كيف يعدم الكردي ذاته - الجزء الثاني
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 4977 - #06-11-2015# - 20:02
المحور: القضية الكردية
والكارثة الثانية، الخلاف على تدريس اللغة الكردية وليس على العملية ذاتها، فمن ضرورات المرحلة التوافق على منهجية مشتركة، وإغلاق أبواب الصراع العشوائي حوله. التدريس باللغة الكردية كان وسيستمر من أحد أهم المطالب القومية لكلية الحركة السياسية الكردية وعلى جميع المراحل النضالية، وكان البند الوحيد الذي لم تتنازل عنه الأحزاب رغم كل ضغوطات المراكز الأمنية، والقوانين الجائرة، وهو المطلب الذي لم يسكت عنه أي معتقل سياسي كردي ولم يخفيه، وكان حلم الشعب.
من المعروف أن السلطات هي التي تضخ المفاهيم وتثبتها، بقدر هيبتها وقدراتها المادية، وعملية التدريس ونشر لغة معينة وتكريسها، ترسخها عن طريق خلق جملة من العوامل، أولها الترهيب أو الترغيب (كالفترة التي نشرت فيها اللغة العربية في بدايات الإسلام) ومن ثم العامل المادي، فالهيئة التدريسية عندما تفرض عليه الحاجة من جهة ويؤمنها له من جهة أخرى، يتنشط، ويخدم بتفاني إذا كانت مرافقة مع القناعة، ولا بد للسلطة من أن تخلق معها عامل الأمان والاطمئنان للهيئة العاملة وللشعب، والاطمئنان ليس فقط بالواقع الجاري بل بالمستقبل الذي سيبنى على هذه اللغة، أي تهيئة المجتمع وإقناعه وخلق الثقة بينهم، حينها تجد السطات الدروب مفتوحة لها لبث ما ترغبه.
تتفاقم ظاهرة عدم الثقة بين الشعب الكردي، والمؤدية إلى النزوح الكارثي، ولديمومتها وتسريعها، لم تكتفي السلطة بإثارة عامل التجنيد الإجباري للشباب بين فترة وأخرى، وتوسيع هوة الخلافات بين الأحزاب الكردية، بل دفعت بالحركة الكردية في غربي كردستان، إلى توسيع هوة الخلاف وليس الاختلاف على المطلب القومي الدائم، وهي كما ذكرنا، التدريس باللغة الكردية، بعرضها مع جملة من السلبيات والطرق الخاطئة، ومعارضتها من قبل بعض الأحزاب بأساليب لا تقل عنها خطأ، باستثناء انتقادات وطروحات بعض الكتاب الذين حللوا القضية بطرق منهجية، وفي مقالات نشرت على المواقع الكردية، وبثت بعضها في الإعلام، ورؤى وأراء وزعت على أصحاب القرار والجهات المسؤولة، وللأسف بقيت تلك الأبحاث المختصرة في طي العتمة وبشكل مخطط، ولم تحفز أصحابها للتوسع فيها، وكانت غايات هؤلاء الكتاب والباحثين نقية، بعكس الانتقادات الحزبية المبنية على الخلفية السياسية، والصراعات الحزبية، الخالقة لواقع سلبي أبشع من عملية التدريس بشكلها الجاري، والطرفان بأساليبهم لا يقتربون من حل القضية، بل يحفزون نزعة عدم الثقة بين الشعب، بلغته مثلما هي موجودة بحركته السياسية. ذنوب الأحزاب المعارضة في هذه القضية أمام الشعب وفي خلق عدم الثقة، وتوسيع هوة الخلاف على العملية، لا تقل عن ذنوب القائمين على عملية التدريس ومنهاجها وبشكلها الجاري.
العديد من العائلات ستنزح، تحت مفهوم تحرير أطفالهم من المسيرة الدراسية الخاطئة، لظهور عدم الثقة، وفيه بعض الحقيقة، والأحزاب السياسية المعارضة على الخلفية السياسية لا العلمية القومية، متهمون مثل الأخرين، مثلما هم متهمون في معارضة أحد أهم متطلباتهم القومية تحت حجج يمكن التوقف عليها ووضع حلول لها.
لسنا خبراء ومختصون بعملية التدريس وطرقها ومناهجها، لذلك لا أعطي لذاتي حق اقتحامها بأبعد مما هو مسموح لي كشخص مارس مهنة التدريس وقضى أكثر من خمسون سنة في مجالاتها كطالب ومدرس، وناشط في المراكز العلمية والدراسات الاستراتيجية الثقافية وفي دول وجامعات متعددة.
رفوف مكاتب اللغة الكردية فارغة من المراجع، ومن جميع المجالات، العلمية والأدبية، ومن النادر جدا أن نجد عمل لفيلسوف أو أديب عالمي أو كتاب علمي أو تاريخي مترجم إلى الكردية وبالحروف اللاتينية واللهجة البهدينانية، إن لم تكن معدومة. واقع لغوي ضحل بل وكارثي، اشتغلت عليه السلطات العنصرية وعلى مدى قرون، ويجب الاعتراف بهذا النقص، والكرد يحتاجون إلى عقود من الزمن تفرز للعمل على الترجمة الواسعة، وحركة تثقيفية مكثفة، لبلوغ واقع الاكتفاء الذاتي من المراجع للحصول على المعرفة العلمية وتسخيرها لكتابة بحوث معرفية وإقامة دراسات علمية أو أدبية باللغة الكردية.
لهذا ففرض اللغة الكردية كمصدر وحيد لمنبع معلومات الطفل، عملية استباقية لهدم مستقبله، وأسلوب خاطئ لخلق جيل لن يملك من الخلفية الثقافية إلا القراءة والكتابة بلغته الأم. ولتدارك هذا الخطأ، لا بد من إشراك لغة أخرى عالمية ومنذ البدايات مع اللغة الكردية في التعليم، ليتمكن من مجاراة الأخرين بذخيرته المعلوماتية، والخلفية الثقافية، والتمكن من اقتحام الأروقة العلمية والمعاهد وغيرها على سوية معرفية مناسبة، فبدون لغة عالمية، سيظهر جيل أمي، والأمية في عصرنا هذا لا تعني عدم القراءة والكتابة، بل الخلفية الثقافية، والمعرفية. وعندما يتناول النقاد عملية تدريس اللغة الكردية بمطلقه في الصفوف الثلاث الأولى، وطغيانها وتكثيفها في الصفوف اللاحقة، يتعرضون بشكل أو آخر إلى هذه القضية. وإشكالية فصل الصفوف على مبدأ العرق، والمبان من خلال اللغة، سلبية لا بد من دراستها بين جميع الأطراف الثقافية السياسية والاختصاصيين.
ونحن هنا لسنا بصدد انتقاد سوية الكادر التعليمي ولربما يصح فيهم الوجهان، فالواقع الكردي فرض عليه عدم كمالية الكادر التدريسي بلغته، والماضي يفصح عن ذاته، وهذه يمكن دراستها والوقوف عليها والتعامل معها، وتصحيحها وتقويتها مع مرور الزمن، وعلينا أن نعترف بأننا نبدأ من الصفر وخاصة في غربي كردستان، كتدريس منهجي، ولا نعني محو الأمية، لكن ما لا يمكن تصحيحه، هو انتشار عدم ثقة أولياء الأمر بعملية تدريس لغة الأم، وكأنه انتحار ذاتي، ولا تقل خطورتها عن خطورة النزوح عن الوطن، فبلوغ الكردي مرحلة عدم الرغبة بتعلم لغته تعد كارثة، وعليه يجب على أصحاب القرار تدارك الجاري، وإلا فالمشكلة ستتفاقم، في قادم الزمن، وستبلغ مرحلة لن يكون من السهل حلها.
والأخطر هي المواد المعروضة في البرامج، كما سمعنا ومن جهات متنوعة، وللأسف ليس لنا اطلاع مباشر عليها. ومعظمهم يركزون على الأخطاء اللغوية وكثرة الكلمات التركية والعربية المستخدمة عوضا عن الكردية، وتحدث عنها أحد الإخوة المختصين باللغة في إحدى الإذاعات الكردية في عاموده كما أظن، وتطرق في حواره إلى العديد من الأخطاء الأخرى، وهي وبلا شك من مهمة الاختصاصيين باللغة الكردية، والتي يجب أن يكونوا من الذين يعرفون اللغتين العربية والتركية لتدارك الالتباس بينهم. والأهم والأخطر عملية أدلجة الطفل، بمفاهيم وأيديولوجية حزبية، والتي تعد جريمة بحقه وتدمير لمستقبله. وقد أثبتت الدراسات العلمية وعلى مر التاريخ، عدم صلاحية المناهج المؤدلجة، وعدم ديمومتها، وتبينت من خلال دراسة التاريخ أن طغيان الفكر الحزبي لا يستمر في أفضل حالاته إلا عقود، ويزول المفهوم مع زوال السيطرة الانفرادية، ليعود الإنسان إلى مراجعة سلبية لماضيه وتنقية المعلومات التي ضخت إليه في طفولته...
يتبع...
[1]