معد فياض
خلال زيارة لي مع عالمة الاجتماع، لاهاي عبد الحسين، وهي استاذة متمرسة في قسم الاجتماع بكلية الاداب بجامعة بغداد، لمعبد الديانة الايزيدية، لالش، ورصدها لمستوى الاستقبال الذي حظينا به من قبل القائمين على خدمة المعبد وزواره، قالت: تستطيع أن تلمس الروح والنزعة المسالمة في عيون الايزيديين لمجرد ملاقاتهم.
وابدت رفضها وصف العراقيين ب (المكونات)، وحسب رأيها فإن: مفردة (المكونات)، دخيلة مفترضة وسيئة لأنها تثبت التفرقة والتباين بين الجماعات المتعددة، معتبرة ان النظام السياسي في العراق بعد 2003 استخدم التنوع القومي والديني والمذهبي استخداماً سيئاً.
لاهاي عبد الحسين، وهي تشرف وتناقش اطروحات اكاديمية لمنح شهادات الدكتوراه في جامعات عراقية، بضمنها في اقليم كوردستان، قالت في حوار لشبكة رووداو الاعلامية اليوم الاحد (31 -03-2024) عن اوضاع المجتمع العراقي: للأسف ان ما يجري في الجامعات العراقية وبخاصة خارج اقليم كوردستان وضع مقلق، منبهة الى ان سلسلة الفضائح الاخلاقية التي يذهب ضحيتها المستضعفون في هذه المؤسسات كالطلبة وصغار الموظفين والموظفات تتطلب خروجاً عن النص الذي يتخذ من الاداء الروتيني الرتيب حجة.
يذكر ان لعالمة الاجتماع لاهاي عبد الحسين العديد من المؤلفات في علم الاجتماع منها: الملامح الاجتماعية في أعمال عدد مختار من الفلاسفة العرب المسلمين، ومقدمة في علم الاجتماع، وفي علم إجتماع الحياة العامة، ونساء عراقيات - وجهة نظر اجتماعية، ومصطلحات ونصوص اجتماعية باللغتين العربية والإنكليزية. نظريات اجتماعية (سوسيولوجية)، اضافة الى ترجمتها عدداً من الكتب منها: العرقية والقومية.. وجهات نظر انثروبو لوجية، وكتاب العلاّمة علي الوردي في علم إجتماع المعرفة، من الادب الى العلم.
وأدناه نص الحوار:
رووداو: هل لنا ان نقول المجتمع العراقي أمالمجتمعات العراقية؟
لاهاي عبد الحسين: لا شك ان العراقيين مجتمع واحد. تعرفه من سحنة الوجوه ونبرة الصوت، واللغة المتعارف عليها، والمقولات الشائعة المستخدمة تعبيراً عن العظة والحكمة المعتبرة، وتعرفه أيضاً من مقدار النقد والتنابز والتذمر والتضامن في حالات مثل تحقيق فوز كروي أو تلمس هجمة ما. المجتمع العراقي اقوى وأكثر رسوخاً مما يُعتقد.
رووداو: هل يأتي تصنيفنا للمجتمع او المجتمعات العراقية حسب بيئاتها القومية او الدينية ام المذهبية او الجغرافية؟
لاهاي عبد الحسين: التنوع حسب الجماعة العرقية (عرب وكورد وتركمان وجماعات اخرى)، وحسب الدين (مسلمون ومسيحيون وديانات صغيرة اخرى)، وحسب الطائفة (شيعة وسنة وطوائف صغيرة اخرى). كل هذه طبيعية ومن النادر ان تجد مجتمعاً يخلو منها، ولكن المشكلة بالإدارة التي تفرّق وتحابي وتقمع على الضد، مما يتوجب عليها عمله في المساواة أمام القانون وفي المصالح والامتيازات.
رووداو: انت لا تفضلين اطلاق وصفالمكونات العراقية، ما هو التوصيف المناسب حسب رايك؟
لاهاي عبد الحسين: مفردة المكونات، مفردة دخيلة مفترضة وسيئة لأنها تثبت التفرقة والتباين بين الجماعات المتعددة. اليوم هناك مؤسسات عمل ومدارس وجامعات ومؤسسات ثقافية وسياسية تستوعب الجميع وفق برامجها وغاياتها التي يفترض أن ترتبط بالصالح العام والمسؤولية الأخلاقية. الحياة الحديثة بإيقاعها المتسارع اليوم، تتطلب جهد الجميع وتتطلب التنوع المتكامل مع بعضه البعض. يصنع البصريون نوعاً من أنواع الحلويات معتمدين على تمر البصرة ولكنهم لا يتخلون عن راشي الموصل. بالمثل، تتطلب جامعات المحافظات المتعددة كفاءات من بعضها البعض. وحتى على صعيد السياسة فإن توسم شخصية مختلفة عن الوسط السائد في المحافظة قد يمكنه من وضع رؤية اكثر حيادية وعدلاً.
رووداو: يُفترض ان يكون التعدد القومي والديني والمذهبي اغناءً ثقافياً لأي مجتمع في العالم، لكن في العراق تحول الى نقاط ضعف وخلاف واقتتال. ما السبب بذلك؟
لاهاي عبد الحسين: استخدم التنوع القومي والديني والمذهبي استخداماً سيئاً من قبل من قام على تأسيس النظام السياسي في العراق بعد 2003 لأنه منح المناصب العليا وما يلحقها من امتيازات بأشخاص ضعفوا امامها. فكان أن فكروا بالأبناء والمعارف والأصحاب وتركوا جانباً وظيفتهم الوطنية العليا لإصلاح ما فعلته السياسة من تفرقة وتمايز عمل عليها النظام السابق بمقاصد ضيقة ايضاً. كان يمكن للجماعات المختلفة سياسياً أن تتنافس لخدمة المجتمع، ولكن الميل إلى الاستئثار والغلبة والتسلط حوّل الجبهة الوطنية والقومية التقدمية مثلاً إلى مقبرة ضمت رفات عراقيين ماتوا ودفنوا فيها، أو اختاروا الشتات في أرجاء الدنيا الواسعة يحصدون خيبتهم وثمرة الثقة التي زرعوها في حلفائهم. اليوم، الكل يدفع ثمن سياسات التهور والغلبة والاستئثار بالمنصب والوظيفة وما يلحق بها من امتيازات.
رووداو: هل تعتقدين ان الانقسامات الدينية والقومية والمذهبية التي ظهرت بقوة بعد 2003 كانت موجودة، أم أنها ظاهرة جديدة على العراقيين؟
لاهاي عبد الحسين: لا اقول الانقسامات، وانما التباينات الطبيعية موجودة وقد يتصرف الناس بمقتضاها على صعيد الخاص في حياتهم كما في الزواج والسكن وحتى الصداقة. وكان يمكن للسياسة الحكيمة ان تنتزع المخاوف وانعدام الثقة والمحاذير لو انها دفعت باتجاه حياة اجتماعية تكفل للمجد والكفوء فرصته / فرصتها في الحياة الحرة الكريمة. ولكن الادارات الجاهلة برؤيتها الضيقة لم تنجح في إدامة أواصر التماسك والتضامن. فكان أن تركت تلك العلاقات والترتيبات الاجتماعية هشة قابلة للانتهاك كما حدث بعد 2003. لم يحظ العراق للان بإدارات سياسية تتسم بكفاءة وطنية متمكنة تعمل على ترتيب الواقع ليكون اساساً صلباً للمستقبل. وهذا ممكن من خلال الاهتمام بتنويع مصادر الدخل القومي من خلال تنشيط الزراعة والصناعة وحركة البناء وتقديم الخدمات.
رووداو: في معبد لالش وصفت الايزيديين بالمسالمين. هل تعتقدين ان اديان الاقلية تكون مسالمة حفاظاً على وجودها نتيجة شعورها بالضعف، أم أن هذه صفة الاقليات؟
لاهاي عبد الحسين: تستطيع أن تلمس الروح والنزعة المسالمة في عيون الايزيديين لمجرد ملاقاتهم. كلهم يبتسمون بدعة ومحبة ونوع من المحاذرة في التعامل مع الغريب. وهذا طبيعي لممارستهم الحياة كجماعة في مناطق معزولة نسبياً. قدمت الحكومات العراقية خدمات معينة لهم. مكنت ابناءهم من اللحاق بالمدارس والجامعات وسمحت لهم بتغيير مكان السكن ليعيشوا في محافظات قريبة نسبياً كما في أربيل ودهوك والسليمانية. وقد أظهروا انهم عنوان للتميز والإخلاص. النزعة المسالمة قرينة الجماعات صغيرة الحجم في مجتمع يضم جماعات ضخمة وكبيرة، وقد تكون هنا وهناك مهددة. لذلك، كان يمكن تطمين مشاعرهم وضمهم واستيعابهم مع احترام نظم اعتقاداتهم وعدم التجاوز عليها او الاستهانة بها. ولكن الذي حدث عام 2014 (احتلال تنظيم داعش الارهابي لمناطقهم في سنجار وسبي بناتهم وقتل رجالهم) قوض كل أحلامهم، وترك اثاراً لا تمحى في ذاكرتهم. سيبقون مسالمين بحكم التوزيع غير المتوازن بينهم كجماعة من جهة، وبين الجماعات لمحيطة بهم من كورد وعرب من جهة أخرى، ولكنهم لن يحذفوا ما خدش ذاكرتهم الفردية والجماعية أبداً، بتقديري.
رووداو: يُفترض بأبناء الريف ان يتحضروا عندما يعيشون في المدن الحضارية الكبيرة، لكن ما حدث ويحدث في العراق انهم ريفوا المدينة وأثروا سلبياً على تمدنها. ما السبب باعتقادك؟
لاهاي عبد الحسين: عندما يسمح بهجرة كيفية بلا إدارة واهتمام يكون من الطبيعي أن ينقل الإنسان مقاييسه ومعاييره التي اعتاد عليها لتمشية ظروف حياته. في الماضي، كان الناس يقومون بقرارات صعبة عندما يقررون الهجرة ليحققوا نقلة في حياتهم عن طريق الدراسة أو العمل. ولكن الهجرة مؤخراً صارت بحثاً عن ملجأ آمن بعيداً عن مطاردة سياسية او تهديد عشائري، أو مصدر للعيش بصورة أفضل. ولما لم يجد هؤلاء من يعينهم على التكيف لظروف الحياة في المدينة، فقد التصقوا بما درجوا عليه وتمسكوا به كما في حالات النزاعات أو الوفيات. فكان أن نقلوا قيمهم وأشاعوا سلوكياتهم. دول العالم توفر ادارات تعنى بشؤون القادمين اليها من بلدان أخرى بصفة لاجئين أو مهاجرين. وهذه تتضمن ليس فقط اماكن يقيمون بها لفترة ما، وانما حتى مدارس لمساعدة ابناءهم على التكيف والانتقال إلى نمط الحياة الاجتماعية المنتظرة. هذا إلى جانب دروس لتعلم لغة البلد المضيف. ولكننا هنا نترك الأمور على الغارب مما يسلط الضوء على مقدار التخلف والتقاعس المهني لدى الجهات المعنية كما في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة التربية والتعليم وامانة العاصمة وغيرها مما يمكن أن يساهم بتصحيح المسارات.
رووداو: كاستاذة جامعية، باعتقادك ما هو سبب تخلف المجتمع الجامعي، على العكس مما كانت عليه الجامعات العراقية باعتبارها مراكز تنوير للمجتمعات؟
لاهاي عبد الحسين: للأسف ما يجري في الجامعات العراقية وبخاصة خارج اقليم كوردستان وضع مقلق. هناك استهلاك للكفاءات من حيث ثقل العمل وبخاصة على صعيد المحاضرات دون الاهتمام بتوفير ظروف البحث العلمي وأهمها المال والتفرغ البحثي. وهناك شحة في البعثات والاستضافات والمشاركات الدولية. هناك شحة مشهود لها على مستوى النشر في المجلات العربية والعالمية المحكمة. وفي الوقت نفسه، هناك استهانة بنظم الجودة بحيث تجد نفسك منبهراً بسير ذاتية تبدع بتسجيل نشاطات لا قيمة لها حقيقية بالواقع، وحتى وهمية. صرنا كمن يتقن لغة حديثة ولكننا لا نفهم شيئاً عن معانيها والمقاييس الدقيقة الملحقة بها. ويمكن أن نضيف إلى ذلك سلسلة الفضائح الاخلاقية التي يذهب ضحيتها المستضعفون في هذه المؤسسات كالطلبة وصغار الموظفين والموظفات. هذه أمور تتطلب خروجاً عن النص الذي يتخذ من الاداء الروتيني الرتيب حجة. لا يكفي الدعوة لما يسمى بالتوعية الفارغة دون دعمها باجراءات تنظيمية حازمة تضع للمتجاوزين عقوبات صارمة يمكن ان تطال عملهم ومصالحهم بصورة مباشرة. فما قيمة أستاذ جامعي يمايز بين طلبته، أو يبتز بعضهم بحكم سلطته في تحديد الدرجة العلمية او الشهادة الممنوحة؟ الدرجة والشهادة العلمية محكومة بمستوى اداء يمكن ان تحكم عليه لجنة مستقلة تحظى بالموضوعية والأهلية وتسهم بحماية حقوق الطلبة في حال تعرض الطالب / الطالبة للظلم. نحن في وضع خطير للغاية ما لم توضع مدونات يجبر المعنيون من أساتذة وطلبة وإدارات علمية على احترامها والمساهمة بصونها وتشريفها.[1]