حكومات العراق المحلية وتوافقات الامر الواقع
مقالات/ عادل الجبوري
اشرت المخرجات النهائية لانتخابات مجالس المحافظات التي جرت في العراق في الثامن عشر من شهر كانون الاول-ديسمبر 2023، المتمثلة بتشكيل الحكومات المحلية، الى جملة حقائق ومعطيات، لايمكن بأي حال من الاحوال تجاهلها والقفز عليها، في اي قراءة وتحليل وتقييم للمشهد العراقي العام، ولا في اي رؤية استشرافية لطبيعة وظروف المرحلة او المراحل اللاحقة، لاسيما المتعلقة منها بالانتخابات البرلمانية القادمة المقرر اجراؤها منتصف-او اواخر- عام 2025، وفرص استمرارية وبقاء رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني في منصبه لولاية ثانية، وتأثير عودة التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر الى العملية السياسية، ومالات الملفات والقضايا الاشكالية العالقة بين الحكومة الاتحادية واقليم كردستان، ومصير الوجود الاجنبي- الاميركي في العراق، ومدى قدرة القوى والشخصيات السياسية التقليدية الماسكة بزمام الامور اليوم، بالاحتفاظ بمواقعها ونفوذها وهيمنتها في ظل بروز وصعود قوى وشخصيات جديدة، ربما جاءت من رحم القوى التقليدية القديمة.
ومن بين ابرز هذه الحقائق والمعطيات هي عدم مغادرة الاساليب والسياقات السابقة في توزيع المواقع والمناصب بين القوى السياسية، المتمثلة بالترضيات والمساومات والصفقات والتنازلات المتبادلة بين الشركاء والفرقاء، مما ترك -او رسخ- انطباعات سلبية واضحة، مفادها ان المسارات الحالية، يمكن ان تعيد انتاج وتدوير المشاكل والازمات السابقة، كالفساد الاداري والمالي، وضعف الخدمات، والتكالب والتدافع المحموم على المكاسب والامتيازات.
ولعل الاعم الاغلب للمحافظات الخمسة عشرة، شهدت كواليسها السياسية الكثير من الشد والجذب قبل ان يتم اختيار محافظيها ونوابهم، ورؤساء مجالسها ونوابهم.
فمحافظات البصرة وكربلاء وواسط، التي الت الامور فيها الى محافظيها السابقين-الحاليين، بعدما حصدت قوائمهم الانتخابية اغلبية المقاعد، وبعدما فشل الاطار التنسيقي في ازاحتهم عن مواقعهم، رغم اعلانه المبكر انه يتجه الى استبدال كل المحافظين بمحافظين جدد.
ولاشك ان هذا الامر يعد مؤشرا اوليا على تشكل وتبلور مراكز قوى جديدة، ربما سوف يكون لها حضور مؤثر الى حد ما في الانتخابات البرلمانية المقبلة، قد يمتد الى مساحات نفوذ الاطار التنسيقي.
والشيء الاخر، ان هناك محافظات اخرى، انتهت فيها الامور الى توافقات وتفاهمات هشه وقلقة، عبر توزيع وتقاسم المواقع العليا فيها بين شركاء الاطار التنسيقي بطريقة تجعل كل طرف يمسك بيد الطرف الاخر ويمنعه من التحرك والعمل الا وفق حسابات وتفاهمات مصلحية خاصة.
في حين بقيت الامور معلقة في اكثر من محافظة حتى كتابة هذه السطور، كما هو الحال في ديالى وصلاح الدين وكركوك، بسبب طبيعة تركيبتها السكانية ذات الطابع القومي والمذهبي والطائفي المتنوع، ناهيك عن تقارب نتائج انتخاباتها بين المتنافسين، بحيث لم يكن بأمكان اي طرف حسم الامور لصالحه بسهولة.
والملفت ان الخلافات والتقاطعات في هذه المحافظات، لم تنحصر في دائرة القوى والكيانات المختلفة قوميا ومذهبيا وطائفيا، بل انها امتدت الى دائرة القوى والكيانات ذات اللون الواحد، ففي محافظة ديالى، خرج الخلاف من دائرة حزب تقدم بزعامة محمد الحلبوسي وحزب السيادة بزعامة خميس الخنجر الى دائرة قوى شيعية منضوية تحت مظلة الاطار التنسيقي.
وكذلك فانه في كركوك تداخلت وتشابكت الخلافات والصراعات بين دوائر القوى الكردية والتركمانية والعربية بشكل حاد وخطير، دفع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الى التدخل من خلال اللقاء بالفرقاء وتشكيل لجنة برئاسته تتولى مهمة حل وانهاء الخلافات في تلك المحافظة التي تمتاز بخطورة وحساسية اوضاعها السياسية والامنية والمجتمعية.
في حين ان محافظ صلاح الدين احمد الجبوري، الذي تم اختياره من قبل مجلس المحافظة وفقا للارقام الانتخابية والصفقات السياسية، لم يتح له التربع على كرسي المحافظ بعدما رفضت رئاسة الجمهورية اصدار المرسوم الجمهوري الخاص بتنصيبه وذلك ارتباطا بملفه القضائي الحافل باحكام جرمية عديدة، وهو ما تسبب بقدر كبير من الارباك والمزيد من الصراع بين الفرقاء للاستحواذ على المنصب.
ورغم انه في كل الاحوال لابد ان تنتهي الامور الى تفاهمات وتوافقات الامر الواقع بطريقة ما، الا ان مجرد التأخير في انجاز ما هو مطلوب، يعكس عمق المشكلات وحجم تعقيداتها، ولاشك ان هناك فرقا كبيرا بين سياقات واضحة تنتج ادارات قوية ومتماسكة ورصينة، وبين مسارات متعثرة تكون مخرجاتها ونهاياتها عبارة عن ادارات ضعيفة وقلقة وهشة، وهذا ما متوقع ان يحصل في كركوك وديالى وصلاح الدين، ناهيك عن ذلك، فان المحافظين المتصدرين الذين نجحوا في الاحتفاظ بمناصبهم التنفيذية رغما عن الاطار التنسيقي لن يكونوا بمأمن من الاستهداف والاقصاء متى ما سنحت الظروف بذلك.
ليس هذا فحسب، بل ان معادلات التقاسم والتحاصص الترقيعي القلق لعدد من محافظات الجنوب والفرات الاوسط بين اطراف الاطار التنسيقي، من الصعب ان توفر ارضيات ومناخات سليمة وهادئة بصورة حقيقية للعمل الخدمي العام، اكثر منها للتنافس والتدافع والتخادم الضيق.
بيد ان الصورة المتشائمة والقاتمة الى حد كبير للحكومات المحلية الجديدة، قد تحسنها نوعا ما منهجية الحكومة الاتحادية المستندة الى تقديم الخدمات ومكافحة الفساد وتصحيح المسارات الخاطئة للحكومات السابقة، فرئيس الوزراء محمد شياع السوداني اشار قبل ايام الى ان الحكومات المحلية تمثل اذرعا للحكومة الاتحادية، وهذا يفرض عليها-اي الحكومات المحلية-ان تعمل بنفس ايقاع الحكومة الاتحادية، حتى تكتمل صورة النجاح وتترسخ عناصره ومقوماته.
وهنا فأن اليات عمل الحكومة الاتحادية بمفاصلها المختلفة لابد ان تفرض نفسها بشكل او باخر على الحكومات المحلية، الى جانب الادوار الفاعلة لمؤسسات القضاء والنزاهة والرقابة في تشخيص مكامن الفساد والانحراف والخلل والتوجه لمعالجتها والحؤول دون استفحالها وتوسعها خلافا لما كان يحصل في الماضي. وكما قلنا في وقت سابق، “فان الحكومات المحلية الجديدة، اذا لم تتحرك بنفس مسارات الحكومة الاتحادية في برامجها ومشاريعها وخططها الخدمية والتنموية، وبدلا من ذلك، تستغرق في الصراع والتنافس الحزبي الضيق على المصالح والمكاسب والامتيازات الخاصة، فانها تكون قد حكمت على نفسها مبكرا بالفشل والاخفاق مرة اخرى”.
بعبارة اخرى، يمكن القول ان الحكومات المحلية والقوى السياسية المشكلة لها-شيعية كانت ام سنية ام كردية ام تركمانية-هي امام تحد كبير جدا، تحدي الترفع عن التنافس والتدافع المحموم على المكاسب والمنافع الحزبية والفئوية الخاصة، لانها ان فعلت ذلك واستغرقت به، تكون قد كررت اخطاء وسلبيات الماضي في ظل ظروف واوضاع واولويات وتقديرات مختلفة.[1]