الإختراق الإيراني في كُردستان حبلٌ من حبائل تدمير المنطقة
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 4530
المحور: الادب والفن
(ملاحظة: كتبت هذا المقال في 20 تموز الشهرالماضي وبعثته الى جريدة عربية في لندن سبق وأن نشرت لي مقالا، ظناً مني أنها ستنشر هذا المقال أيضا. لكن يبدو أن الإختراق الإيراني في الفضاء العربي شديد. ومن يدري لعل الإختراق يشمل دفع الأموال للمتنفذين في الصحف والمجلات! وهل يُرد مقال لذاك الرغال الإيراني الذي تنشر له هذه الجريدة شذر مذراته على الدوام؟ المهم أن هذا المقال لم ينشر بعد مرور أكثر من أسبوع).
يوحي المشهد الكُردي بالترابط والإنسجام إزاء الأحداث الأخيرة في العراق، والتي انطلقت في التاسع من حزيران من العام الحالي، والتي أدت إلى سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على معظم المناطق السّنية في العراق. لكن هذا المشهد يحتضن إستثناءا معينا، مازال يجري في التيار الذي يدور في فلك السياسات الإيرانية في المنطقة. هذا الإستثناء يتجسد بقلق وغموض في مواقف جناح مهيمن داخل الإتحاد الوطني الكُردستاني (أوك) برئاسة جلال طالباني، الرئيس العراقي رسميا والمقعد فعليا، وهو يقارع مرضه المزمن في ألمانيا منذ ما يقارب من عامين، عاد إلى السليمانية قبل أيام وهو نصف حي. الإتحاد الوطني ما فتئ يصرّح على لسان مسئوليه هنا وهناك، استنكاره وتضاده مع السياسات التي يبديها الحزب الديموقراطي الكُردستاني (حدك) بزعامة مسعود بارزاني، رئيس إقليم كُردستان. وجلّ هذا الإستياء يتمحور حول موقف الإقليم من الثورة السورية ومن النظام السوري، وكذلك من تركيا ومن العالم السّني، فضلاً عن مسألة إستقلال الإقليم التي تشهد إهتماما إعلاميا كبيرا في هذه الأيام. حدك يقف في صف المعارضة السورية، ولديه علاقة قوية جدا مع تركيا أردوغان، ويخطط لإستقلال كُردستان. يقف أوك في الصف المقابل تماما. فهو مع إيران وشيعة العراق، وضد الثورة السورية ويريد البقاء في العراق وعرقلة المضي قدما نحو إستقلال كُردستان في الوقت الحاضر.
منذ القرن السادس عشر، يعاني الكُرد إنقساماً ثقافيا وسياسيّاً إنعكس على التكوين الداخلي لهم. هذا الإنعكاس قد يكون إيجابيّاً ربما، ولكنه سلبيّ في معظم الأحيان. إصطبغ التكوين الكُردي بتنوعه الحاد، بعقابيل الإنقسام العنيف، بين الدولتين الصفوية والعثمانية. فإذا كان من الجائز القول أن الكُرد عثمانييون (لعب هذا الشعب دورا كبيراً داخل الدولة العثمانية أكثر من أي مكون آخر)، فالأمر مختلف تماما مع الصفويين، الذين لم يقدر الشعب الكُردي من التكيّف معم على أي صعيد.
منذ عام 1979، تناسخت عناصر الدولة الصفوية وروحها، في النظام الذي أسسه خميني في أعقاب الثورة الإيرانية. هذه النظام لعب دوراً كبيراً ومدمراً جداً في القضية الكُردية، في الدول الأربعة التي تقتسم كُردستان. لكنني أتحدث هنا، عن الجزء المرتبط بالعراق والدور التخريبي لإيران فيه. في عام 1975 تأسس أوك في حضن الصفوية المعاصرة، التي تمتد من طﮪران إلى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا. في دمشق، حيث كان حافظ الأسد العلوي يحكم، أعلن أوك عن تأسيسه، مالبث أن أصبح ورقة رابحة في يد سوريا ضد العراق، ثم في يد إيران التي تحولت إلى حليف مذهبي للنظام السوري، بعد صعود خميني الكارثي نحو السلطة. ومن اللافت أن أوك هو الطرف الكُردي الوحيد الذي يشغل فيه أفراد شيعة مناصب قيادية مهمة. وكان جبار فرمان، المسئول العسكري ل أوك في تسعينيات القرن الماضي، أحد العرّابين الكبار لإرتباط هذه المنظمة بإيران. بدورها قامت إيران بتقديم دعم مالي وعسكري لفرمان، الذي استعمل كله ضد المكونات الكُردية الأخرى، لا سيما الإسلاميين الكُرد السّنة!
في عام 1986، دخل أوك في تحالف ثلاثي ضم إيران والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بقيادة محمد باقر الحكيم (قُتل عام 2003). وبما أن المجلس المذكور حظي بدعم إيران العسكري والمالي الذي أنتج فيلق البدر، فإن الأطراف الثلاثة اتفقت على إسقاط نظام صدام حسين. هذه الإتفاقية و أحداث سياسية وعسكرية أخرى مشابهة، أدت إلى نتائج غاية في الخطورة، حصد منها الكُرد القصف الكيمياوي وعمليات الأنفال التي أدت إلى تحول مئات الألوف من سكان القرى والبلدات الكُردية إلى ضحايا مجانية! وكلّما اشتدت ضراوة الحرب وارتفعت حصيلة الضحايا والكوارث، أصبح إرتباط أوك بإيران لا فكاك منه. وحين أراد أوك في عام 1996 القضاء على حدك بمساندة المدفعية الإيرانية، استنجد بارزاني بالعراق فتم القضاء على الحملة الإيرانية التي شكّل أوك رأس الحربة فيها. وكنتيجة طبيعية لمسار المعركة على أرض الواقع، انتهى مصير أوك بالفناء المحقق داخل أراضي إيران، لكن النظام الإيراني لم يدع الأمر كذلك، فقام بإحياء هذه الجماعة من الرماد. منذ ذلك اليوم، أمست منظمة أوك رهينة ذليلة في يد الحرس الثوري الإيراني. ويقوم قاسم سليماني في الوقت الحاضر، بإملاء ما يجب على أوك إصداره وتنفيذه.
ينقسم الإتحاد الوطني الكُردستاني في قوامه إلى تيارين متنابذين. الأول تقوده زوجة طالباني، هيرو ابراهيم أحمد، ويقف في صفها قيادات متنفذة داخل أوك منها عادل مراد (شيعي)، ملا بختيار (آداة طائعة لمحاربة الإسلام السّني)، نجم الدين كريم (محافظ كركوك والقريب من إيران وشيعة العراق)، ويملك هذا الجناح كمية ضخمة من الأموال والأسلحة، فضلا عن دعم إيران له. الثاني يملك أيضا قاعدة واسعة وحضورا قويا، يقوده كلّ من كوسرت رسول وبرهم صالح. وهذا التيار أقرب الى التوجه العام في إقليم كُردستان نحو الإستفتاء على تقرير المصير، والذي يبدو أن بارزاني هو لاعبه الأكثر حضورا في الواجهة. لكن هذا التيار لا يحظى باي دعم إيراني، وعليه قد تكون حظوظ برهم صالح قليلة في الحصول على منصب رئيس جمهورية العراق، إزاء ترشح فؤاد معصوم القريب من إيران والشيعة. سوء علاقة برهم صالح بإيران له أسباب عدة، منها إيقاف طائرة شحن إيرانية محملة بالأسلحة في عام 2011، في مطار السليمانية، كانت متوجهة إلى دمشق في بداية الثورة السورية. كان برهم في ذلك الوقت رئيسا للوزراء في كُردستان. وحين أخبِر بأمر الطائرة الإيرانية، أصدر الأوامر بالحجز على الطائرة، ولكي يتفاقم الأمر أكثر، سرّب الخبر إلى الإعلام عمداً، للفت إنتباه الدول الغربية وخصوصا أمريكا. فِعلة رئيس الوزراء أغضبت طالباني جداً، فقام هذا الأخير يكيل له العقوبة التي يستحقها، حيث طلب من قيادة حدك إعادة منصب رئيس الوزراء إلى نيتشيرفان بارزاني وإقالة برهم قبل إنتهاء مدته القانونية. وحدث ذلك بالفعل، ولكن بعد أن أشبع طالباني برهماً كلاماً قاسياً ومهينا!
ما برحت إيران تشبّه إقليم كُردستان بإسرائيل ثانية، أو جيباً إسرائيلياً. ولكن في واقع الحال فإن التواجد الإيراني، على شتى الأصعدة، في ال إسرائيل الثانية أو الجيب الإسرائيلي يُعد أكثر من أي تواجد آخر لأي دولة خارجية! وعلاقة القيادة الإيرانية بالقيادة الكُردية التي من المفترض، كتحصيل حاصل للوصف الإيراني، أن تكون هي أيضا قيادة إسرائيلية ثانية تحكم الجيب الإسرائيلي، علاقة حميمة وممتازة! لكن إيران مهوسة بإختيار المستهلك إعلامياً، في سياستها تجاه العالم السنّي، رغم أنها هي نفسها لا تعير اهتماما حقيقياً لجوهر هذه المعاني الفضفاضة والمثيرة. شكراً للثورة السورية، فقد حطمت هذا القناع المغشوش منذ عام 2011، حيث وقف النظام الإيراني إلى جانب النظام السوري بحجة محاربة إسرائيل وأياديها في سوريا!
وإذا كان الوجود الإسرائيلي مشمئز الى هذا الحد الذي تبالغ إيران في وصفه، لأنه وجود يسبب الدمار والتقسيم والإستنزاف في منطقتنا؛ فإن إيران نفسها تلعب هذا الدور أضعاف ما تلعبه إسرائيل. فوجود نظام الملالي الطائفي في طهران، يكلّف دول الخليج ميزانية سنوية باهظة للتسليح، من أجل الدفاع الإستراتيجي. ونفس الدور تلعبه إيران إزاء الدول الأخرى، حيث تثير أقل ما تثير القلاقل والفوضى، إن لم تقدر على صنع أجنحة ميليشياوية دموية على غرار لبنان، سوريا والعراق، لنشر الدم والدمار الطائفيين الواضحين للعيان. وبهذه الحال، تبدو إيران بمثابة هدية سماوية للقوى الخارجية، التي تريد إطالة العبث والخراب والتخلف في هذه المنطقة. فمنذ مجئ خميني إلى السلطة في ذلك التاريخ المشؤوم، تغلي المنطقة على مراجل من نيران خطيرة تكاد تحرق الرطب واليابس. فأول ما قام به هذا النظام، كان دعم العمليات الإرهابية داخل إيران ومن ثم في العراق، أدى إلى نشوب حرب عبثية دامت ثمانية أعوام. وقام نظام الملالي بتصفية خيرة علماء السّنة في إيران (العلّامة أحمد مفتي زاده، ناصري سبحاني، ملا محمد الربيعي، علي مظفريان، قدرالله جعفري، محمد صالح ضيائي، فاروق فرساد، مولانا عبدالعزيز، مولوي عبدالناصر جمشيد...الخ)، ومحاربة الإسلام السّني محاربة شعواء، أين منها محاربة إسرائيل وأمريكا! وفوق ذلك، قام هذا النظام ببث الشقاق والفرقة بين العرب والكُرد السّنة في العراق، وضرب بعضهما ببعض وتأليب الطرفين بطرق شتى (أتناول ذلك في مقال مستقل)، أدى إلى مجازر جماعية كبيرة حولت كُردستان إلى جحيم حقيقي لأكثر من عقد من الزمن. ولكن ما حدث في كُردستان من فتك وخراب، دمار وهلاك، بسبب الأيادي الإيرانية الإجرامية، يتكرر اليوم في العراق وسوريا ودول أخرى: الفتك والخراب نفسهما، والدمار والهلاك عينهما. الشئ الوحيد الذي لم يتغير، هو اللحن الإيراني الممل، في إدانة وشجب إسرائيل، بمناسبة ودونها، كلما أرادت أن تزيد الملح على جروح المنطقة وتسكب المزيد من الزيت على الحروب والفتن، التي نسجت أوكارها وحبائلها في قم وطهران، تحتاج إسرائيل إلى قرن أو أكثر لتعلم فنونها وتطبيقاتها![1]