الوداع الأخير للنضال #القومي# الكُردي والجنازة الى جانب العروبة
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 4317
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
قبل أعوام قليلة، تظاهر أهالي حلبجة، إستنكاراً وإستياءا للمعاملة الظالمة التي لاقوها من قبل السلطات الكُردية. في أوج الغضب الجماهيري تدافعت الجموع نحو النصب التذكاري لضحايا حلبجة وأضرموا النار فيه. بررت الجموع هذا العمل بأن حلبجة ظلت ضحية طيلة سنين، ومخضرمة في المآسي، والسلطات الكُردية لم تفعل شيئا لتخفيف معاناة الأهالي سوى نصب تذكاري، يجتمع فيه مسئولون كُرد على موائد الأكل والنبيذ، فيما يستغرق سكان المدينة في الأعباء اليومية الثقيلة التي لم يعد بإمكانهم تحمل أوجاعها. فتَحتِ البيشمركة نيران بنادقها على الجموع، وقتلت صبيا في الرابعة عشر من العمر وأردت عدة جرحى، بينما أعتقل عدد كبير بتهمة الإخلال بالأمن. مرّ الحادث المذكور ووقائعه. لكن الدلالة العميقة والمعنى الكبير الذي حمله، لم يفطن إليهما أحد، بالرغم من مرور سنوات. فحين صبّ المتظاهرون جام غضبهم على النصب التذكاري، لم تكن الأهمية في إضرام النار في مبناه، ولكن في إحتراق شئ أكبر بكثير وأكثر أهمية من المكان المذكور. إنه ال كُردايَتي: النضال القومي الكُردي التي تعرضت إلى إنهيار عظيم على شاكلة إنهيار العروبة قبل ذلك. فالكُردايتي تعرضت إلى إحتراق كامل، أو لعلّ الواقعة المذكورة كانت تتويجا للإعلان الذي طال إنتظاره. وبالرغم من وقوع الكثير من الحوادث التي مرّغت أنف الكُردايَتي في الوحل، لكن لم يضاه أي شئ إعلان المتظاهرين الموت الحقيقي لمسيرة النضال القومي الكُردي. والكُردايَتي سياقٌ إحتضن ما يُسمى بالنضال القومي للأحزاب القومية الكُردية التي كانت هويتها العَلمنة واليسار وسياسات مرّغت الكُرد في وحل الكوارث والنكبات!
بداية إنهيار القومية بشكل عام تعود إلى إنهيار المعسكر الإشتراكي، والهجمة الثلاثينية (من ضمنها دول عربية) على العراق. والمفارقة أن إنهيار السوفيات فتح الباب على مصراعيه لظهور القوميات (التي قمعت في ظل الشيوعية وبالتحديد في عهد ستالين)، لكن لتعجيل موتها عبر إظهار فضائحها التي تتابعت وتكاثرت في العقود الثلاثة الأخيرة. فبالرغم من أن القومية عاشت في كوارث ونكبات كثيرة في شتى بقاع الأرض، لكنها لم تبلغ ذروة الفضاحة التي وصلت إليها من التعري كما هي عليه اليوم: القومية أمست فطائس منتشرة في العالم تنشر الأوبئة والأمراض الفتاكة. من ضمن هذه الفطائس، تأتي جثة الكُردايَتي الملقاة على ظهرها بفاه فاغر، وبفضاحة مكشوفة!
والمفارقة، وبالرغم من أن الكُردايَتي اليوم ليست سوى جثة هامدة، لكنها ما زالت تنتج الجراثيم التي تعبث براحة الشعب الكُردي وطرائق معيشته.
نشأت الكُردايَتي كردة فعل للطورانية التركية، والعروبة ثم البهلوية الفارسية، وهن جميعا تيارات قومية ظهرت إبان إنهيار الدولة العثمانية وبتأثير من الرياح الآيديولوجية التي خرجت من إست القارة الأوروبية المطلة على الثغر الأعلى من العالم الإسلامي، من جهة تركيا الحالية. وتعد جمعية الإتحاد والترقي التركية الأم البايولوجية لهذه التيارات القومية، مع وجود آباء كثر وعديدين عبر الزمن دخلوا في هودجها بتتابع. في ما يخص فطسة القومية، نتحدث هنا عن نموذج واحد وهو الكُردايَتي التي حجزت منذ مدة ليست بقليلة مكانها بين جثث هذه التيارات، وهي اليوم دون شك فطيسة تثير اشمئزاز الكُرد وندمهم على تضييع أعمارهم في غمارها!
منذ ميلادها، كانت الكُردايَتي ظهراً مطواة للأنظمة القومية التي تقتسم كُردستان. إدعت الكُردايتي أنها تقوم بتحرير الشعب الكُردي من قمع هذه الأنظمة. لكنها لم تعجز عن ذلك فحسب، بل سخرت نفسها من أجل دمار مزدوج على الكُرد: دمار من دول الطوق الرباعي، ودمار من قبل الأحزاب القومية الكُردية. وما لم تقدر الأنظمة من تحقيقه، أكملته الكُردايتي بظهرها العريض وأربعة قوائم سريعة لتنفيذ فرمانات الأنظمة، وكذلك لتكملة لوحة الخراب التي أطّرت الشعب الكُردي في البؤس والمأساة. حلبجة بكل أبعادها تمثل نموذجاً صارخا لهذه اللوحة. فمن جهة أتُخِذ من حلبجة قميص عثمان، تاجرت به الكُردايتي، ومن جهة أخرى ناصبت الأحزاب القومية الكُردية عداءا شديدا لسكان هذه المدينة المنكوبة. السبب الرئيس في هذه المعاداة تعود إلى أن معظم الناس في هذه المدينة ليسوا من جملة المصفقين للأحزاب القومية، التي ركبت ظهورهم، بل على نقيض ذلك يملكون هوية سياسية معينة هي الأكثر نبذاً من قبل هذه الأحزاب، وهي الهوية الإسلامية. في الواقع كان سكان حلبجة سبّاقين إلى معرفة حقيقة وماهية الكُردايَتي، لذلك لم يركنوا لأكاذيبها وزيفها، وعلى ذلك دفعوا ضريبة باهضة!
قبل أعوام انفصل قياديّ بارز عن الإتحاد الوطني الكُردستاني وشكل حزباً مستقلا. هذا القيادي (نوشيروان مصطفى) كشف أن أمين عام الإتحاد، جلال طالباني (أحد رموز الكُردايتي)، وفي ذروة الألم والبكاء أثناء مذبحة حلبجة، وبلا مبالاة ظاهرة، كان قد صرّح أنه يتمنى أن تتكرر مذابح أخرى على شاكلة حلبجة!
تقدم الإتحاد الوطني أرتال الحرس الثوري الإيراني إلى داخل حلبجة في آذار عام 1988. وقبل ذلك قاد هذا الإتحاد نفس الحرس الإيراني إلى داخل مدينة كركوك في عام 1986 مما أدى إلى قصف آبار النفط في المدينة. هذه العمليات كانت أحد الأسباب الرئيسة لعمليات الكيمياوي والأنفال، التي استهدفت عشرات الألوف من المدنيين العزل في كُردستان، من قبل النظام العراقي الذي كان للشيعة فيه حصص كبيرة عبر ركوب تيار البعث.
منذ عام 1991، تحكم الأحزاب الكُردية مناطق كُردستان. ما عدا نصب تذكاري لضحايا حلبجة، لم تشهد هذه المدينة خدمات لائقة بها جديرة بالذكر. وفوق ذلك، وبسبب مشاركة شباب متدين في هذه المدينة ضد نظام بشار الدموي في سوريا، ولديهم حتى الآن حوالي عشرة شهداء في حلبجة فقط؛ يتعرض أهالي البلدة إلى إهانات مستمرة من قبل دعاة الكُردايتي، ويتهمونهم بالإرهاب. هذا في وقت أرسلت إيران الألوف من عساكرها إلى سوريا، لحماية النظام الذي يثبت أركانه فوق جماجم الأطفال والنساء والشيوخ.
لماذا تهان حلبجة؟
لدى القوى السياسية والثقافية في مدينة السليمانية خاصيتان جوهريتان. الأولى، الخاصية الجغرافية، حيث تقع السليمانية على حدود إيران، وهي واقعة تحت النفوذ الإيراني القوي. منذ القرن السادس عشر انقسمت القوى الكُردية بين الصفويين والعثمانيين. نسبة قليلة من هذه القوى ولأسباب معينة، منها جغرافية، ارتضت أن تكون مطايا طائعة للصفوية. يحكم إيران اليوم، نظام صفويّ جديد أكثر شراسة من سلفه. الثانية، نتجت الحركة الثقافية والسياسية في مدينة السليمانية من خلفيات قومية ماركسية طوراً، وإلحادية أطواراً أخرى، وقومية فاشية شوفينية في كل الأطوار لدى الأحزاب والمنظمات والهيئات التي تعرّف نفسها أنها علمانية، كناية للأحقاد الغليظة على الإسلام، تيمناً بالطورانية والعروبة والبهلوية! في الظاهر تنبذ الكُردايتي العرب والترك والفرس، لكن ذلك مجرد إدعاء. في واقع الأمر، كانت الكُردايتي إنعكاسا للطورانية والعروبة على المستوى النظري، وعملياً كانت آداة طائعة بيد الفرس والعرب والترك. ولكن على أرض الواقع، صبت جهود هذه الأحزاب والمنظمات في محاربة الإسلام وقيمه، وَدَفْعِ شرائح الشعب الكُردي نحو الفوضى والإنشقاق عبر شروخ فاسدة سمّمت أجواء العيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد. فضلاً عن ذلك، والأخطر على الإطلاق هو دفع الأجيال الجديدة نحو عتبة المجهول، وبالتالي الإستيقاظ على الفضاوة والهوامات، بعد إفراغ الجيل الجديد من الصلات والروابط مع الإسلام الذي تأسست عليه علائق المجتمع الكُردي. ويبدو ذلك جليّا في الفوضى العاصفة بالمجتمع الكُردي، من فساد وظلم وجرائم مستمرة تؤّلد قلقاً عميقا لدى الملاحظين!
منذ عام 1979، هناك نظام طائفي عنصري يحكم إيران. هذا النظام يتمتع بطبيعة توسعية مذهبية عابرة للحدود الإقليمية، بغية إيجاد الأذرع والأيادي له خارج حدوده السياسية كدولة. وهو كذلك شديد الضلوع في الجريمة والإرهاب. يعتبر نظام إيران، جوهرياً، الإسلام السنيّ عدوه الأول. لذلك فإن من طبائع النظام الإيراني هو تشجيع أهل السنة، إذا لم يتحولوا إلى شيعة، أن يكونوا أي شئ سوى أن يكون لديهم وعي إسلامي سنيّ. فلا مشكلة في كون السنيّ ماركسياً، قومياً، يسارياً، ليبرالياً أو حتى صوفياً أو سلفياً مدخلياً، لأن هؤلاء لا يشكلون خطرا على الآيديولوجية الشيعية التي هي في المضمون حركة باطنية تهدف إلى تحويل السنة إلى شيعة والتوسع بأي طريقة كانت، فالإرهاب في هذا المذهب مبرر شرعا في سبيل إحقاق أركان العقيدة عبر تعجيل قائم آل كسرى وآل الصفوية (المهدي المنتظر في ظاهر الدعوى). لذلك فبالرغم من الجيرة، فإن إيران حرصت على تحجيم التيار الإسلامي السنّي في كُردستان في الثلاثين عاما الأخيرة. وظل طالباني وجماعته يشغلون مرتبة الإبن المدلل لإيران، وذراعها الإستراتيجية على أرض الواقع. يأتي في المرتبة الثانية، الحزب الديموقراطي الكُردستاني بزعامة مسعود بارزاني، كحليف مهم لإيران إلى آواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث تغير محور التحالف لدى هذا الحزب نحو تركيا بشكل عام، وهو اليوم واقع ضمنا في المحور المناهض لإيران بقيادة تركيا، وهو ما يظهر بوضوح في الموقف من سوريا، حيث يقف الحزب إلى جانب الثورة السورية. إيران تخاف من النفوذ السني، لذلك وجهت ضربات قاضية له، وكان كُرد إيران الضحايا الأوائل لهذه الحملة الشرسة، حيث قام النظام الإيراني بتصفية معظم علماء السنة في كُردستان إيران، وشلّت الإسلام السنيّ بين سكان كُردستان بشكل مدهش جدا!
حين تذكر مذبحة حلبجة، هناك قرينة ملزمة دائمة بها، وهي دور إيران في إنقاذ الملهوفين عبر عمليات إغاثية إنسانية! ذِكْرُ هذا الدور يأتي للتغطية على عمالة أحزاب الكُردايَتي لإيران، والتي أدت إلى الكارثة المعروفة. وإلا فإن إيران هي التي قصفت حلبجة بالمدافع الثقيلة بساعات، قبل أن يقصفها النظام العراقي بالأسلحة الكيمياوية، وأهالي حلبجة يعرفون هذه التفاصيل. إذن لماذا هيئت إيران هكذا أجواء، لإستدراج النظام العراقي نحو مصيدة التسلل الدولية؟ في ما يخص الجانب الكُردي، كانت لإيران عدة أهداف من أهمها في نظري ثلاثة أمور حيوية: أولها، خلق فوضى ودمار في المناطق الكُردية السنيّة. ثانيها، تعميق الشرخ والعداوة بين السنة العرب والكُرد، لاسيما كان النظام في العراق في ذلك الوقت بيد السنة نسبيا، رغم الوجود الكثيف للشيعة في جميع مفاصل الدولة. ثالثها، الظهور بمظهر الصديق والسند للكُرد، وقطع دابر أي تاثير خطير وسلبي للإسلاميين السنة في كُردستان العراق على السنة في كُردستان إيران. ونجحت إيران في كل ذلك. لكنها استعملت في سبيل هذه السياسات جهة كُردية تُعرّف لنا أنها إشتراكية-ديموقراطية، والتي تشغل شخصيات شيعية كُردية مراكز خطيرة في قيادتها. وبالطبع فإن ولاء هذه الشخصيات بسبب التربية الإجتماعية، كما هو ديدن الشيعة في كل مكان، هو للمذهب في المرتبة الأولى (مغطى بالتقية على غرار الجناح العلوي داخل حزب العمال الكُردستاني، على رأي عثمان أوجلان، الذي يرى أن هذا الجناح هو آداة طائعة في يد نظامي إيران وسوريا، ويقف حجر عثرة أمام عملية السلام بين عبدالله أوجلان والحكومة التركية). ومن هنا ينبغي أن نسأل، ماذا كانت إستراتيجية إيران والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (بقيادة آل الحكيم)، في عام 1986، في توقيع الإتفاقية الإستراتيجية مع الإتحاد الوطني الكُردستاني الذي يُعتبر إشتراكياً-ديموقراطياً، قومياً وعلمانياً؟!
من هنا، فإن إهانة سكان حلبجة، بسبب وجود أعداد من شبابها، وحوالي عشرة شهداء لحد الآن، في سوريا، دفاعا عن الشعب السوري المنكوب، يأتي في إلتقاء الأبعاد المشتركة المختلفة لجهات عدة: أولاها، الإتحاد الوطني الكُردستاني كعدو لدود للإسلام (لأسباب منها تتعلق بالبنى الفكرية لهذه المنظمة: آيديولوجية قومية شوفينية، ومنها ما يتعلق بالسياسة كجزء من الإستراتيجية الشيعية الإيرانية)، ثانيها، إعلامٌ أهلي يدور في فلك الإتحاد الوطني وإيران (القصد في فلك إيران عقابيل السياسة التي أوجدت تعاون الإتحاد الوطني مع نظام الملالي)، مع إضافة حساسية هذه المدينة تجاه سلطة حزب مسعود بارزاني، وثالثها، إيران نفسها، التي قلنا أنها تملك إستراتيجيتها، ومنطقة السليمانية هي جزء من رقعة إيران السياسية! وللقارئ أن يلاحظ كيف توظف إيران السياسة لصالح آيديولوجيتها الشيعية، وفي المقابل يحارب الإتحاد الوطني الكُردستاني الإسلام، دين غالبية الشعب الكُردي، عبر ما يُسمى باليسار والعلمنة والحداثة، ولكن في واقع الحال من أجل مسألتين: الأولى، تضعيف الكُرد وإشغالهم بمعارك جانبية وداخلية، والثانية، خدمة لسياسة إيران المذهبية التي تملك نفوذا كبيرا على السلطة الكُردية في منطقة السليمانية. لذلك فإن شباب حلبجة، الذين يندفعون بإحساس إنساني عالي نحو أتون الحرب في سوريا، دفاعاً عن النساء والشيوخ والأطفال، يصبحون أهدافا لحملة إحتقار وتشويه، من قبل أناس غارقين في الإرهاب والجريمة والفساد! والسؤال الأهم هو، أن إيران العالِمة علم اليقين بعداوة الإتحاد الوطني الكُردستاني لللإسلام، فلماذا وهي جمهورية إسلامية، تبقى على صلتها الإستراتيجية معه، ولا تبحث عن البديل بين الإسلاميين الكُرد، إذا كانت إيران حقا تعمل من أجل المشروع الإسلامي العابر للمذهبية؟! الجواب يعلمه الجميع، والثورة السورية عرّت جميع دعاوي النظام الإيراني وأسقطت أقنعته، لذلك فلا حاجة لتفصيل أكثر.
في عام 1986، وقع الإتحاد الوطني الكُردستاني إتفاقية إستراتيجية مع إيران والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في العراق. حين ندقق في الأمر، نلاحظ أن الإتحاد هو الطرف السياسي الكُردي الوحيد الذي يُشغل فيه بعض الشيعة مراكز قيادية خطيرة وهامة جدا. أحد هؤلاء القياديين كان مسئولاً عسكريا لهذه الجهة لسنين طويلة. لم يتوان هذا المسئول العسكري في قتل وسفك دماء الكُرد السنة، على غرار النظام العلوي في سوريا، والنظامين الشيعيين في إيران والعراق. هذا الشخص تعمد أيضاً في إعدام أسرى، ميدانياً دون محاكمة، ومن بينهم أناس من بلدة حلبجة!
على الصعيد السياسي، من المعلوم كيف يقف الإتحاد الوطني بشراسة ضد الإسلام السني، ويتعامل بمنتهى الليونة مع المذهب الشيعي. لذلك فقد عمد طالباني إلى إهداء حسينية للشيعة في مدينة السليمانية رغم أنها تخلو من كُردي شيعي (ما عدا المنتسبين للإتحاد من بلدة خانقين وجوارها)، لكنه يضع القيود تلو القيود على مساجد السنة، ويعرقل بناء مساجد جديدة. وآخر هذه المهازل، هو مداهمة أكثر من عشرة مساجد ليلاً بتهمة البحث عن الإرهاب!
أرسل الإتحاد الوطني الكُردستاني مقاتليه إلى لبنان وفلسطين، في القرن الماضي، وجَلبَ الحرس الشيعي الإيراني ضد الحكومة العراقية وضد أطراف كُردية أيضا. لكنه يقف بشدة ضد الثورة السورية، وضد مشاركة شباب كُردستان في هذه الثورة. لماذا؟
سياسة هذا الطرف الكُردي واقعياً، هي امتداد لواقع العشائر والأمارات الكُردية القليلة التي كانت توالي الصفويين، سواء برغبة منها أو رهبة من النظام الصفوي. وهي أيضا استمرار للإتفاقية الإستراتيجية التي وقعها عام 1986 مع إيران وشيعة العراق. وعلى صعيد آخر، نشأ الإتحاد الوطني الكُردستاني داخل أحشاء الدولة العلوية في سوريا، وفي أحضان النظام الإيراني الشيعي. لقد ترعرع الإتحاد بين حضنيهما، ووقف على قدميه بمساندتهما. وظل الإتحاد الوطني الكُردستاني بيدقا يُستخدم في إستراتيجيتهما. غافلاً أو متغافلا عن الأبعاد الخطيرة للسياسات المذهبية لإيران، سخّر الإتحاد الوطني نفسه لإيران عبر بضاعته المزجاة من شوفينية مهترئة، و يسارية آفلة وديموقراطية لم يفهمها ولا طبّقها يوما. تزامنا مع هذا المسار، يؤدي ما يُسمى بالإعلام الأهلي الحر في هذه المدينة، نفس الدور الخاسر والمحبط، والسبب هو، رغم أن هذا الإعلام الأهلي قد يكون خارج العلاقة التنظيمية مع الإتحاد الوطني، لكنه تربى في ظل منظومته السياسية والفكرية، ويشاركان نفس الخلفية الثقافية والأدبية، وهو أي الإعلام الأهلي يتنفس الهواء في جوّ يهيمن عليه الإتحاد بقوة الإرهاب. لذلك ليس من الغريب، أن يقف الإتحاد الوطني ضد الثورة السورية، وتساند مجموعات كُردية عميلة للنظام السوري، رغم أن الكُرد في سوريا عانوا أكثر من غيرهم من النظام العلوي لمدة تفوق اربعين عاما. ومن هنا، فإن التقسيم بين العثمانيين والصفويين الذي أشرت إليه يلعب دوراً أساس في هذه المعادلات التي تفرز التوازن بين القوى الكُردية المحلية. موقف الإتحاد نابعٌ من هكذا توازن، والذي يريد الإحتفاظ به ضد الحزب الديموقراطي الكُردستاني بزعامة بارزاني، المتفق مع أردوغان في الموقف من الثورة السورية. والمفارقة أن الإتحاد الوطني ناصب حزب العمال الكُردستاني العداء لسنين طويلة، واعتبر أوجلان الخائن الأكبر في التاريخ الكُردي!
في مشهد أوسع من هذا كله، فإن حال الكُردايتي وكُردستان هي ما يمكن تلخيصه بكلمتين: كوميديا سوداء، لأنها عالم خاص من الجريمة والظلم.
إلى أمس قريب، كانت الكُردايتي تربي الناشئين من الأجيال الكُردية على عداوة العرب والترك والفرس، لكنها اليوم سلّمت أجزاءً حيوية جدا من الإقتصاد في الإقليم لجهات تنتمي لهذه الأقوام. وهذا التسليم ينتج باستمرار ثغرات وخسارات يدفع ضريبتها الكُردي المسكين. وعلى صعيد آخر تتم علنا سرقة المليارات من الدولارات، دون أن يجرؤ أحد على فتح أي ملف، وإلا فيقتل فورا كما قتل الصحافي الكُردي كاوه كرمياني قبل اسابيع أمام بيته. على صعيد التربية والتعليم، يشهد إقليم كُردستان مهازل عجيبة أصبحت مثار سخرية العامة. المجالات الأخرى كالزراعة والصحة والإنتاج والتجارة، تشهد فسادا تلو فساد وكوارث عقب كوارث. من يتابع أخبار الصحافة الكُردية، يلمس بوضوح هذا المستوى الخطير عبر الأخبار اليومية المحيّرة والغريبة حقا! إقليم كُردستان أصبح جحيما حقيقيا لأكثرية فقيرة، وجنّة مليئة بالقلق والخوف والإرهاب لأقلية حاكمة وحواشيها. والجميع يجهل مستقبل الإقليم الضبابي. أما كركوك التي تغنى بها ربائب الكُردايتي فأمست ترفع لافتات مهازلهم، إذْ تفككت القائمة الموحدة بين الأحزاب الكُردية، على خلفية الصراع على السلطة، والصراع على شخص واحد فرّط عقدهم وعقيدتهم في سياسة لم يقدموا فيها إلا الخراب. وجرى كل ذلك ومايزال تحت خيمة الكُردايتي.
ولكن نتائج هذه الكوارث والمحن، كانت إعلانا كامنا لموت الكُردايتي، التي تحولت إلى جثة هامدة في رحيل الآيديولوجية القومية التراجيدي![1]