الفكر السياسي الكردي في سوريا تطوراته وتحدياته
اكرم حسين
الحوار المتمدن-العدد: 8084
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
يعتبر الفكر السياسي الكردي في سوريا واحداً من الأبعاد البارزة في المشهد السياسي والثقافي في المنطقة ، ويعكس نضال الشعب الكردي من أجل حقوقه السياسية والثقافية والاجتماعية. فقد مر هذا الفكر بتطورات كبيرة عبر العقود، بدءاً من بدايات القرن العشرين وحتى الوقت الراهن، وهو ما يعكس تأثير الظروف السياسية والإقليمية على تطور الحركة الكردية في سوريا.
لقد ظهر الفكر السياسي الكردي في سوريا بشكل متقطع خلال أواخر العهد العثماني، دون أن يتبلور بشكل واضح. في تلك الفترة، كانت معظم المبادرات الكردية محصورة في نطاق النضال الثقافي والاجتماعي، بسبب الضغوط السياسية والاقتصادية التي فرضتها السلطتان العثمانية ثم الفرنسية ، وبذلك ، كان الكرد في سوريا ، مثلهم مثل غيرهم في مناطق أخرى من الشرق الأوسط، يسعون للحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية، مما جعلهم يواجهون صعوبات في التعبير عن مطالبهم السياسية. فقد تركزت جهودهم في تلك المرحلة على الحفاظ على الهوية الثقافية وتفادي الأزمات السياسية التي فرضتها السلطات الاستعمارية.
تعد فترة الخمسينيات من القرن العشرين نقطة تحول رئيسية في تطور الفكر السياسي الكردي في سوريا، حيث شهدت تأسيس أول حزب سياسي كردي في عام 1957، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا. جاء هذا التأسيس نتيجة لعدة عوامل مختلفة ، من بينها تزايد الوعي القومي بين الكرد في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث بدأت الأفكار القومية تنتشر بشكل أوسع . كما كانت الظروف السياسية في سوريا خلال فترة الخمسينيات مليئة بالاضطرابات وعدم الاستقرار، الأمر الذي أوجد بيئة ملائمة لظهور الحركات السياسية الجديدة. إضافة إلى أن الضغوط المتزايدة من الحكومة السورية على الكرد دفعتهم للبحث عن وسائل منظمة للتعبير عن مطالبهم وتوحيد جهودهم ومواجهتها .
خلال السنوات الأولى من تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، كانت الأنشطة السياسية محدودة نسبياً بسبب القمع السياسي والضغوط من قبل الحكومات السورية المتعاقبة ، ومع ذلك، بدأت الحركات الكردية في اتخاذ خطوات مهمة نحو تنظيم نفسها ، وبناء هياكل سياسية وتنظيمية أكثر وعياً وقوة. ففي السبعينيات والثمانينيات، ظهرت أحزاب مثل الاتحاد الشعبي والحزب الديمقراطي التقدمي، ساهمت في تعزيز حضور الفكر السياسي الكردي في الساحة السورية بشكل واسع ، وكان لهذه الأحزاب دور بارز في تعزيز الحركة الكردية وتنظيمها، مما ساعد على بناء أسس قوية لمزيد من التطور السياسي.
من نافل القول ان انتفاضة آذار 2004 تعتبر نقطة تحول أساسية في تاريخ الفكر السياسي الكردي في سوريا. فقد اندلعت هذه الانتفاضة في مدينة القامشلي ، وسرعان ما انتشرت إلى عدة مدن كردية أخرى، وكذلك إلى الشتات الكردي، نتيجة للتمييز والاضطهاد الذي تعرض له الكرد. قوبل هذا الاحتجاج بالقمع العنيف من قبل قوات الأمن السورية، مما أسفر عن سقوط العديد من الشهداء والجرحى ، ورغم القمع ، أظهرت الانتفاضة قدرة الكرد السوريين على التنظيم والتعبير عن مطالبهم السياسية بشكل واضح .
لقد أثرت هذه الانتفاضة بشكل كبير على تطور الفكر السياسي الكردي، حيث أصبحت الحركات الكردية السورية أكثر تنظيماً وتصميماً على تحقيق أهدافها. هذا التحول دفع إلى تأسيس لجنة التنسيق الكردية ، التي انطلقت من أن القضية الكردية في سوريا هي قضية أرض وشعب ، يسعى لنيل حقوقه القومية ، وفق العهود والمواثيق الدولية ، ومن ثم تشكيل المجلس السياسي الكردي في سوريا، وضم تسعة أحزاب كردية. تمكنت هذه الكيانات من تنظيم احتجاج مركزي في دمشق ضد المرسوم 49، الذي كان يقضي بمنع تملك الكرد في المناطق الحدودية دون موافقات أمنية مسبقة.
مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، شهد المشهد السياسي في سوريا تغييرات جذرية. حاول الكرد الاستفادة من هذا التحول لتعزيز مكانتهم السياسية وتوسيع دائرة تأثيرهم ، ولذلك، انخرطوا في الثورة ، وأصبحوا جزءاً منها ، حيث انضم المجلس الوطني الكردي في عام 2013 إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بموجب وثيقة موقعة بين الطرفين، ولا يزال جزءاً منه حتى الآن، بالإضافة إلى هيئة التفاوض واللجنة الدستورية. من جهة أخرى، اختار حزب الاتحاد الديمقراطي الخط الثالث واسس عام 2014 الإدارة الذاتية بالتعاون مع أحزاب كردية أخرى، ساعياً لتحقيق قدر من الاستقلال الذاتي ضمن إطار الدولة السورية ، وهكذا أثرت الثورة السورية على الفكر السياسي الكردي بطرق متعددة، منها تحسين التنسيق بين الأحزاب الكردية (المجلس الوطني الكردي) وتأسيس نموذج خاص للإدارة الذاتية (حزب الاتحاد الديمقراطي )، ومحاربة الإرهاب ودحر داعش، مما أثار الاهتمام الدولي ، ودفع التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب إلى اعتبار قوات قسد العسكرية شريكاً لها في هذا الصدد.
لضمان تقدم الفكر السياسي الكردي في سوريا في الوقت الراهن، يتعين تحقيق عدة خطوات رئيسية. أولاً، من الضروري تعزيز الوحدة والتنسيق بين الأحزاب والقوى الكردية وصولاً إلى تشكيل جبهة سياسية عريضة ، قوية وفعالة، تكون قادرة على توحيد الرؤى والأهداف ، وتحقيق مطالب الكرد الواقعية بعيداً عن التطرف والانعزال. بحيث تكون هذه الجبهة أداة للحوار البناء والتفاوض مع الأطراف السورية والإقليمية والدولية، سعياً لإيجاد حلول سلمية للقضية الكردية وتحقيق الحقوق السياسية للكرد ضمن إطار الدولة السورية.
ثانياً، زيادة الوعي الدولي بقضايا الكرد في سوريا عبر الانفتاح والتعاون مع المنظمات الدولية ووسائل الإعلام العالمية ، و التواصل مع المجتمع الدولي لكسب الدعم والتأييد، مما يعزز من موقف الكرد على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ثالثاً، ينبغي تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية في المناطق الكردية ، وإطلاق الحريات العامة، وتوفير المساحة اللازمة للعمل الإعلامي والصحفي . لأن ذلك من شأنه أن يعزز من قوة الحركات والأحزاب السياسية الكردية السورية ، ويزيد من دعم المجتمع المحلي لمطالبهم وحقوقهم، خاصة في ظل استمرار القتال ضد الإرهاب والتهديدات المحلية والإقليمية المتزايدة والمستمرة .
بالمحصلة ، يبقى الفكر السياسي الكردي في سوريا مجالاً حيوياً واشكالياً في الساحة السياسية المحلية والإقليمية. من بداياته إلى تطوراته الحالية، فهذا الفكر يتحدى العقبات ويسعى لتحقيق أهدافه. في ظل الظروف المتغيرة والتحديات المستمرة، وبهذا يعتمد تقدم الفكر السياسي الكردي في سوريا بشكل أساسي على تعزيز الوحدة الداخلية ، والقدرة على التفاوض مع الأطراف الأخرى، وزيادة الوعي الدولي بقضايا الكرد وحقوقهم المشروعة.[1]