وُلِدَ فنان كركوك الاول الكبير عبد الوهاب برغش حسين سنة 1945 في أحد أحيا و مدينة كركوك محلة بريادي إحدى أزقة مدينة كركوك القديمة، (هابه) نشأ وترعرع في تلك الأجوا و الكركوكية الجميلة مدينة التآخي والصفاء، المدينة التي أنجبت المشاهير والعظام وفي خلال تلك الحقبة الزمنية من عمرها العتيد. وُلِد من أب مكافح مات مبكراً قبل ان يرى أبنه الصغير وهو يكبر ويصبح رجلاً، فتحملت السيدة والدته اعبا و تربية اليتيمين محمد و عبدالوهاب.. وبدأت تًحنو على هذا الطفل وتعوضه حنان الوالد الراحل ولكون ظروف العائله صعبة ومخافة ان يضيع الأبن في خضم الفاقة بحثت له عن صنعة يتعلمها كمورد رزق وحرفة مستقبلية له، وهي اول من اطلق عليه أسم (هابه) تحبباً وتلطفاً ليصبح هذا الأسم مستقبلاً علامة الشهرة للفنان عبدالوهاب، عمل كصبي خياطة وهو في التاسعة من عمره عند الأسطة صالح الخياط في محله بسوق القيصرية قرب القلعة فتعلم الخياطة وامتهنها وهوى الغنا و بل عشقه.. حيث كان يدندن مع نفسه عند غياب صاحب محل الخياطة ثم بدأ صوته يحظى بأهتمام أصحاب المحلات القريبة من القيصرية وأبنا و المحلة حتى وصلت شهرته الى اسماع احد فناني كركوك الكبار والذي عطف على هذا اليتيم وقرر ان يتبناه فنياً بعد ان احضره له احد اصحاب المحلات فأشاد بفناننا هابه وصوته الجميل وهو مايزال في بداية تكوينه الصوتي
تبنى الفنان القدير عزالدين نعمت صوت الشاب اليافع (هابه) وقرر ان يعلمه اصول الغنا و الشعبي واُُُُُسس المقام العراقي بعد ان كان الفنان هابه يؤدي الأغاني دون الألمام بأصول الغنا و خلال الفترة السابقة.. وبدأ المرحوم عزالدين نعمت يصطحب الفنان (هابه) معه الى دار الفنان المرحوم سمه بربر وعلى يد هذين العملاقين تتلمذ (هابه) على كل اساسيات الغنا و الشعبي التركماني وبدأ صوته يحتل مكانة مميزة بين الأصوات وكان للفنان عزالدين نعمت الفضل في تقديم الفنان (هابه) في كل الحفلات والمناسبات الدينية حيث اثبت حضوراً كبيراً في كل تلك المناسبات
و قد كان اول حفلة لفناننا الكبير بدعم من استاذه ومعلمه عزالدين نعمت حين قدمه في حفلة رسمية وبحضور جمهور غفير من ابنا و المدينة وفي مدرسة المصلى
وقد فاجأ صوته كل من استمع اليه وخاصة قائد الفرقة الثانية انذاك والذي قام بتكريمه بمبلغ عشرين دينار ليخط اسم (هابه) في عالم الأحتراف الغنائي.. وقد ادى (هابه) في هذه الحفلة اغاني أبكى فيها الحضور ثم صرخ بأعلى صوته صرخته المدوية مغنياً (بُلبُلم اوچار يوواسينه) ليعلن ولادة فنان شاب يضع خطوته الأولى في طريق الفن الذي اصبح شغله الشاغل اثنا و الليل واطراف النهار
اصبح الفنان (هابه) اسماً معروفاً على نطاق ضيق وضمن بعض الاحيا و الشعبية من مدينة كركوك ولم يزل يرافق بعض الفنانين الكبار امثال المبدع رشه گوله رضا و طوپال حمه وغيرهم لكي يتعلم منهم وفعلاً تعلم الكثير منهم وبعد ان تعلم كل ما يجب عليه ان يتعلمه الطالب الامي الذكي في اڵانصات وكان على هذا الطالب ان يثبت انه اصبح استاذاً او نصف استاذ، لذا قرر ان يطرح اول شريط كاسيت الى الاسواق وبعد مداولات عدة ومناقشات مع استاذه الاول عزالدين نعمت اتفقا ان يطرحها كاسيتاً مشتركاً يحمل هوية (هابه) الفنية مستفيداً من شهرة عزالدين نعمت بين جمهور المدينة، وقد نجح ذلك الكاسيت نجاحاً منقطع النظير.. وقد كان لهذا الكاسيت دور كبير وفاعل في دعوة هابه الى الحفلات العامة والخاصة.. ورغم شهرته في الغنا و إلا انه كان يبحث لنفسه عن مورد رزق آخر بعد ان ترك مهنة الخياطة، لذا عمل كسائق تاكسي لعدة سنوات ثم سائق اجرة سيارة (خط تسعين) إلا انه لم يستمر طويلا حيث قدم اوراقه الى وزارة الصحة ليتم تعينه بصفة سائق اسعاف في صحة كركوك وهكذا كان يطيب (هابه) جروح العشاق المرضى بالحب بصوته الشجي ويزيد ولهاً وحباً وينقل المصابين بجراح الحب والألم بأسعافه السريع لكي يساهم في انقاذ حياتهم الحرجة التي دخلت مرحلة الخطر ليعدهم الى الحياة مرة اخرى... وهكذا ظلت عجلة الأيام تدور مع هابه
اصبح اسم (هابه) ماركة مسجلة لكل حفلة ناجحة، وكان اسمه يكفي لجلب المعجبين من كل مكان لذا بدأ الجمهور يطلبه في المدن الأخرى والأقضية و النواحي والقصبات مثل اربيل موصل ديالى بەغداد التون كوپري تلعفر طوز خورماتو تازة كفري بيشير وجميع انحا و كركوك بدون استثنا و
وقد استمر حفلات (هابه) الموزعة بين كردستان و بەغداد منذ بداية السبعينيات وحتى يوم وفاته.. ولو حاولنا ان نحصي عدد الحفلات و المقابلات و اڵاماسي التي شارك فيها لفاقت كل التقديرات الموضوعة في ذاكرتنا لأنها وصلت الى حد أرقام فلكية
عاش (هابه) انساناً بسيطاً بكل ما تحمله البساطة من معنى وكان أباً حنوناً لولديه شاهين و خالد وقريباً من كل اصدقائه، وعاش عزيز النفس كريم اليد وشامخ القامة ولم يجمع من حطام الدنيا سوى خلوده في القلوب، ورغم كل الأموال التي كانت تأتيه بمئات اڵالاف ثم بالملايين وكنوز من الذهب التي كانت تهدى له من المعجبين إلا انه عاش حياة التقشف حيث صرف كل تلك الأموال في سبيل الفن وعاش طول حياته في بيت للأيجار حتى وفاته
استمرت رحلة (هابه) اربعين سنة، كون لنفسه خلالها مدرسة خاصة بالغنا و الشعبي التركماني كما هو الحال بالنسبة للمطرب المبدع يوسف عمر و المطرب سعد الحلي وطورهم الخاص والفنان المصري أحمد عدوية واسلوبه المميز، وهناك عشرات من المقلدين بالصوت والادا و للفنان (هابه) بل انهم اضافوا اسم (هابه) الى اسمائهم واصبحت كاسيتاته دروساً لتعلم الغنا و الشعبي الخاص بمدرسته في الغناء
ترك وراءه مسيرة فنية طويلة تحمل الاف الحفلات وأكثر من 2500 شريط كاسيت وأكثر من 500 شريط فيديو
صرخة (هابه) ساعة ولادته كانت مدوية ومن استمع الى بكائه لم يكن يتصور أن هذا الطفل سيأتي يوم يصبح فيه علماً من أعلام الغنا و الشعبي في كركوك خاصة وفي العراق عامة
بعد ان نال شهرة واسعة من خلال أدا و الأغاني التراثية والبستات الكركوكية غنى لرواد المقام في بداية القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر
كان صوت (هابه) قوي النبرات يتهدج ويتلون بانفعالات غريبة لايفهمها سوى الذين يعيشون تجربة حب عذري من ابنا و الاحيا و الشعبية أنه التشبث بماض انساني تضافرت فيه كل الظروف لاحيا و الاحاسيس والرعشات الانسانية الخالدة
أستطاع الراحل (هابه) أن يغزو قلوب مئات اڵاڵاف من المعجبات و المعجبين وبدأت أغانيه انتشار الأريج في الرياض والصدى عبر اڵاثير
تجول (هابه) بين احيا و مدينة كركوك حياً حياً وزقاقاً زقاقاً حيث أنشد وغنى في كل الحفلات الخاصة والعامة وخاصة حفلات اڵاعراس التي كانت لاتكتمل إلا بوجوده وكان معجبوه ومعجباته ينتظرون سماع صوته ويسهرون معه حتى الفجر
صور أول شريط فيديو بحياته في منتصف السبعينيات وكان هذا الشريط بدايةظهور (هابه) على أشرطة الفيديو قبل أن يدخل تلفزيون العراق
في منتصف الثمانينات أدى عبدالوهاب (هابه) فريضة الحج، ومنذ ذلك الوقت اضيف له اسم حجي (هابه) وبدأ محبوه ينادونه بالحجي حباً له وتحبباً اليه دخل (هابه) الأذاعة عام 1988 وفي نفس العام صورت أغانيه الثلاثة اليتيمية لتلفزيون كركوك ونتمنى أن يُستفادَ من حَفلاتهِ المصورة والمتوفرة للحفاظ على تاريخ هذا الفنان غنى لرواد المقام في بداية القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر لأمثال: شلتاغ وملا طه وملا عەبدوڵڵا لوبياجي
شارك مع (هابه) في حفلاته معظم مطربي كركوك، ومن أشهر هؤلا و: كريم عثمان والهام ملا عبود والمرحوم هشام ويشار عزالدين والمرحوم مشكو ويشارأربيللي ومحمد أحمد أربيللي وسالم أربيللي واكرم طوزلو والمرحوم عبدالواحد كوزه چي أوغلو ومحمد رؤوف وابراهيم رؤوف ومحمد عزالدين نعمت والمرحوم عنايت وغيرهم هابه الفنان الذي لم يعرف المساومة ابدا في حياته القصيرة، ولم يرضخ للضغوط والتهديد لينشد من اجل حفنة من الدنانير الزائلة، وكان صوته معبرا بحق عن معاناة تلك الطبقة المسحوقة في المدينة بفعل القوانين الجائرة والسياسات الشوفينية، (هابه) المنسي رحل دون أن يذكره أحد سوى بعض الأصدقا و المخلصين في كركوك
كان (هابه) صوتاً رافضاً للظلم والبطش وكان صوتاً جهوراً بوجه الطغاة والجبابرة، ولم يكن شيئاً عجيباً إذا تتذكره القنوات الرسمية في العراق، فيكفيه هذا الفنان الأصيل أن يتذكرهُ محبيه وجمهورهُ الكبير وان يحفروا له مكاناً بكبر مدينته العزيزة في القلب والروح تنبأ له رائد الغنا و التركماني عبدالواحد كوزه چي أوغلو بمستقبل باهر بعد ان استمع اليه في الخمسينيات، وقد أثنى كثيراًعلى صوته المميز والخاص وذات النكهة التركمانية الأصيلة.. وقد صدقت نبؤة الفنان الكبيرعبدالواحد بعد انتشار اغنيته المعروفة (بياز گول قرمزى گول وردة بيضا و وردة حمراء) في تركيا وقيام معظم المطربين الأتراك بغنائها، فازت الأغنية بجائزة أفضل أغنية، وتم توجيه الدعوة الى (هابه) لزيارة تركيا لاستلام جائزة الأسطوانة الذهبية. وقد قام هناك باحيا و حفلاته المصورة التي اقامها مع المطرب المعروف ابراهيم رؤوف والمطربة التركية اجەلال أق قاپلان. وعن أيام تواجد (هابه) في تركيا، يذكر الفنان ابراهيم رؤوف مايلي لم يستطع (هابه) البقا و في تركيا لأكثر من اسبوعين، فقد كان يشعر بشوق جارف الى العراق والى مدينته كركوك. وقد حاول الرجوع منذ أول يوم من وصوله، الا اننا منعناه وطلبنا منه التريث والصبر، لكنه كان يعاني كل يوم، بل كل ساعة اڵام الغربة والحنين والحب والشوق الى جمهوره وأحبائه في كركوك.. لذلك فانه عاد بعد اسبوعين من الزيارة فقط، حيث حمل حقائبه عائدا الى أرض الوطن
وقد علق هو قائلا على الحادث بقوله: تركت تركيا بعد اسبوعين فقط من تواجدي فيها على الرغم من الطلبات الكثيرة للبقا و في استانبول من الشركات الفنية والفنانين الأتراك الذين حالوا اغرائي بشتى الوسائل للبقل و فترة أطول، الا ان الساعات الأخيرة بدأت تسير ببط و شديد لأنني كنت أعدها لحظة بلحظة وقررت العودة الى الوطن الغالي وجمهوري العزيز في كركوك الحبيبة
خرجت كركوك عن بكرة أبيها لتشييع فنانها الخالد الى مثواه الأخير، شارك فيه اڵاف من معجبيه حاملين نعشه في شبه مسيرة جماهيرية دون أن يبالوا بطغيان النظام البائد مؤكدين وفاءهم لفنانهم الكبير الذي أمتعهم في حياته وأحبهم فبادلوه الحب.
في كتاب (هابه غائب جسداً.. حاضر فناً) للكاتبين بهجت مردان ومحمد خضر، الذي صدر عام 2002 بكركوك، ننقل اليكم نصا يعرف بجانب لا يعرفوه الكثيرون عن فناننا الكبير:
هابه وسفير الأغنية العراقية
حسن حسين السعيدي بعد أن سطع نجم عراقي يدعى (كاظم الساهر) وبدأت أغانيه الناجحة تغزو التلفزيون،.طلب مني أحد متعهدي الحفلات الفنان (عباس البارودي) مساعدته في انجاح حفل يقيمه للفنان كاظم الساهر وكلفني لقيادة الفرقة الموسيقية.. وقد أشرت عليه أن يكون المرحوم (هابه) نجم الحفل الى جانب الساهر، وذلك لجمهوره العريض في كركوك وأربيل.. وفعلا استجاب المتعهد لي. واستمرت الحفلة التي أقيمت على مسرح قاعة سينما صلاح الدين عام 1990 ثلاثة أيام، ونجحت نجاحا ساحقا. وكانت القاعة مكتظة بالجمهور حيث وجدنا صعوبة كبيرة في السيطرة عليه، خصوصا عند دخول سفير الأغنية العراقية كاظم الساهر، وسفير الأغنية التركمانية الكركوكلية المرحوم (هابه) الذي حرص على الالتزام بموعده خلال الأيام الثلاثة، وقد تنازل (هابه) عن أجره في الغنا و للأيام الثلاثة التي غناها لصالح الساهر، الذي كان في بداية مشواره الفني ولم يتناول قرشا واحداعن غنائه لهذه الايام الثلاثة وتبين لنا الحجم الكبير لتواضع هذا الفنان الرائع. وقد تأثر كاظم الساهر بصوت (هابه) واستقبال الجمهور المذهل له وتواضعه ازا و كل ذلك فلم يملك الا أن يقول له:
أنك ياأخ (هابه)، من الأصوات النادرة في الغناء، وتمتلك حنجرة قوية وقرارا لا يجاريك فيه أحد، وأنت من الفنانين القلائل الموجودين في الساحة الغنائية، الذين حافظوا على اصالتهم وخصوصية ادائهم، والا لما كان كل هذا الصرخات وهذا التصفيق وهذه الاستجابة القوية بينك وبين الجمهور الكركوكي العريض، المحب لك
أيامهُ الأخيرة
أحس (هابه) بدنو أجله منذ مدة طويلة بعد ان منعه الاطبا و من الغنا و و السهر والذي يؤثر على قلبه المتعب وجسمه النحيل الذي اكلته امراض الزمن إلا انه كان عنيداً مع نفسه وكان عاشقاً للغنا و ولا يستطيع ان يرد طلب محبيه لأقامة الحفلات ولكنه قبل عشرة ايام من وفاته بدأ يراجع اوراقه التي اوصلته الى المستشفى بعد ان اصيب بجلطة كاد ان تقضي عليه لو لا رعاية الله التي انقذته في اللحظات الاخيرة.. وقد حاول كثير من اصدقائه بدعوته قبل ايام من وفاته إلا انه كان يعتذر بكل أدب عن اقامة أية حفلة غنائية لانه كان ينتظر شيئاً اكبر وهو ان يرتاح وينام وحين وضع رأسه على وسادته احس ان الموت قريب منه ولكن موت (هابه) حدثاً كتبته كركوك وأخرجته شفاه وألسن آلاف المعجبين الذين كانو على موعد معه
في فجر يوم الجمعة 17-08-2001 ليسلموه الى مثواه الأخير
وهكذا رحل (هابه) بصمت وسكينة
لا موسيقى ولا غناء
بل حسرة صامتة ودموع خرساء
رحل الى حيث لا يعود الراحلون
نهاية الرحلة
قطعة قماش بيضا و لف بها (هابه) بعد ان تم غسله بما و كركوك الطاهر لتحمله الايادي وتضعه على الاكتاف لتبدأ رحلته الاخيرة بمسيرة حاشدة من مئات المعجبين و آلاف المشاهدين الذين شاهدوا النعش وهو يمر من داره الواقع خلف سينما اطلس مروراً بجسر الشهدا و الى السوق الكبير لتشبع عيناه برؤية القلعة للمرة الاخيرة ومن كل الجهات ليصل الى الحلوچية وبعدها يمر مرور الكرام في سوق الحصير ليصل الى مثواه الاخير في مقبرة تكية الشيخ محي الدين الطالباني لانه يعود اليهم نسبا
سەرچاوەي وێنە: فەيسبووكي قەيس قەرەداخي