شخصية الكردي السوري ...
اكرم حسين
الحوار المتمدن-العدد: 8089
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أنني لم أتمكن من تحقيق الشروط المطلوبة لدراسة شخصية الإنسان الكردي السوري بشكل تفصيلي ، فهذا الأمر يتطلب دراسة بحثية واستقصائية معمقة في ظل ندرة الكتب والمراجع التي تناولت هذا الموضوع ، ومع ذلك، يظل هذا النص في اطار المحاولة لتوجيه الأنظار نحو البحث والاستقصاء لفهم نفسية وخصائص المجتمع الكردي السوري، حيث يتميز كل مجتمع بصفات وخصائص خاصة به تميّزه عن غيره.
صحيح أن شخصية الإنسان تصاغ ضمن أطر وقوالب يصنعها المجتمع، الامر الذي يؤدي إلى تبلور صفات وخصائص تتشابه داخل المجتمع الواحد، لكن البشر يختلفون في بعض الصفات الأخرى، بحيث يكون لكل فرد شخصيته الخاصة ، وبهذا المعنى ، فإن شخصية الكردي السوري تعاني من ازدواجية الانتماء: انتماء إلى كردستان كدولة تاريخية يطمح إليها جميع الكرد، وانتماء آخر يتعلق بوجوده العياني الملموس في سوريا بعد ضم جزء من كردستان إليها بموجب اتفاقية سايكس-بيكو، وهو ما يميزها عن باقي الدول التي تقتسم كردستان.
بصفة عامة، يمكننا القول إن شخصية الإنسان الكردي السوري خاضعة لولاءات متعددة ، وانتماءات مختلفة ، تتداخل فيها القومية مع الدين. كما أنها تتسم بالصبر، والكدح، وطلب العلم، والعمل في المهن والحرف والصناعة ،والتمسك بالحوار، وهذا يسبغ عليها صفة السلمية والابتعاد عن المشاكل ، ويتناقض مع مزايا البداوة التي تمتاز بالبطولة والفروسية، وما إلى ذلك . فقد اعتبر ابن خلدون أن الإنسان لا يمكن أن يكون محارباً باسلاً وطالباً للعلم في الوقت ذاته، كما لا يمكنه أن يكون بطلاً شجاعاً وصانعاً ماهراً، ومع ذلك، فإن ما نشاهده اليوم في الغرب يدّحض ما يقوله ابن خلدون، إذ أن القوة والصناعة قد اتحدتا في وقت واحد ....!
من هنا ، فإن شخصية الكردي السوري هي المجال الذي يتداخل فيه التأثير الثقافي، بالاجتماعي، والتاريخي، وتختلف شخصيته عن غيره من الأفراد في الشرق الأوسط ، نتيجة للظروف التاريخية والسياسية التي أثرت في حياته ومعتقداته وهويته وفي صيرورة تطوره...!
تؤثر الظروف التاريخية على شخصية الكردي السوري بشكل كبير، فمنذ العصور الوسطى، شهد الكرد تحولات تاريخية متنوعة، بدءاً من الإمبراطورية العثمانية إلى الانتداب الفرنسي ثم الاستقلال السوري ، وقد أسهمت كل فترة من هذه الفترات في تشكيل هوية الكردي السوري ، واغنت تجربته الاجتماعية.
لقد تأثرت الشخصية الكردية السورية خلال فترة الدولة العثمانية بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فقد تمسك الكردي السوري بلغته وثقافته، وبعادات وتقاليد اجداده في حياته اليومية، واعتبرها وسيلة للحفاظ على هويته القومية في ظل الضغوط العثمانية ، ما ولد لديه شعوراً قوياً بالاستقلالية ، خاصة في إدارة شؤونه ومناطقه بمرونة ، وحظي القادة الكرد بالاحترام، وتحملوا مسؤولية العلاقة والتفاوض مع السلطات العثمانية....!
اتسمت شخصية الكردي السوري آنذاك بمرونة التعامل مع التحديات السياسية التي فرضتها الدولة العثمانية، حيث أبدى تعاوناً مع السلطات العثمانية أحياناً، ورفضاً أحياناً أخرى ، وهكذا تأقلم الكرد مع الظروف السياسية المتقلبة ، وطوروا استراتيجيات للتعامل مع التغيرات المفاجئة ، والضغوط المفروضة، وكان ولاء الكردي السوري للدولة العثمانية غالباً مشروطاً بالوضع الاقتصادي والسياسي ، ففي بعض الأحيان كان يتعاون مع السلطات لضمان استقرار مناطقه وحمايتها، بينما في أوقات أخرى كان لديه تحفظات قوية تجاه السياسات العثمانية ، ونظراً للتاريخ الطويل من الصراعات مع السلطات العثمانية، اتسمت شخصية الكردي السوري بالحذر والشك تجاه السلطة المركزية.
ومع تزايد حركة القومية الكردية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت تظهر في شخصية الكردي السوري رغبة قوية في تحقيق حقوق أكبر وتعزيز هويته القومية ، لا بل كانت هناك رغبة في تحقيق مزيد من الاستقلالية السياسية وتحسين الوضع الاجتماعي.
خلال هذه الفترة اظهرت الشخصية الكردية السورية مزيجاً من التمسك بالهوية القومية، والاستقلالية، والتكيف مع التحديات السياسية، والولاء المشروط، والوعي القومي المتزايد.
ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية، واجه الكرد تحديات جديدة خلال فترة الانتداب الفرنسي لسوريا (1920-1946). فقد كرسوا صوراً حقيقية من النضال الوطني ضد الانتداب الفرنسي، وسعوا إلى تحقيق استقلال سوريا وانتزاع حقوق الكرد، مما عكس لديهم ، الوعي القومي المتنامي ، والرغبة الصادقة في تحقيق الأهداف الوطنية.
في هذه المرحلة، أبدى الكرد السوريون مرونة في التكيف مع الظروف السياسية التي فرضها الانتداب الفرنسي ، وكان عليهم التفاوض والتعامل مع الإدارة الفرنسية بطرق مختلفة لضمان مصالحهم وحماية حقوقهم ، وفي ذلك ، ساهم الكرد في الأنشطة السياسية والأحزاب التي كانت تناضل ضد الانتداب الفرنسي، ورغم دعمهم للحركات الوطنية، شعر الكرد بالتمييز والتهميش من قبل السلطات الفرنسية والأحزاب السياسية السورية الكبرى التي كانت تركز اهتماماتها على القضايا العربية وتغفل قضايا الكرد ، ما ولد مشاعر الاستياء من عدم الاعتراف بحقوق الكرد وتطلعاتهم، و الانكفاء دون الحصول على حقوق سياسية وثقافية.
لم تتوقف الضغوط السياسية والاجتماعية يوماً، ومع ذلك حافظ الكرد السوريون على ثقافتهم وهويتهم القومية ، الامر الذي دفعهم إلى تعلم لغتهم وبث الوعي القومي بين الشباب للحفاظ على الهوية الكردية ، وطالب بعضهم بحق تقرير المصير في المناطق الكردية بعد تشكل الدولة السورية الحديثة.
شخصية الكردي السوري خلال الانتداب الفرنسي كانت مملؤة بالروح الوطنية و، النضال من أجل الحقوق ، ودرء المظالم ، والتكيف مع الظروف السياسية، ومواجهة التمييز والتهميش، والحفاظ على الهوية القومية ، والرغبة في تحقيق الاستقلالية.
ثم نشأت تحديات إضافية خلال عهد حزب البعث في سوريا (بعد استيلائه على السلطة في عام 1963 وحتى بداية القرن الواحد والعشرين)، تأثرت الشخصية الكردية السورية بعدة جوانب رئيسية ناتجة عن السياسات القومية والإدارة السياسية التي فرضها حزب البعث .
ورغم السياسات القمعية، ظل الكرد السوريون متمسكون بهويتهم القومية ، ولغتهم ، و استمرت المجتمعات الكردية في ممارسة تقاليدها وتنظيم فعاليات ثقافية تعزز الشعور بالانتماء والهوية ، وتطور صمود الكرد على المستوى القومي والفني، مع التركيز على التعليم والأنشطة القومية التي تعكس التراث الكردي.
خلال هذه المرحلة، عانى الكرد من تمييز سياسي، حيث كانت السلطات البعثية تتبع سياسة التهميش ، وعدم الاعتراف بحقوق الكرد الثقافية والسياسية ، وصار الاحصاء و التمييز مصدرا للاستياء، مما دفع الكرد إلى المطالبة بمزيد من الحقوق والحريات، كما سعى الكرد للحصول على دعم دولي لقضاياهم، الأمر الذي أثر على مواقفهم السياسية واستراتيجياتهم.
شهد المجتمع الكردي السوري صراعات داخلية بين مختلف الجماعات والأحزاب الكردية حول كيفية التعامل مع النظام البعثي ، وأفضل استراتيجيات تحقيق الأهداف، وفي هذا السياق ظهر اليمين واليسار الكردي، لكن دائما ، كان هناك أمل في التغيير، حيث كانت الأجيال الجديدة تتطلع إلى تحسين أوضاعها وتطالب بحقوقها بشكل أكثر فعالية ، وعزّز هذا من الامل في عزيمتهم في مواجهة القمع والمعتقلات.
خلال عهد حزب البعث تمسكت القوى والاحزاب ، بالهوية القومية ، وقاومت التمييز والاضطهاد، وكثفت النشاط السياسي والنضالي، وتكيفت مع الوضع الاجتماعي والسياسي، والصراع الداخلي وضرورة الاحتواء، والأمل في التغيير.
أثرت النزاعات المسلحة، خاصة خلال العقدين الأخيرين، بشكل عميق على النفسية الجماعية للكردي السوري ، فالنزاع السوري المستمر ، وأزمة اللاجئين ، والأوضاع الأمنية غير المستقرة ، أضافت أعباء اضافية، وأسهمت في تكوين مشاعر عدم الأمان والقلق، وأثرت بشكل كبير على الهوية والانتماء....!
لعبت التقاليد والعادات الكردية دوراً مهما في تشكيل الشخصية الكردية. فقد وفرت الاحتفالات التقليدية مثل نوروز، والزواج والضيافة ، والممارسات الدينية، إطاراً للمعنى والغاية للكردي في الحياة، مما ساعده على فهم دوره ومكانته في هذا العالم...؟
تعتمد الحياة اليومية في المناطق الكردية بشكل كبير على الزراعة، وهي مهنة تتعرض للتقلبات المناخية والجوية . هذه الظروف تؤدي إلى الخسلرة وخلق مشاعر الإحباط والقلق والمغامرة ، وتؤثر عادة على الصحة النفسية للكردي السوري بشكل عام...!
تعد تجارب النزاع والصراع المسلح من العوامل الأكثر تأثيراً على المجتمع الكردي . فالأفراد الذين يعيشون في مناطق النزاع يعانون من مشكلات مثل اضطرابات ما بعد الصدمة، القلق، والاكتئاب ، لكن رغم التحديات، يتميز الكردي السوري بمرونة ملحوظة ، وقدرة على التكيف مع الظروف الحالية ، والبحث عن سبل لتحسين الوضع، واستعادة التوازن في ظل الأزمات. هذه المرونة ، ظهرت من خلال قدرة الكردي الحفاظ على الروابط الاجتماعية المتينة والتمسك بالهوية القومية بغض النظر عن التحديات ، ورغم ما يواجهه الكرد السوريون، لديهم شعور دائم بالأمل والطموح للمستقبل . في سعيهم نحو الاستقلالية، وتحقيق الحقوق الثقافية والسياسية، وتحسين الظروف الاقتصادية.
إن شخصية الكردي السوري، بهذا المعنى، تعكس تفاعلًا معقداً بين التاريخ والثقافة والتحديات الاجتماعية والضغوط الاقتصادية ، وهي تلعب دوراً محورياً في تشكيل التجربة الذاتية للكردي السوري.
تتطور شخصية الكردي السوري وفق المتغيرات في السياق الاجتماعي والسياسي، مع استمرار البحث عن الاستقرار، وتحقيق الأمل في حياة أفضل ، ضمن دولة ديمقراطية اتحادية ، حتى يتحقق الحلم الكردي المنشود ....؟[1]