اتسّاع رقعة الحرب وتأثيراتها الإقليمية على إيران وتركيا
التطبيع بين الأسد وأردوغان، كأن شيئاً لم يكن!!
ياسر خلف
تمرّ المنطقة بتطوراتٍ متصاعدة لا يمكن التكهّن بمخرجاتها، خاصةً بعد مرور سنةٍ على الأحداث الدائرة في غزَّةَ واتساع رقعتها لتشمل لبنان ودول الجوار، حيث لم تثمر كلُّ التدخلات الدولية عن إيقاف الحرب المستعرة، ولم تردعها مقرراتُ الأمم المتحدة والجهود الدبلوماسية؛ فالعقلية الإقصائية التي تمارسها الدولُ المارقة في الشرق الأوسط تعدّ المسببَ الرئيسي للحروب والدمار والتهجير والقتل لتصل لحدّ الإبادة الممنهجة والمستهدفة للشعوب الأصيلة، فالتعصّبُ “القوم – ديني” هو أحد أبرز سِمات هذه الذهنية التي تجد في الشعوب الأخرى والتنوع الثقافي والإثني المختلفة عنها خطراً وجودياً على كينوناتها المُشيَّدة أساساً على جماجم شعوبٍ تم إفناؤها وإبادتها ومحوها من الوجود.
فهذه الدول وفي مقدمتهم “تركيا وإيران” تجد في إبادة وتهجير شعوب المنطقة أهدافاً مشروعةً لاستمرار وجودها، وكانت فقط بانتظار الحجّة الملائمة والذريعة المواتية لممارسة الإرهاب المنظم تجاه شعوب المنطقة.
المفارقة في الأمر أن هذه الدول الدكتاتورية تسخّر إرهابَ الدولة المنظم وأدوات الحرب الخاصة تجاه شعوب المنطقة، وتجاهر العداءَ لبعضها وتُسِر الوئام والتوافق بحبكةٍ دراماتيكية متقنة لخداع الرأي العام ومداعبة مشاعر المغرّر بهم في حروبها الغوغائية.
هذه الدولُ ذاتها باتت أدواتٍ لرحى حربٍ روبوتية تدارُ من قوى الهيمنة العظمى لإطالة أمد الصراع والفوضى الخلاّقة كاستراتيجية لهدم القديم وتشكيل الجديد، وهذا بالتحديد ما تلتمسها وتخشاها كلٌّ من تركيا وإيران بعد أن تغيّرت أغلبُ النُّظُم العربية في ما سمّي بثورات الربيع العربي.
ومن هنا يمكننا القول: إن تركيا وإيران أصبحتا في الوقت الراهن العقبة الأكثر وضوحاً في طريق مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتتحملان الجانبَ الأكبر من تبِعات هذه الفوضى والتخريب التي زاولاها عبر أذرعها الإرهابية وحروبها التوسعية خارج حدودهما، بخلاف كافة القوى الأخرى في المنطقة.
فهاتان الدولتان اللتان لم تدَّخرا وسيلةً وسياسة لقمع شعوبها وكتم أنفاسها؛ صارتا أمام واقعٍ مريرٍ في جبهتها الداخلية، ولم يعد خافياً على أي متتبعٍ حجم الانحطاط الذي تعاني منه أنظمتها، وخاصة من النواحي الإنسانية والإصلاحية والديمقراطية، وانعكاس ذلك على الجوانب الاقتصادية وتنوعها الثقافي وتماسكها الاجتماعي، حيث الشرخُ والهوّة الواضحة بين مكوناتها وطوائفها وإثنياتها.
ففي إيرانَ كان وما يزال القمع والاضطهاد هو الوسيلة الوحيدة في مواجهة الدعوات الإصلاحية والتصحيحية، حيث تحولت إيران لمعتقلٍ ومحرقة نازية تَفتِكُ بشعبها لمجرد خروجه عن تعاليم ولاية الفقيه؛ حيث بات الإرهابُ المنظم لسلطة الدولة هو الأداة الناجعة للجم الأنفاس والأصوات المنادية بالحرية والتغيير، وكان آخرها استخدام القمع المفرط ضدّ الحركة النسائية في العامين المنصرمين، حيث ساحات الإعدام تعجّ يومياً بعشرات الضحايا الأبرياء من أصحاب الرأي والمنادين بالديمقراطية والانعتاق من نير السلطة الدينية المطلقة التي أثقلت كاهلَ الشعوب الإيرانية، وربما خيرُ استدلالٍ على حالة السخط والاستياء والبؤس كان ظاهراً في الإقبال الضعيف على الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخراً، إضافة إلى الترهّل الاقتصادي الذي تعاني منه إيران نتيجةً لسياساتها العدائية والتوسعية على حساب أمن واستقرار شعوب ودول المنطقة.
وقد لا تختلف الأوضاع في الداخل التركي كثيراً عن نظيرتها إيران، فهي أكثر سوءاً وتشرذماً، فالتضخمُ الاقتصادي في أعلى مستوياته، وعمْلتُها الوطنية في ترنّح مستمر، وكما في إيران؛ فقد أظهرت نتائجُ الانتخابات المحلية الأخيرة حجمَ الهوة والانتكاسة التي تعاني منها حكومة الشراكة بين أردوغان والحركة القومية المتطرفة، وبين معارضيهم في القضايا المفصلية في الداخل التركي، وخاصةً التدخلات الخارجية العابرة للحدود وقضايا اللاجئين وتمويل الفصائل الإرهابية المتشددة، وعزوفها كما سائر الحكومات التركية المتعاقبة عن حلّ القضية الكردية بالطرق الديمقراطية.
يبدو أن إيران باتت تدرك أنها قد أصبحت وحيدةً في الساحة، بعد أن تمكنت إسرائيل من الفتك بأذرعها إلى حدّ كبير في كلّ من غزة ولبنان وسوريا، لذلك نجدها متذبذبةً في مواقفها المباشرة في الردّ على إسرائيل، ويمكن القول إنها باتت تستنجد الحلولَ التفاوضية والتوافقية لقضاياها المصيرية، بعد اقتراب حلقة الخطر من عرشها وسلطتها القمعية، والتخلي عن حلفائها وأذرعها كما حدث مع حماس وحزب الله، وإن اضطر بها الأمر ستزجّ البقية المتبقية في كل من سوريا واليمن خدمةً لمصالحها ومآربها والتي لن تكون في صالح إيران كدولة وكيانٍ متماسك، وخاصة أن إسرائيل لن تكون لوحدها بعد أن أعلنت الولايات المتحدة مساندتها لإسرائيل في حال نشوب حربٍ واسعة مع إيران.
كما أن تركيا أيضاً- في معرض مواقفها تجاه الحرب المستعرة بين إسرائيل وإيران وأذرعها في المنطقة – تتلمس الخطرَ من التغيير الذي قد يطرأ على الجغرافيا السياسية وتبعاتها، والذي لن يكون في صالحها من الناحية الاستراتيجية بسبب سياساتها العدائية لعموم محورها الإقليمي والدولي وخروجها عن مسار حلفائها في الغرب وعقدها لصفقات تجارية مع روسيا، والتي كانت آخرها مشروع الغاز الروسي الذي سيجعل من تركيا مركزاً لتسويقها كبديلٍ للأسواق الأوربية، إضافة إلى الابتزاز السياسي في قضايا اللاجئين واستثمارها فيها على حساب القارة العجوز؛ وربما الأخطر من كلّ ذلك بالنسبة لتركيا هي القضية الكردية ومآلاتها في حال اتساع نطاق الصراع في المنطقة.
على ما يبدو فإنّ تقلبات السياسة التركية وفق المتناقضات الدولية لم تعد بالسياسة الناجعة، وخاصة أن الصراع الدائر بات في أوجه، وليس هنالك إمكانية للمراوغة والابتزاز، وهذا ما يبدو واضحاً من سلوك الحكومة التركية باتجاه إعادة النظر في سياساتها التوسعية المعادية، كتكتيكٍ لاستعادة توازنها في الداخل وإنقاذ نفسها من الهزيمة الحتمية في أي استحقاقٍ انتخابي قادم، فلجوؤها إلى السياسة الناعمة في تعاملها الدبلوماسي مع محورها الإقليمي هو في حقيقة الأمر انتكاسةُ المجبرِ قبل فوات الأوان؛ فإعادة تطبيع العلاقات التي يستجديها أردوغان وحكومته – وخاصة مع نظام الأسد برعاية روسية عراقية – هي لكسب المزيد من الوقت لفرض الأمر الواقع، كما يمكننا ربطُ التصريحات الأخيرة “لأردوغان وبخجلي ودوغو برينجلي” في هذا المسار، كون القضية الكردية تشكل العقبة الوحيدة التي تؤرق مضاجع الدولة التركية، وهذا ما يمكن تلمسه أيضاً من زيارة مسرور البرزاني لأنقرة وتغييرهم لبروتكول استقباله، إضافة لاستقبال مسعود البرزاني لقادة المرتزقة المحتلين لعفرين في إقليم كردستان بإيعازٍ من الاستخبارات التركية هو في حقيقة الأمر نوعٌ من البروبوغندا والنِفاق الماكر في سياسة الغدر التركية قديماً وحديثاً، والقائمة على الإنكار والاستبداد والفردانية، وخاصة في تعاطيها مع القضية الكردية ورفضها المطلق لمصطلح كردستان كجغرافيا وأرض وشعب له تاريخه وحضارته وثقافته المستقلة.
يقول المثل اليوناني: “عندما يتحدث الأتراك عن السلام، فتلمّس رقبتك واستعدّ للحرب” وهذا كان واضحاً من حجم الحقد الذي يحمله الموروث التركي تجاه شعوب المنطقة، وحجم الدمار الذي أحدثته ماكينة الحرب التركية في شمال وشرق سوريا وروج آفا مؤخراً، واستهدافها المباشر للمدنيين والبنية الخدمية والمعيشية، وبشكلٍ أبشع من “إسرائيل” التي ما ينفكّ القاتل أردوغان عن انتقادها ومهاجمتها إعلامياً، علماً أن تركيا أسبقُ دولةٍ سمحت وقدمت التسهيلات لالتحاق اليهود من حَمَلَةِ الجنسية التركية بالجيش الإسرائيلي، حيث يُقدَّر عددهم بأكثر من 15 آلاف جندي بمن فيهم الجنرال المسؤول عن إدارة وتشغيل نظام القبة الحديدية بحسب ما أورده الإعلام التركي نفسه وقد قُتل منهم إلى الآن أكثر من 200 جندي.
ومن المفارقة أيضاً أنّ الأغلبية العظمى من اليهود في إسرائيل هم من أصلٍ تركي خزري “الاشكناز” اعتنقوا اليهودية وليسوا بيهودي المنبت والمولد.
ومن هذا المنطلق يتعيّن على القُوى الكردية عامةً والإدارة الذاتية خاصة تناول مجمل الأحداث الدائرة في المنطقة تاريخياً وحاضراً راهناً برويّة وتحليلٍ معمقين، وخاصة مع اتساع رقعة الحرب الإقليمية والفوضى الخلّاقة الناتجة عنها وانعكاساتها الجلية على المنطقة، وهو ما يتوجب ممارسة السياسة بحساسية وحنكة شديدة لمجمل خفايا وكواليس الأحداث، والعمل على تمتين الجبهة الداخلية عبر المزيد من اللقاءات والتشاورات بين القوى الوطنية والديمقراطية، والاقتراب أكثر من نبض الشارع لتشكيل جبهةٍ وخطاب موحَّدَين، تكونا نواة للسياسة والعمل الدبلوماسي في تعاطيها مع مجمل قضايا المنطقة وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها.[1]