاً عن الإمساك بالتفاصيل، وإنما بحثاً عن معرفة المشهد الكلي؛ إذ بقدر ما يحيط بالمشهد الكلي يتحرر من الوقوع في أسر الجزئيات، ويتغلّب على جاذبية الانشغال بالفروع دون الأصول، ويصبح أقدر على معرفة العلاقات بين المكوّنات والعناصر، ويصبح من ثَمّ أدقّ رؤية، وأَصْوب رأياً، وأَقْوم حُكماً.
وطموحاً إلى النسورية قمنا، في الحلقة (14)، بجولة في تاريخ العالم القديم، وتأكد لنا حينذاك أنه كانت ثمة على الدوام مصالح وصراعات بين سادة العالم القديم، وكانت الجغرافيا هي موضوع الصراع؛ أقصد الجغرافيا من حيث الموارد، والجغرافيا من حيث الموقع الستراتيجي (جيوپوليتيك)، وبدا واضحاً أن أكثر الصراعات شراسة دارت في المنطقة الواقعة بين جبال زاغروس شرقاً، وسواحل البحر الأبيض المتوسط غرباً، وكان الهدف الأكبر للقوى الكبرى حينذاك هو السيطرة على شبكة طريقَي التجارة العالمية: طريق البخور، وطريق الحرير.
وعلمنا في الحلقة ذاتها أيضاً أن الصراع على غربي آسيا كان حامياً جداً، لأن طريق الحرير كان يدخل هذه المنطقة عبر كردستان قادماً من الشرق، وكان طريق البخور يدخلها عبر اليمن من الجنوب الغربي، وكانت الشبكتان تتقاربان وتتلاقيان على السواحل الشمالية والغربية للبحر الأبيض المتوسط.
وفي هذه الحلقة سنواصل التحليق في فضاء التاريخ الغرب آسيوي، لكن على مسافة أقرب؛ لنركّز النظر على بلاد الرافدين بحوافّها الأربع: الحافّة الشرقية (كردستان)، والحافّة الجنوبية الغربية (شبه الجزيرة العربية)، والحافّة الشمالية الغربية (سوريا الكبرى/بلاد الشام)، والحافّة الشمالية (الأناضول)، ونوجّه التركيز بشكل أكبر إلى ثلاث مناطق جغرافية بارزة في غربي آسيا:
1. الأولى جغرافيا الجبال: وموقعها في الشرق والشمال، وهي تبدأ من مشارف الخليج في الجنوب الشرقي، وتمتد نحو الشمال الغربي إلى مشارف جبال القوقاز وسواحل البحر الأسود، وتتألف من كتلتين ضخمتين بدءاً من الجنوب إلى الشمال؛ الأولى جبال زاغروس، والثانية جبال طوروس.
2. والثانية جغرافيا الصحراء: في الغرب والجنوب الغربي، وهي تتألف من شبه الجزيرة العربية في الدرجة الأولى، مع الامتدادات الصحراوية في شمال غربي بلاد الرافدين (العراق حالياً)، وفي جنوبي سوريا الكبرى (بلاد الشام).
3. والثالثة جغرافيا السهول: وموقعها في الوسط بين كل من جغرافيا الجبال وجغرافيا الصحراء، وهي تبدأ من رأس الخليج في جنوبي بلاد الرافدين، وتمتد شمالاً وغرباً نحو وسط سوريا وسواحل شرقي المتوسط.
كانت هذه الجغرافيات الثلاث وراء صياغة القسم الأكبر والأهم في تاريخ غربي آسيا سياسياً وثقافياً، ولعل من الصحيح القول أيضاً بأنها كانت ذات تأثير بالغ في صياغة تاريخ البشرية على الصعيد الحضاري بشكل عام.
ودعونا نتناول بعض التفاصيل في هذا المجال.
فق قسّم المؤرخون شعوب العالم إلى مجموعات عرقية كبرى، أهمها: الشعوب الآرية (الهندو- أوربية) Indo- Europeansوالشعوب السامية، والشعوب الحامية، والشعوب الأورال ألطائية، وشعوب جنوب شرقي آسيا، وشعب الإسكيمو، وذكر جيمس هنري برستد أن مصطلح (الآريين) يطلق على الفرع الشرقي من الشعوب الهندو-أوربية، ومن أبرز تلك الشعوب: الكرد، والفرس، والبُلوش، والباشْتو (موزّعون بين شمالي باكستان والنصف الجنوبي من أفغانستان)، والأرمن، أما الأوربيون فهم من الفرع الغربي. (جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ص 245 – 246).
ورجّح معظم المتخصصين في التاريخ القديم، وفي علم السلالات، أن وسط آسيا، وتحديداً شرقي بحر قزوين، كان المهد الأصلي للشعوب الآرية، وذكر ول ديورانت أن (زند أڤستا)، وهو الكتاب الزردشتي المقدس، يأتي على ذكر هذا الموطن القديم، وذكر ديورانت أن ذلك الموطن يسمّى في الأڤستا (إيريانا – فيچو)؛ أي (موطن الآريين)، وجاء وصفه ” بأنه جنّة من الجِنان “. (ول ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، جزء 2، ص 424، 399).
ويبدو أن تلك المنطقة عانت من أزمة مناخية حادّة في الفترة بين (3000 – 1000 ق.م)، فحدث تقلّص في الموارد، وكان من الطبيعي أن يشتد التنافس بين القبائل الآريانية على الجيوب الباقية من (جغرافيا الوفرة)، وكان الحل هو الانزياح من (المكان الطارد)، والانتقال إلى (المكان الواعد)، وقد ذكر ﮪ. ج. ولز عاملاً آخر كان وراء هجرة الآريين غرباً؛ هو نشوب الصراع بينهم وبين الشعوب المغولية (الطورانية) المجاورة للآريين شرقاً. وقد توجّه بعض الآريين جنوباً نحو شبه القارة الهندية، وتوجّه آخرون نحو غربي آسيا، وتوجّه فريق ثالث شمالاً وغرباً نحو أوربا الشرقية والغربية. (ﮪ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، ج 2، ص 208، 309).
وما يهمّنا الآن هو أمر القبائل الآريانية التي توجّهت غرباً، فقد انتهى بها المطاف إلى الاستقرار في غربي آسيا، وتحديداً في السلاسل الجبلية الممتدة من مشارف الخليج جنوباً إلى مشارف بحر قزوين وجبال القوقاز ومشارف البحر الأسود شمالاً؛ وهي تضم سلاسل جبال زاغروس وجبال طوروس، ويفيد المؤرخون أن هذه المنطقة وحوافّها الغربية كانت مهد بزوغ فجر الحضارة في غربي آسيا.
أدلة تاريخية
وإليكم بعض ما ذكره المؤرخون بشأن عراقة الحضارة في غربي آسيا:
· ” كانت آسيا الأمامية أيضاً من أهم مراكز تدجين الحيوانات، وأصبحت منطقة تاوره- زغروس المركز الأساسي لتدجين الماعز والأغنام، حيث ظهر الرعي في الألف الثامن قبل الميلاد، وانحصرت عملية تدجين الماعز بلا شك في جنوب جبال زغروس، بينما كان تدجين الأغنام يجري في شمالها… ففي جنوب الأناضول، وربما أيضاً في شرقه، كان الناس على تخوم الألفين السابع والسادس [قبل الميلاد] قد دجّنوا التيوس الجبلية، ثم انتقلوا إلى تربية الأبقار”. (بونغارد – ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 62).
· ” لم تكن آسيا الأمامية من أقدم مراكز الزراعة والرعي فحسب، بل كانت الموطن القديم لصناعة التعدين؛ إذ توفرت هنا في الألف السابع [قبل الميلاد] المقدمات الإنتاجية لنشوء التعدين “. (بونغارد – ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 64).
· ” عثر المنقّبون أثناء حفريات مستوطنة جارمو في العراق (حوالي عام 6500 ق.م) على 1153 كرة، و 298 قرصاً، و 106 مخاريط”. (بونغارد – ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 101).
· حضارة حلف Halaf: سُمّيت هذه الحضارة باسم موقع تل حَلَف (شمال شرقي الموصل)، ويقول جيمس ميلارت: ” لقد انتشرت هذه الحضارة على شكل قوس من نهر الفرات إلى الزاب الأكبر، وبينما كانت الحدود الجنوبية لهذه الحضارة محددة بشكل دقيق فإنه من المحتمل أن تكون جبال طوروس حدودها الشمالية، مع جيوب منتشرة هنا وهناك في الهضبة الأناضولية إلى الشمال من هذه الجبال”. (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 157).
· قال جيمس ميلارت أيضاً بشأن حضارة حَلَف: ” تعتبر حضارة حَلَف من الحضارات النشيطة بشكل خاص، … ومن المحتمل أن يكون الذين أسسوا هذه الحضارة هم القادمون الجدد من المناطق الشمالية، وهناك احتمال بأن تكون منطقة الرافدين التركية [المنطقة الكردية في جنوب شرقي تركيا] هي الموطن الأصلي لهذه الحضارة “. (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 157).
· ذكر جيمس ميلارت أيضاً أن ثمة تشابهاً كبيراً بين حضارة حَلَف في أواخر الألف السادس وأوائل الألف الخامس قبل الميلاد، وحضارة النيوليت وبدايات العصر النحاسي، وأن حضارة حلف اندثرت في الفترة ما بين (4400 – 4300 ق. م). (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 163).
· حضارة تپه جيتان :Tepe Gitan ” إن حضارة تپه جيتان، في منطقة زاغروس، ربما تكون لعبت دوراً هاماً في نقل الحضارة بين سامراء [سومر] ومنطقة حَلَف شمال نهر دِيالي ومناطق سوسا [في عيلام]. ولم تسيطر هذه الحضارة على البوّابات الفارسية والطرق العامة في بلاد الرافدين حتى كَرْمَنْشاه وهَمَذان فقط، لكنها تحكّمت بالمنطقة الواقعة من شمال بلاد الرافدين حتى عَرَبستان [خُوزِستان= الأَهْواز، في جنوب غربي إيران حالياً] “. (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 93).
إن هذه الأدلة، وكثيراً غيرها، لا تدع مجالاً للشك في أن سفوح جبال زاغروس وطوروس، والمناطق القريبة من سفوحها الغربية والجنوبية والشمالية، كانت البقعة التي ظهرت فيها أولى تباشير الحضارة في غربي آسيا، وإذا دققنا النظر في تلك الجغرافيا يتضح أنها الجغرافيا التي استقر فيها أجداد الكرد منذ خمسة آلاف عام على أقل تقدير، وما زال الكرد يقيمون فيها؛ أي أنها (كردستان).
أدلة دينية
ولعل ثمة من لا يقتنع بالحقائق ما لم يأت لها ذكر في النصوص الدينية، ولهؤلاء تحديداً نقدّم ثلاثة أدلة؛ اثنان من التوراة، والثالث من القرآن، وجميعها يؤكد أن ظهور فجر البشرية والحضارة كان في جغرافيا الجبال بغربي آسيا، وهي الجغرافيا التي يقيم فيها الكرد، وعُرفت باسم (كردستان):
1 – الدليل التوراتي الأول: ” وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً. وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ [ثمر شجرة الدَّوْمَة، ونوع من الصَّمْغ] وَحَجَرُ الْجَزْعِ [خَرَز فيه سواد وبياض]. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِى جِيحُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ، وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابعُ الْفُرَاتُ “. (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 2، الآيات 7 – 14. وانظر سامي سعيد الأحمد: السومريون، ص 20).
1. الدليل التوراتي الثاني: بشأن الطوفان، وسفينة نوح: ” ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا وَكُلَّ الْوُحُوشِ وَكُلَّ الْبَهَائِمِ الَّتِي مَعَهُ فِي الْفُلْكِ. وَأَجَازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ الْمِيَاهُ. وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْغَمْرِ وَطَاقَاتُ السَّمَاءِ، فَامْتَنَعَ الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ. وَرَجَعَتِ الْمِيَاهُ عَنِ الأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوَالِيًا. وَبَعْدَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ، وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي الْيَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ “. (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 8، الآيات 1 – 4. وانظر فرنسس دافدسن وآخران: تفسير الكتاب المقدس، ص 148).
2. الدليل القرآني: بشأن قصة الطوفان واستقرار سفينة نوح: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }. (سورة هود، الآية 44).
وإذا أخذنا في الحسبان أن الجنّة التوراتية ليست سماوية، وإنما هي جنّة أرضية، وأن نهر حِدّاقِل هو نهر (دجلة)، ودققنا النظر في الجغرافيا التي تقع فيها منابع أكبر نهرين في غربي آسيا (الفرات ودجلة)، اتضح لنا، دون أدنى شكّ، أن (جنّة عَدْن) وقسماً كبيراً من (جبال أرارات) المذكورة في التوراة، كانت في القسم الشمالي الغربي من بلاد الكرد (شرقي تركيا حالياً) وهي ذاتها الجغرافيا التي كان يقيم فيها الحوريون، منذ نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، وهم من أجداد الكرد القدماء. (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص 29).
ولا يختلف الأمر كثيراً إذا تركنا الرواية التوراتية جانباً، واعتمدنا الرواية القرآنية بشأن موقع الجبل الذي وقفت عليه سفينة النبي نوح، فجبل (جُودي) معروف بهذا الاسم إلى الآن، وهو يقع قرب جزيرة بُوتان Botan المعروفة في مصادر التراث الإسلامي باسم (جزيرة ابن عُمَر)؛ أي أنه يقع في الجغرافيا الكردية بجنوب شرقي تركيا حالياً. (انظر الشيخ الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 10، ص 223).
وثمة احتمالان لأصل اسم (جودي):
– الأول أنه مأخوذ من كلمة (جُوتي = گوتي)، وهو اسم أحد الفروع الكبرى من أجداد الكرد، ولا تخفى كثرة التبادل بين حرفي (ت، د) في الأسماء خاصة، لقرب المخرج الصوتي؛ ونرى أن هذا الاحتمال هو الأرجح.
– والثاني أنه مركّب من الكلمتين الكرديتين (جُهْ Goh= مكان)، (دِي Di= وَجَد)، وبجمع الكلمتين نحصل بالكردية على معنى (المكان المختار، المستقَر).
جبليون أوائل: السومريون
إن الذين يخافون مواجهة الحقائق هم الأكثر هرباً من قراءة التاريخ بواقعية، وهم الأكثر حرصاً على التغييب والتحوير والتزوير، وهم الأكثر تضليلاً للأجيال، والأكثر إساءة إلى ذاكرات الشعوب، وكي نكون صادقين، ونحن نفسّر التاريخ، ينبغي أن نتحلّى بقدر كبير من الشجاعة العلمية؛ لأننا قد نكتشف- شئنا أم أبينا- حقائق لا تريحنا دينياً، وقد تُغضبنا وتثير فينا الحميّة قومياً، وقد تصدمنا فتهدّم منظومات كاملة من القناعات المخزَّنة في وعينا ولاوعينا.
ومن جملة تلك الحقائق في تاريخ غربي آسيا ذلك الصراع المستمر- جهراً أو خفاء- منذ الألف الرابع قبل الميلاد؛ إنه الصراع بين سكان (جغرافيا الجبال) وسكّان (جغرافيا الصحراء)، وكان موضوع الصراع هو (جغرافيا السهول) في بلاد الرافدين، وفي امتداداتها غرباً باتجاه شرقي المتوسط، عبر النصف الشمالي من سوريا في أغلب الأحيان.
وفي بعض كتاباتنا سمّينا ذلك الصراع (تنافساً) من باب التلطيف ليس غير، وإلا فإنه كان صراعاً طويلاً وضارياً، طحنت رحاه أرواح الملايين من أرواح شعوب بيتنا الغرب آسيوي خلال خمسة آلاف عام، وسفك كثيراً من دموع أجدادنا وجداتنا، وابتلع كمّاً هائلاً من ثرواتنا، وأحسب أن بعض فصول ذلك الصرع ما زال قائماً إلى يومنا هذا، ويؤسفنا القول بأنه مرشَّح لأن يستمر أجيالاً أخرى؛ ما لم تَحْلُل (ثقافة الإخاء) في بيتنا الكبير محلّ (ثقافة الإلغاء).
ودعونا نوضّح الأمر أكثر.
إن سكان جغرافيا الصحراء (شبه الجزيرة العربية) كانوا يفتقرون إلى موارد الحياة الكافية لهم ولأنعامهم، وبما أن البحر يطوّقهم من الغرب (البحر الأحمر)، ومن الجنوب (بحر العرب)، ومن الشرق (الخليج)، فكان ثمة منفذان وحيدان متاحان لهم: الأول في الشمال الشرقي (بلاد الرافدين)، والثاني في الشمال الغربي (بلاد الشام)، فهناك المناخ المعتدل، والقدر الكافي من الأمطار، وكثير من السهول الكبرى الخصبة، وبعض الأنهار (الفرات ودجلة)، وأطلق المؤرخون على الأقوام التي خرجت من شبه الجزيرة العربية اسم (الشعوب السامية)، متأثرين بالمصطلح التوراتي، وسمّاهم بعض المؤرخين حديثاً باسم (أقوام الجزيرة العربية). (عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 64).
أما سكان جغرافيا الجبال (زاغروس وطوروس وحوافّها المتاخمة للقوقاز) فكانوا بحاجة أيضاً إلى التمدد باتجاه الغرب، نحو (بلاد الرافدين) و(شمالي بلاد الشام)؛ إذ صحيح أن مناطقهم كانت وفيرة الأمطار، كثيرة الأنهار، لكنها كانت كثيرة الثلوج، شديدة البرد، عدا أن الرقعة الصخرية كانت هي الغالبة على بلادهم، وكانوا بحاجة ماسّة إلى السهول المتاخمة لجبالهم، يتدفق إليه الفيض السكاني، ويكون في الوقت نفسه مرتعاً للقطعان في الشتاء القارص، وقد مرّ أن سكان الجبال أولئك كانوا في الغالب من الشعوب الآرية، وهم التكوين الأساسي الذي أنتج الشعب الكردي في النهاية.
وهكذا بدأ الصراع الطويل بين الجبال والصحراء.
وإليكم بعض تفاصيل ذلك الصراع.
كان السومريون أقدم شعب جبلي منتِج للحضارة في غربي آسيا، وكان ذلك في أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد، وقد انحدر هذا الشعب من جبال زاغروس في الشمال، واستقر به المقام في جنوبي بلاد الرافدين، بدءاً من جنوبي بغداد حالياً إلى الخليج، حيث السهول الرسوبية الخصبة، وحيث يمر نهرا دجلة والفرات، وربما كان قدومهم هرباً من ضغط قبائل آرية أخرى قادمة من الشرق، وذكر الدكتور أحمد فخري (أستاذ تاريخ مصر الفرعونية والشرق القديم)، أن حضارة بلاد سومر فاقت الحضارة في مصر حينذاك، لكن فيما بعد تقدمت عليها الحضارة المصرية؛ بسبب وحدة البلاد ووجود حكم مركزي بقيادة ملك واحد. (صمويل كريمر: من ألواح سومر، ص40، المقدمة).
وسومر أقدم اسم أُطلق على جنوبي بلاد الرافدين ( ميسوبوتاميا Mesopotamia)، وجاء ذكر بلاد سومر في التوراة باسم (سهل شِنْعار)، إذ جاء بشأن الملك نِمْرُود (حسب الصيغة التوراتية):” وَكَانَ ابْتِدَاءُ مَمْلَكَتِهِ بَابِلَ وَأَرَكَ وَأَكَّدَ وَكَلْنَةَ، فِي أَرْضِ شِنْعَارَ” (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح العاشر، الآية 10). وتسمّى (سومر) بالأكادية (شومرد)، وتُكتب بالمصطلح المسماري (كي إن جي)؛ أي (البلاد السيدة). (عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 24).
وليس الآن مجال الإجابة عن السؤال الآتي: هل السومريون من أجداد الكرد القدماء؟ فتلك مهمة ينبغي أن نعدّ لها أكبر قدر ممكن من المعلومات، ونخضعها لكثير من التنقيب والتحليل والمقارنة؛ لكن مع ذلك لا تفوتنا الإشارة سريعاً إلى ثلاثة أدلة على وجود علاقةٍ ما بين السومريين و أجداد الكرد:
– الدليل الأول: جغرافي، فقد كان موطن السومريين، قبل الاستقرار في ميسوبوتاميا، هو جبال زاغروس، وهذا أمر اتفق عليه معظم من تناول تاريخ السومريين بالبحث.
– والدليل الثاني: لغوي يتجلّى في كلمة (شومرد)، وهي صيغة شبيهة جداً بالكلمة الكردية (جُومَرْد Gomerd)، بمعنى (الشهم، الكريم، السيد)، كما أنها صيغة شبيهة بالكلمة الكردية (جُهْ مَرْد Goh merd) بمعنى (سيد المكان).
– والدليل الثالث: لغوي أيضاً، فبتدقيق النظر في كلمة (كي إنْ جِي) يتضح أنها صيغة تكاد تكون طبق الأصل من الكلمة الكردية (آكِينْجي Akingi/ a- kin – gi)، وتعني (صاحب الأرض)، وهي تُطلق على من يقيم في قرية وله فيها أرض يملكها، وله من ثَمّ حق التحدّث في شؤونها.
ومرة أخرى أقول: ليس الآن موضع البحث في هذه الموضوع، مع أنه جدير بالاهتمام، ولعلنا نفرغ له ولأشباهه مستقبلاً على نحو أكثر توسعاً.
ولنعد إلى مسارنا الأساسي، ألا وهو الزحف الجبلي الأول- متمثّلاً بالسومريين- إلى ميسوبوتاميا، وصحيح أن السومريين أقاموا منظومة حضارية متكاملة، دينياً، وأدبياً، وزراعياً، لكن سيكولوجيا الجبال، بما تعنيه من شدة الاعتداد بالذات، وعدم الرضوخ للآخر، والعناد في الموقف، فعلت فعلها، فحالت دون قيام دولة مركزية سومرية طوال خمسة قرون، رغم شعور السكان بأنهم من جنس واحد، وظلت ميسوبوتاميا موزَّعة بين دول- مدن سومرية، أشهرها كيش، ونِيپور، وآداب، ولَجش، وأُورُوك، ولارسا، وأُور، وأَرِيدُو، وعجزت دول المدن السومرية من إنجاز مشروع توسعي إمبراطوري في المناطق المجاورة. (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص 67. د. عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم مصر والعراق، ج 1، ص 40. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 51).
أكّاديون وگوتيون
وبينما كان الجبليون السومريون يضعون قواعد أول حضارة في غربي آسيا، كانت القبائل السامية تتنقل مع قطعانها في بوادي شبه الجزيرة العربية الشاسعة، ولا سيما في الجنوب الغربي من بلاد الرافدين، وكانت تعاني من ندرة الأمطار، وقلة مساحات الغطاء النباتي المناسب لتربية الحيوانات، وتحوّل بلادها إلى (جغرافيا الجوع)، مما أدّى إلى تفاقم الصراعات فيما بين تلك القبائل، فتوجّه بعضها نحو (جغرافيا الشِّبَع) في التخوم الشمالية الشرقية من بلادها؛ أقصد بلاد ما بين النهرين (العراق بعدئذ).
وكان الأكّاديون هم الطليعة السامية التي بدأت الزحف نحو بلاد الرافدين قبل حوالي (2500) ألفين وخمسمئة سنة قبل الميلاد، واستقرّت القبائل الأكّادية بدايةً في غربي نهر الفرات، بجوار المناطق التابعة لدول المدن السومرية في أَرِيدو ونِيپُور وأُور وغيرها، وتعلمت من السومريين كيف تنظّم نفسها، وتنتقل من ثقافة البداوة إلى ثقافة الزراعة، وتنتقل من نظام القبيلة إلى نظام الدولة.
ويبدو أن شرائح من النُّخب الأكّادية اندمجت مع الزمن في الحياة السياسية والاقتصادية لبعض دول المدن السومرية الشمالية، إذ نجد شخصاً أكّادياً- هو سرجون- يصل إلى منصب ساقي الملك السومري في دولة مدينة كيش، وقيل بل كان ضابطاً كبيراً في جيش تلك المدينة، وقد وحّد صفوف الأكّاديين، وقادهم لخوض الصراع ضد دول المدن السومرية، وحقق نصراً حاسماً على لوگال زاگّيزي Lugal zaggisi ملك أوروك حوالي عام (2350 ق.م)، ووضعه في قفص على بوّابة معبد الإله (إنليل) في مدينة نيپور. (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص 67. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 63).
وكان لوگال زاگّيزي أقوى ملوك سومر حينذاك، وكان الملك السومري الوحيد الذي فرض سلطته بالقوة على معظم مدن الدول السومرية، ولم يكتف بالسيطرة على جنوبي بلاد الرافدين، وإنما سيطر على شماليها أيضاً، وصار الحاكم الذي يمتد نفوذه من الخليج (البحر الأسفل) إلى البحر الأبيض المتوسط (البحر الأعلى) حسب زعمه، وبعد انتصار سرجون عليه كان من الطبيعي أن يصبح هذا الأخير أقوى ملك في بلاد الرافدين جميعها، وكان من الطبيعي أيضاً أن يفرض سيطرته على جميع مدن الدول السومرية. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 63).
وفي عهد سرجون (2370- 2230 ق.م) أسّست شعوب الصحراء- متمثلةً في الأكّاديين- أول دولة مركزية قوية في بلاد الرافدين جنوباً وشمالاً، باسم الدولة الأكّادية؛ نسبة إلى العاصمة أكّاد، كما ظهر أول لقب ملكي بصيغة (ملك جهات العالم الأربع) في غربي آسيا، ومن يحمل لقباً عولمياً كهذا اللقب فلا بدّ أن يكون صاحب مشروع توسّعي إمبراطوري عولمي؛ وهذا في حدّ ذاته أمر جدير بالتأمل العميق. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 63).
وقد نفّذ سرجون مشروعه الإمبراطوري بحزم وقسوة، فسيطر على بلاد الرافدين جميعها، وضمّ إليها عِيلام (في جنوب غربي إيران حالياً، ولعلها الاسم القديم لمنطقة لورستان الكردية)، وهاجم مواطن الگوتيين في زاغروس (إقليم كردستان العراق حالياً)، وتوغّل شمالاً في الأناضول وآسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، واجتاح الممالك الأمورية في سوريا، ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وثمة من يقول: إنه وصل إلى جزيرة كريت في المتوسط، كما أنه توغّل بغزواته جنوباً نحو بحر عُمان. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 92. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 68، 72).
وحافظ خلفاء سرجون (ابنه رِيمُوش Rimush، وابنه الآخر مانِشْتُوسو Manishtusu) على ميراثه الإمبراطوري، وسحقوا ثورات الشعوب، غير أن حفيده نارام سين بن مانِشْتوسو- حكم بين (2260 – 2223 ق.م) كان الأبرز في هذا المجال، إذا أعاد الشعوب الثائرة بالحديد والنار إلى بيت الطاعة الأكّادي، وضمّ منطقة اللولوبيين (من أجداد الكرد) في جبال زغروس إلى إمبراطوريته، كما ضمّ إليها المناطق الجبلية الشمالية التي عُرفت بعدئذ باسم (أرمينيا)، واتخذ لقب شارت كبرات أربعيم (ملك الجهات الأربع)، ولقب شار گشاتي (ملك العالم)، ويبدو أن اللقب الأخير مصاغ باللغة السومرية، ومرة أخرى نجد الصيغة الكردية في هذا اللقب من خلال كلمة (شار= مدينة) وكلمة (گشاتي= كُل). (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 65. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 75).
وجاء دور الگوتيين الجبليين في الرد على الأكّاديين الصحراويين، وشعب گُوتي (غوتي = جُوتي = جُودي) هو من مجموعة الأقوام التي كانت تعيش على أرض أجداد الكرد گُوتيوم (ميديا القديمة بعدئذ)، وحسب رأي أغلب الباحثين كان الگوتيون يعيشون شرقي منطقة لوللو، ولعلها منطقة لورستان، ويبدو أنهم كانوا الأكثر تماسكاً وقوة بين فروع أجداد الكرد حينذاك، فكانوا الأقدر على الثورة، وذكر دياكونوف أن الملك الأكّادي نارام سين قُتل على أيديهم، وأنهم ظلوا يخوضون الصراع ضد السلطات الأكّادية، رغم قلة عدد جيشهم وبدائية أسلحتهم، وذلك ” يعود بالأساس إلى أن القادة الگوتيين تمكّنوا من جمع شمل القبائل في قومهم في اتحاد قوي تام “. (دياكونوف: ميديا، ص 109، 110).
وقد سيطر الگوتيون على سومر وأكّاد حوالي قرن من الزمان، بين (2230 – 2120 ق.م)، وبين (2270 -2145 ق.م) حسب لانجر أي حوالي (125) سنة، و(91) سنة حسب دياكونوف، ثم انسحبوا إلى جبالهم ثانية، تحت ضغط قوة سومرية- أكّادية جديدة، قادها أُور- نَمّو Ur- Nammu السومري (2112 – 2095 ق.م)، مؤسساً سلالة أور الثالثة (2112 – 2004 ق.م). (دياكونوف: ميديا، ص 110. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 55).
بابليّون وكاشيّون وحُوريّون
ثم سيطر شعب صحراوي الأصل جديد على بلاد الرافدين، هو الشعب البابلي، وقد بدأ العصر البابلي القديم (2000 – 1595 ق.م)، واتخذ ملوك هذا الشعب مدينة بابل على الفرات (شمالي سومر وأكّاد) عاصمة لهم، وأشهر ملوكهم هو حمورابي الذي حكم بين (2123- 2081 ق.م) حسب ول ديورانت، أو بين (1792 – 1750 ق.م) أو بين (1728 – 1686 ق.م) حسبما ذكر مؤرخون آخرون، وكما هي العادة لم يكتف البابليون بالسيطرة على بلاد الرافدين جنوباً وشمالاً، وإنما بسطوا سيطرتهم على المناطق الشرقية في عِيلام و گوتيوم (ميديا بعدئذ) أيضاً؛ أي على مناطق جبال زاغروس. (ول ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 394. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 95).
لكن فرعاً آرياً جبلياً جديداً، متمثلاً في الكاشّيين (كاشو= كاسّي= كاسّيت)، زحف من الجبال الشرقية، من منطقة لورستان في جبال زاغروس، بقيادة زعيمهم گانداش (جان داش) Gandash، ويقدّر زمن حكمه في حدود (1680 – 1665 ق.م). وفي عهد الملك الكاشي آگوم الثاني Agum II، في حدود (1580 ق.م)، أو في حدود (1532 ق.م)، هبط الكاشيون من حُلْوان (هاوْرامان)، على طريق خانِقِين، إلى وسط بلاد الرافدين وجنوبيها، واحتلّوا مدينة بابل، وكان الحثيون سبقوهم إليها، لكنهم تراجعوا بعدئذ، وأسس الكاشيون في بابل سلالة حاكمة تسمّى (سلالة بابل الثالثة)، وورثت معظم ممتلكات الدولة البابلية، واتّخذ آگوم الثاني لقب (ملك أكّاد وبابل). (دياكونوف: ميديا، ص 127).
وقد جاء في ثبت الملوك ذكر (36) ملكاً كاشياً، حكموا حوالي خمسة قرون ونصف، يقدّرها المؤرخون في حدود (1680 – 1157 ق.م)، وثمة اختلاف في مدة حكمهم؛ إذ يقدّر بعضهم أنه دام في جنوبي بلاد الرافدين حوالي (400) سنة، في الفترة (1580 – 1157 ق.م) أو (1532 – 1160 ق.م)، وفي عام (1157 ق.م) زمن (إنليل نادن آخي) آخر ملوك الكاشيين، ضعفت المملكة الكاشية، فهاجمها العيلاميون، وقضوا عليها، وما لبثت سلالة بابلية جديدة، هي السلالة الرابعة (1156 – 1025 ق.م)، أن برزت وانتزعت البلاد من أيدي العيلاميين. (دياكونوف: ميديا، ص 127. سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 68. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 103، 104).
وفي الوقت الذي كان فيه الكاشيون يهيمنون على بلاد الرافدين برز شعب جبلي آخر في غربي آسيا، إنه الشعب الحوريHorites, Hurrian(s)، وقد جاء الحوريون، حوالي نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، من المناطق الجبلية الواقعة في شمال شرقي بلاد الرافدين، وذكر جرنوت فلهلم أن موطنهم الأول كان يقع على جانبي المجرى العلوي لنهر دجلة وروافده الشرقية؛ أي شمال شرقي بحيرة وان (في شمال شرقي تركيا حالياً)، وسمّيت أحياناً (بلاد نايري)، وقد ” لعبوا درواً مهمّاً، في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، في نقل هذه الحضارة إلى سوريا وآسيا الصغرى”. (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص 24، 29).
وفي أوائل القرن السابع عشر قبل الميلاد تحرك الحوريون جنوباً وغرباً، وأسسوا عدداً من الإمارات، ثم برز فرع من الحوريين هم الميتانيون، فوحّدوا الإمارات الحورية تحت لواء مملكة مِيتاني، وامتد نفوذ تلك المملكة من كركميش (على الحدود السورية التركية) على الفرات حتى أرابخا (كركوك) شرقاً، وسيطر الميتانيون على حلب عاصمة الشمال السوري حوالي سنة (1475 ق.م). (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص 35. عدنان الحديدي، معاوية إبراهيم: تاريخ الشرق الأدنى القديم، ص 346).
وفي مرحلة من المراحل أصبح الميتانيون قوة كبرى في غربي آسيا، تنافس الآشوريين شرقاً، والحثيين شمالاً، والمصريين جنوباً وغرباً، وأفلحوا في بناء علاقات صداقة ومصاهرة مع فراعنة مصر، لكنهم لم يستطيعوا الصمود في وجه الحثيينHittites ، وانتهى الأمر بهم إلى التفكك والضعف، فانتهز الآشوريون الفرصة بين (1350 – 1300 ق.م)، وغزا الملك الآشوري أداد نيراري الأول بلاد ميتاني حتى الفرات، وخرّب العاصمة واشوكاني حوالي سنة (1300 ق.م)، وكانت نهاية الدولة الميتانية على يدي الملك الآشوري شالمانصّر الأول حوالي سنة (1275 ق.م)، واختفت مملكة ميتاني من التاريخ. (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص 59. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 62 – 63).
آشوريّون وميديّون
واستمرت عمليات الكر والفر بين شعوب الجبال وشعوب البوادي، ولك أن تقول: بين الآريين والساميين حسب المصطلحات المعتمدة عند معظم المؤرخين، فمنذ التقاء القرن (19 ق.م) بالقرن (18 ق.م) ظهر الآشوريون Assur في غربي آسيا، والمشهور أنهم شعب سامي، قدم إلى بلاد الرافدين من الغرب (من سوريا)، لكن ديورانت يقدّم رأياً آخر بشأن أصل الآشوريين، فيقول:
” وكان الأهلون خليطاً من الساميين الذين وفدوا إليها من بلاد الجنوب المتحضرة (أمثال بابل وأكّد)؛ ومن قبائل غير سامية جاءت من الغرب، ولعلهم من الحيثيين، أو من قبائل تمتّ بصلة إلى قبائل مِيتاني، ومن الكرد سكان الجبال الآتين من القفقاس”. (ول ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 496 – 470).
والمهم أن الآشوريين جاوروا شعب سوبارتو من ناحية الغرب، وشعب سوبارتو هو من أجداد الكرد، وكانت مملكتهم تقع في النصف الشمالي الغربي من إقليم كردستان العراق حالياً، وهو المثلث الواقع بين الزاب الكبير (الأعلى) والزاب الصغير (الأسفل) ونهر دجلة. ثم أسس الآشوريون دولتهم الأولى في حدود (1894 – 1881 ق.م)، وأبرز ملوكهم هو شمشي – أداد الأول Shamshi – Adad (1815 – 1782 ق.م)، وكان معاصراً ومنافساً للملك البابلي الشهير حمورابي، ثم قضى حمورابي على الدولة الآشورية في خضمّ مشروعه التوسعي الإمبراطوري. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 81 – 82. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 109).
وقام العهد الآشوري الوسيط في حدود (1594 – 912 ق.م)، وخاض ملوك هذا العهد صراعاً طويلاً ضد البابليين فالكاشيين فالحوريين (الميتانيين)، وبسقوط الميتانيين على أيدي الحثيين، ثم بضعف الحثيين أنفسهم، استعاد الآشوريون نفوذهم من جديد، وأقاموا إمبراطوريتهم الأولى بين (912 – 745 ق.م)، وأتبعوها بالإمبراطورية الثانية بين (745 – 612 ق.م).
وفي كلا العهدين كان ملوك آشور أصحاب مشاريع توسعية واحتلالية ضخمة، وحوّلوا مشاريعهم بالحديد والنار إلى واقع مفروض على جميع شعوب غربي آسيا، بدءاً من عِيلام وفارس وكردستان شرقاً إلى فلسطين غرباً، لا بل إن فتوحاتهم الإمبراطورية وصلت إلى إفريقيا عبر سيناء، وابتلعت مصر في عهد الملك أسرحدون Assurhadon (681 – 669 ق.م)، وفي عهد ابنه الملك آشور بانيپال Assur Panipal (669 – 629 ق.م)، وذاقت الشعوب في تلك الرقعة الجغرافية الهائلة جميع أشكال القهر والعسف والإذلال. (عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 113 – 120. وانظر عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 80 – 102).
وإذا كانت السيطرة الآشورية قد وصلت إلى مصر في إفريقيا؛ فهل يعقل أن تفلت منها المناطق الجبلية الشرقية والشمالية القريبة؛ أقصد جبال زاغروس وطوروس؟ بالطبع: لا؛ فكل دولة حملت مشروعاً إمبراطورياً في غربي آسيا كانت مضطرة إلى السيطرة على تلك السلاسل الجبلية؛ لأسباب متعددة، منها:
– أولاً: لوضع يدها على شبكة (طريق الحرير)، واحتكار واحد من أهم طرق التجارة العالمية في العالم القديم.
– وثانياً: للوصول إلى مناجم الحديد والفضة وحجر الديوريت الخاص لصنع التماثيل، وللحصول على الخيول والأغنام وغيرها من الموارد كالعسل.
– وثالثاً: لقمع الشعوب الجبلية المتطلّعة بدورها إلى التقدم غرباً نحو سهول بلاد الرافدين وساحل البحر الأبيض المتوسط.
لهذه الأسباب جميعها زحف ملوك آشور الأقوياء بجيوشهم القوية الشرسة نحو جبال زاغروس وطوروس، واجتازوا الممرات الضيقة، وتسلّقوا القمم الوعرة، وزرعوا الرعب حيثما وصلوا، ونهبوا المدن والقرى، ودمّروا كثيراً منها، وفتكوا بالسكان، ورحّلوا أقواماً من أوطانهم إلى ديار بعيدة، وأسكنوا آخرين بدلاً منهم، وساقوا الأسرى في السلاسل إلى آشور ونينوى، وحوّلوهم إلى عبيد. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 95، 102. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 110 – 121).
والحقيقة أن شعوب غربي آسيا لم تستسلم للسلطة الآشورية، وفجّرت الثورات بين حين وآخر، وكان سكّان المناطق الجبلية في زاغروس وطوروس- وقد سميت تارة (گوتيوم)، وأخرى (ميديا)، وبعدئذ (كردستان)- من أكثر الشعوب ثورة على الدولة الآشورية، وحينما يقرأ المرء المدوَّنات التي افتخر فيها ملوك آشور بأمجاد غزواتهم وفتوحاتهم، يستطيع القول بثقة: إن أجداد الكرد كانوا، معظم الأحيان، في طليعة الثائرين.
وجاء دور الأقوام الجبلية في أخذ زمام المبادرة، والتصدّي للسلطات الآشورية، وكان الاتحاد الميدي رأس الرمح في ذلك الاختراق، وقد ثار الميديون مرة تلو أخرى خلال القرنين (9، 8 ق.م)، ودفعوا ثمناً باهظاً من الممتلكات والأرواح، في عهد الزعيم الميدي دياكو (ديوكو= دايؤوك) Dioces، وفي عهد ابنه فراورت (فراورتيس) Phraortesويسمّى (خَشْتريت) أيضاً، وفي السنوات الأولى من عهد حفيده كَيْخُسرو Kai-Khosru ، ويسمّى (كي أخسار= كيكسار = سياشاريس) Xsayarsa أيضاً، وعلم الميديون أن القوة المسلحة وحدها لا تحقق النصر على القوة الآشورية الضاربة، وقام كيخسرو بإنجازين ستراتيجيين:
– الأول: توحيد فروع أجداد الكرد في زاغروس وطوروس، وبسط السيطرة على عِيلام وفارس جنوباً، وعلى أرمينيا شمالاً.
– والثاني: عقد تحالف ستراتيجي مع البابليين الذين كانوا يعانون من قهر السلطات الآشورية.
واستطاع الميديون وحلفاؤهم، بعد جهود مضنية ومعارك ضارية، السيطرة على العاصمة الدينية (آشور)، ثم السيطرة على العاصمة السياسية (نينوى)، وإسقاط الإمبراطورية الآشورية، وتحرير جميع شعوب غربي آسيا من قبضتها الحديدية، وكان ذلك عام (612 ق.م). (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 70. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 68. طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 41).
إن سقوط الإمبراطورية الآشورية على أيدي الميديين وحلفائهم ترك أثراً طيباً في نفوس شعوب غربي آسيا، وظهر صدى ذلك في العهد القديم، فقد جاء في سِفر ناحوم، وكان من الأسرى العبرانيين في بلاد آشور:
” نَعِسَتْ رُعَاتُكَ يَا مَلِكَ أَشُّورَ. اضْطَجَعَتْ عُظَمَاؤُكَ. تَشَتَّتَ شَعْبُكَ عَلَى الْجِبَالِ وَلاَ مَنْ يَجْمَعُ. لَيْسَ جَبْرٌ لانْكِسَارِكَ. جُرْحُكَ عَدِيمُ الشِّفَاءِ. كُلُّ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ خَبَرَكَ يُصَفِّقُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَيْكَ، لأَنَّهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَمُرَّ شَرُّكَ عَلَى الدَّوَامِ؟ “. (العهد القديم، سفر ناحوم، الأصحاح الثالث، الآيات 18 – 19).
وبسقوط الإمبراطورية الآشورية تغيّرت المعادلات السياسية في غربي آسيا، وظهرت أربع دول متنافسة:
– الأولى: هي الدولة الميدية في جبال زاغروس وطوروس، وفي أذربيجان وعيلام وفارس، وغرباً حتى نهر هاليس (قزيل إرماق) في الأناضول.
– والثانية: هي الدولة البابلية، وقد تقاسمت مع حليفتها الدولة الميدية ممتلكات الإمبراطورية الآشورية، فكان نصيبها بلاد الرافدين، وبلاد الشام، وشمالي شبه الجزيرة العربية.
– والثالثة: دولة ليديا، وكانت تسيطر على آسيا الصغرى، من نهر هاليس إلى مضيق البُوسفور والدَّرْدَنيل (غربي تركيا حالياً).
– والرابعة: الدولة المصرية، وكانت تنافس البابليين في بلاد الشام.
وظل الحلف الميدي- البابلي متماسكاً في عهد الملك الميدي كَيْخُسرو والملك البابلي (الكلداني) نابوبلاصّر، وتعزّز بزواج ولي العهد البابلي نبوخذنصّر من الأميرة الميدية آميد (أميتس) حفيدة الملك الميدي، ولأجلها بنى نبوخذ نصّر الحدائق المعلَّقة في بابل.
وبفضل ذلك التحالف الوثيق أمسك الملكان بالورقة الرابحة في ميدان التنافسات الإقليمية، وكانت دولة ليديا والدولة المصرية قد تحالفتا مع الدولة الآشورية ضد الحلف الميدي- البابلي، لكن الحلف الميدي- البابلي حقق النصر على الدولة المصرية في معركة كركميش عام (605 ق.م)، وانتزع منها بلاد الشام. (طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 41. دياكونوف: ميديا ، ص 302).
ثم خاض الميديون الصراع ضد دولة ليديا، بسبب السكيث الذين كانوا قد غزوا ميديا قادمين من شمالي البحر الأسود، وتحالفوا مع الدولة الآشورية، ولما سقطت الدولة الآشورية لجأوا إلى ليديا، وحماهم الملك الليدي إلياتِّس، وانتهت الحرب بتوقيع معاهدة سلام وتحالف بين ميديا وليديا سنة (597 ق.م) على الأرجح، وتعزّزت المعاهدة بزواج ولي العهد الميدي أستياگ (أستياجس) بن كيخسرو من إريينس ابنة الملك الليدي إلياتِّس، ومر غربي آسيا بعهد من الاستقرار والازدهار دام حوالي نصف قرن. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 63 – 64. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 87. ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 401).
ولا ننسى- ونحن نستعرض هذه الأحداث التي جرت في غربي آسيا طوال حوالي ثلاثة آلاف عام- أن موضوعنا الأساسي هو البحث عن جذور (مشروع أبلسة الكرد)، وأحسب أننا أصبحنا الآن أقدر على التنقيب عن تلك الجذور بوضوح وموضوعية، وهذا ما سنحاوله في الحلقة القادمة.
المراجع
1. بونغارد – ليفين (إشراف): الجديد حول الشرق القديم، دار التقدم، موسكو، 1988.
2. جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ترجمة محمد طلب، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 1990.
3. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.
4. الدكتور سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، منشورات الجمعية التاريخية العراقية، بغداد، 1975.
5. سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر، دار الرقي، بيروت، 1986.
6. صمويل كريمر: من ألواح سومر، ترجمة الأستاذ طه باقر، مكتبة المثنّى، بغداد، ومؤسسة الخانجي، القاهرة، 1970.
7. الشيخ الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، دار سَحْنون للنشر والتوزيع، تونس، 1997.
8. الأستاذ طه باقر، الدكتور فوزي رشيد، الأستاذ رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1979.
9. الدكتور عبد الحميد زايد: الشرق الخالد (مقدمة في تاريخ وحضارات الشرق الأدنى من أقدم العصور حتى عام 323 ق.م)، دار النهضة العربية، القاهرة، 1967.
10. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى (دراسة في التاريخ السياسي والحضاري القديم لبلاد الرافدين)، دار المعرفة، دمشق، الطبعة الأولى، 1988.
11. الدكتور عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1990.
12. الدكتور عدنان الحديدي، الدكتور معاوية إبراهيم: تاريخ الشرق الأدنى القديم، جامعة القدس المفتوحة، عمّان، الطبعة الأولى، 1994.
13. فرنسس دافدسن، آلان م. ستبز، أرنست ف. كيفن: تفسير الكتاب المقدس، دار منشورات النفير، بيروت، الطبعة الثالثة، 1986.
14. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى.
15. ﮪ. ج. ولز: موجز تاريخ العالم، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958،1991.
16. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.
17. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973.
18. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959.
وإلى اللقاء في الحلقة السادسة عشرة
د. أحمد الخليل في 10-05-2009
[1]