قراءة في رواية هرزنتان للروائي يحيى باجلان
نعمت شريف
الحوار المتمدن-العدد: 5287
المحور: الادب والفن
قراءة في رواية هرزنتان
للروائي يحيى باجلان
بقلم: نعمت شريف
في قراءة سريعة لهذه الرواية الجميلة التي تدور احداثها في قرى الشبك ومناطق سكناهم في مدينة الموصل تكونت لدي بعض الاراء عنها واود عرضها باختصار في هذه المراجعة السريعة، ولكن لكي اكون على قدر ما استطيع من الموضوعية ولتعميم الفائدة من الرواية ومن قراءتي لها، اود ان ابارك الكاتب جل ما استطعت على هذا الجهد الكبير فهو يستحق منا كل التقدير، وقد فرض نفسه على تاريخ الادب الشبكي كأول روائي شبكي رغم ان روايته جاءت باللهجة العربية الموصلية في اغلبها. وبالمناسبة اود ان اذكر هنا ان الكتابة بلغة اخرى لا تنتقص من القيمة الادبية للعمل الادبي رواية، او قصة او شعرا او اين لون اخر من الادب. فهناك الكثيرون ممن كتبوا بغير لغتهم الام ونالوا شهرة عالمية فعلى سبيل المثال لا الحصر، اورهان باموك الكاتب الكردي الحائز على جائزة نوبل للاداب، يكتب باللغة التركية، ولكن الاهم من هذا هو ان الرواية تعكس حالة من التطور الاجتماعي لا بد للكاتب ان يكون قد نمى وترعرع فيها لكي يستطيع التعبير عنها، ومما لا شك فيه ان الاستاذ يحيى باجلان تأثر بالمجتمعات المجاورة وآدابها لتنضح عنده هذه الموهبة الجميلة، ولا ضير في ذلك فالمجتمعات الحية تتأثر وتؤثر في محيطها.
لست هنا في معرض النقد الادبي وتقنيات كتابة الرواية بمعنييهما الواضحين لدى النقاد، ولكني اود تبيان رأيي وملاحظاتي كقارئ لا غير. ومن الجدير بالذكر هنا انني قرأت النسخة الاليكترونية حيث لم استطع الحصول على نسخة ورقية وربما حصل اختلاف في الكتابة او التصوير وما الى ذلك. ويبدو ان المؤلف نفسه غير مختص بالادب وكتابة الرواية فهو مهندس في حياته اليومية ولكنه يهوى الكتابة، ولنقل، ان يكتب عملا روائيا بهذا الحجم والمستوى، نأمل ان يكون صدره رحبا لتقبل آراء القراء والمعجبين بأنجازه الادبي. فها نحن نعبر عن رأينا من هذه الزاوية.
رواية تؤرخ للحالة الاجتماعية ليش للشبك فحسب بل للمنطقة ككل والتي كانت في مرحلة انتقالية حيث انها تؤرخ لفترة زمنية محددة تمتد ربما على مدى خمسة عقود او اكثر. ان هذه المرحلة الانتقالية هي مرحلة هجرة الريف الى المدن بحثا عن سبل عيش افضل مما كانت تقدمه الزراعة الديمية في شبكستان. وفي هذا المنحى فان حال الشبك في الهجرة الى المدن الكبيرة وخاصة الموصل لايختلف كثيرا عن بقية مناطق العراق. واضح ان الانتقال من المجتمع الزراعي (الريف) الى المجتمع الحضري (المدن) يخلق بالضرورة طبقة مثقفة او شبه مثقفة ولكن تجمعها اواصر طبقية حيث تبدأ طبقة البرجوازية الصغيرة بالنمو والتطور تحت تأثير مثيلتها في المدينة وعوامل ديناميكية مهمة منها التعليم والاعمال التي تختلف في طبيعتها عن الزراعة رغم عدم امتلاكها لوسائل الانتاج، حالهم كما كانوا في الريف حيث كان الاقطاع (ويشمل هذا ملاك الاراضي الساكنين اصلا في المدن، ورؤساء العشائر والاغوات والشيوخ) يمتلكون الارض ووسائل الانتاج الى حد كبير. فالهجرة في غالب الامر كانت هروبا لكسر ذلك الطوق الاقتصادي والانطلاق في أجواء المدن الارحب.
تؤرخ الرواية ايضا لقيم الريف كالتآخي والوفاء والتعاون والحب والمثابرة في تلك الفترة، وكثيرا ما كنت هذه القيم تشكل عامل جذب وشد بين اهل المدن والنازحين الجدد من الارياف وخاصة بين الجنسين كافراد وطبقات اقتصادية، ولكن ظهور حزب البعث وسيطرته على جميع نواحي الحياة برمتها كان عائقا اضطربت تحت وطأته النمو الطبيعي والتطور الاقتصادي للغالبية العظمى من الشعب وبالطبع كان تأثيره على المكونات الصغيرة كالشبك والمسيحيين والايزيديين والتركمان اكثر بكثير من تاثيره على المكونات الاكبر.
في تعريفه للرواية، يقول الكاتب أنها رواية توثق للمرحلة المعاصرة التي يعيشها العراق بأبعاده السياسية والاجتماعية نرى ان نمط السرد الواقعي الذي اختاره المؤلف مناسب لمبتغاه حيث بدأ بالتمهيد بمقدمة تاريخية واجتماعية للانتقال الى السرد على لسان بطل الرواية قاسم حبيب شبك وحتى النهاية. وأما من ناحية اللغة فلدينا ملاحظتان، اولهما ان اللجوء الى اللهجة الموصلية الدارجة يجعل فهمها لغير الموصلي صعبا وخاصة عندما تتوسع لتشمل مقاطع غير حوارية. فمثلا عندما يقرؤها البغدادي او القاهري فسيلاقي صعوبة في استيعاب الرواية واحداثها، وثانيهما نرى ان تكرار الاسماء الشبكية وتعريبها ربما تمثل امعانا في واقعية الرواية ويوحي للقارئ بان شخوص الرواية واحداثها حقائق تاريخية اكثر مما هي روائية، ونجد في ذلك عذرا للكاتب للتكرار، ولكن اقحام المفردات والعبارات الانكليزية في السرد الروائي لايخدم هدفا بالذات سوى ان الكاتب يجيد تلك اللغة.
نولي ظهور هذه الرواية اهتماما خاصا لانها تمثل نقطة البداية للرواية الشبكية، كاتبها شبكي كتب عن الشبك ودارت احداثها في قرى الشبك ومناطق سكناهم في الموصل. فهي بحق تمثل نقطة الانتقال من الادب الروائي الشفهي عند الشبك الى عصر الرواية بمفهومها الحديث، ولكن ورغم اهميتها، لا بد ان نشير ولو باختصار سريع الى بعض الجوانب المهمة في هذه الرواية او غيابها منها، لعلنا نلقي بعض الضوء على جهود الاستاذ يحيى باجلان وبشكل خاص انه مهندس بالمهنة وليس روائيا محترفا كما يبدو للقارئ من الوهلة الاولى.
تكاد هرزنتان تخلو من الرمزية التي عادة تعطي عمقا فكريا واجتماعيا وحتى عاطفيا على اصعدة مختلفة. واحدة من هذه اللقطات الرمزية تظهر بشكل واضح عندما يحضر بطل الرواية قاسم مناقشة اطروحة احد زملائه في الجامعة وهناك يبدو ان كل منتم الى قومه يدعي بان قاسم منهم دون ان يعلن قاسم بنفسه الى من ينتمي، وهذا بحد ذاته يمثل الصراع على هوية الشبك، ولكن الرد واضح في الرواية حسب رأي المؤلف ان قاسم ينحدر من ابوين كرديين. ولكن قاسم لا يعلن ذلك الا مع زميلته الكردية مديحة عقراوي. وما امتناع قاسم عن العمل السياسي الا تحفظا لعدم ثقته بالاحزاب الكردية، ولكنه في نهاية المطاف ينضم الى حزب البعث مجاراة لعائلة زوجته من جهة ولكي لا تهضم حقوقه المادية والاجتماعية في مجتمع قاس لايرحم، وحتى في ذلك كان متحفظا ولكنه استفاد من علاقات والد زوجته في حزب البعث.
واما القصور الثاني على صعيد كتابة الرواية، لم يحاول المؤلف تطوير علاقات قاسم مع ابناء المكونات الاخرى وحتى الشبك، فقد اقتصرت علاقاته على حلقة صغيرة من الاقرباء واصدقاء الجامعة حتى النهاية. تعج شبكستان ومدينة الموصل بالاخص الساحل الايسر والمناطق التي تدورفيها احداث الرواية، بأبناء االمكونات الاخرى وللشبك علاقات واسعة مع الكرد والعرب والتركمان والمسيحيين والايزيديين وحتى الشيعة العرب والتركمان وغيرهم، فاذا نظرنا الى قاسم وعائلته على انهم يمثلون الشبك في الرواية فسنجدهم لا يرتقون الى الدور الذي يلعبه الشبك في المنطقة وخاصة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية نستشف من علاقات قاسم بانه لا يتمتع بثقة كاملة بنفسه، وهذا بدوره يظهر لنا الوجة الاخر للعملة اذا صح التعبير، ونقص الثقة هذه دليل انتمائه لاقلية مضطهدة من قبل المكونات الاكبر، هذا من حقهم حيث يبرز بلا شك الاضطهاد الذي تعرض له الشبك على مدى عقود وخاصة تحت حكم البعث. ان هذه الحالة النفسية عند قاسم، والنقاش الذي دار عن انتمائه لمكونات اخرى يعطيان الكثير من العمق الروائي لهرزنتان. أنها توثيق من نوع آخر.
واما الحدث الاخر الذي يمكن ان يكون له دلالة اجتماعية هو صداقة مديحة الليبرالية وقاسم المحافظ ويبقى هذا الخطان دون ان يتقاطعا سلبا او ايجابا الى ان سافرا الى المانيا. وهناك المؤامرة لايقاع قاسم في المصيدة، ولم يجد بدا من التوفيق بينهما فوجد ضالته في زواج المتعة. ويبدو كانه اقحم الحدث قسرا في المتن الروائي، وان دل على شئ فانما يدل على هزيمة القيم المحافظة اما الليبرالية الاوروبية، وزيف الاساس الاخلاقي لزواج المتعة بالشكل الذي مارسه قاسم.
وأما التوثيق السياسي والتاريخي للاحداث التي مرت بها شبكستان، ونعتقد أن هذا ما يقصده المؤلف، فهناك الكثير مما يقال عن هذا النمط من التوثيق حيث تمثل العلاقات الاجتماعية للشبك فيما بينهم ومع المكونات المجاورة ارضية خصبة لعكس الواقع المرير والاضطهاد البشع الذي عانى منه ليس الشبك فحسب بل ابناء المكونات الاخرى ايضا. تمتد الرواية على مدى اربعة او خمسة عقود، منها نزوح اعداد كبيرة من العوائل الكردية الى قرى الشبك هربا من الحرب الجائرة التي كانت تشنها الحكومات العراقية المتعاقبة على كردستان، شمول الشبك بعمليات الانفال السيئة الصيت، وتهجير اعداد كبيرة من الشبك الى المناطق الجبلية الوعرة والبرد القارص شتاءا في معسكرات اشبه ما تكون بسجون كبيرة. بالاضافة الى ممارسة شتى انواع الضغط السياسي والاجتماعي لتغيير قومية الشبك وربطهم بعشائر عربية، والاصلاح الزراعي وما جلب ذلك من مصائب وويلات. وما هجرة الريف الى المدن الا واحدة من ظواهر عديدة فرضت التغيير الاقتصادي والاجتماعي على المنطقة من اوسع ابوابها.
لا نلقي هذا العبء الكبير على رواية واحدة او روائي واحد، ولكن الغرض من هذا العرض الموجز للاحداث التي عصفت بالمنطقة انها تشكل ارضية خصبة لروايات المستقبل ذات العمق الاجتماعي والفكري والاقتصادي لما تمتاز هذه المنطقة بثروة بشرية ثرة ومتنوعة وحضارات موغلة في القدم.
واما من الناحية التقنية، فان الرواية بحاجة الى تنقيح وتصحيح لما ورد في النسخة الاليكترونية التي قرأتها من اخطاء طباعية ولغوية حيث تظهر خاصة عند المزج بين العربية الفصحى والدارجة. وهناك ايضا خلط احيانا بين اسماء المنظمات، فعلى الصفحة (78) ورد ان زبيدة كانت تنتمي الى الاتحاد العام لطلبة وشباب العراق – فرع نينوى والصحيح هو الاتحاد الوطني لطلبة وشبيبة العراق لان الاتحاد العام كان ولايزال الواجهة الطلابية للحزب الشيوعي العراقي. واما الكلمة العراقية الدارجة يمعودة التي تكررت في اكثر من مكان فهي مؤنثة، والاصح للمذكر هو يمعود. واما في الصفحة (163) فان المؤلف يؤرخ للتحول المذهبي الكبير من الشيعة البكتاشية الى الشيعة الاثنى عشرية، وهذا بحق يحتاج لالقاء المزيد من الضوء على هذا التحول وتوثيقه بشكل اكثر تفصيلا، كصفحة من تاريخ الشبك، وليس بالضرورة في رواية. واما في الصفحة 369 فقد ورد عبارة اللهجة الزائرية والتي لم نسمع بها قط بين كرد تركيا (ربما خطأ طباعي آخر)، ولكن هناك اللهجة الزازائية (زازاكي بالكردية) والتي احيانا تعرب بالظاظائية، واما الصفحة (342) فيبدو ان جزءا من النص سقط سهوا او لسبب ما، ولذلك نرى ان هذه الرواية بحاجة الى تنقيح وتصويب. ويمكن بعد ذالك اي بصيغتها النهائية تحميلها على احد المواقع الادبية لتكون في متناول القراء والنقاد على حد سواء.
رواية هرزنتان طويلة نوعا ما، والبناء الروائي تشمل قصتان ان لم نقل ثلاثة. لا يوجد ذكر لهرزنتان الى ان اشترى قاسم قطعة ارض في تلك القرية من دون ان يعرف سببا لذلك وهذا يمكن تفسيره بالحنين الى جذوره القروية، ثم التحم ذلك الحنين بخبرته في الاثار والحفريات. وهنا تبدأ القصة الثانية او الجزء الثاني من الرواية. بهذا النمط من السرد، توحي الرواية بانها سيرة شخص او عائلة ما، اكثر مما هي رواية رصينة الحبك والعمق الانساني.[1]