«سهولنا الشاسعة» .. ملاحم كردية وقصص قبلية من أورفا، 1906
جمعها أوسكار مان
حررتها وترجمتها وقدمت لها بربارة ستراولي
كرمانجي-إنكليزي
إهداء إلى الفنان الخالد بافي صلاح (1952-2016) وكل مغنيي عفرين
الترجمة عن الإنكليزية : راج آل محمد
استهلال
إن حلم أي شخص يدرس الفلكلور هو أن يكتشف أدباً شفاهياً تم جمعه منذ زمن بعيد ووُضِع في الأرشيف. إن الأغاني والملاحم الكردية المنشورة هنا تم تسجيليها من قبل عالم اللغات الإيرانية، أوسكار مان، في مطلع القرن العشرين. عثرت على هذه النصوص في عام 2015 في ستة دفاتر كان الباحث قد كتبها خلال رحلته الثانية إلى المشرق في 1906/07 (تركة مان مؤرشفة في أكاديمية براندنبورغ في برلين). في هذه الطبعة اخترت كافة المخطوطات التي جمعها أوسكار مان من أورفا، والتي نقلّها له المغني الكردي البرازي شيخ بوزان. تعد هذه النصوص أقدم الوثائق المعروفة عن التراث الملحمي من تلك المنطقة التي نجت منها أيضا نسخ لاحقة من الملاحم ذاتها، ويفتح اكتشافها آفاقاً جديدة لدراسات الفلكلور الكردي. بيد إن الأسباب الرئيسية التي دفعتني إلى نشر هذه النصوص هي أن الأدب الكردي الشفاهي، رغم جماله الشديد، يُعرف عنه القليل ويُبخس قدره. إن الملاحم الطويلة النابضة بالحياة لمنطقة الفرات التي يتم تقديمها هنا تستحق جمهور قراء أوسع.
يعدّ تحرير مخطوطات أوسكار مان استمراراً لبحثي عن تراث مغني البرازية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. بيد أن النصوص التي تعود للعام 1906 تعكس سياقاً سياسياً مختلفاً. بخلاف الأدب اللاحق، الذي تم انتاجه على خلفية بروز الوعي القومي الكردي وحالة الاضطهاد، فإن هذه الأغاني المبكرة تعكس الهيمنة القبلية الكردية التي كانت بالكاد تحت سيطرة الدولة العثمانية. كان الرجال الذين أملوها على أوسكار مان مهتمين بعمق بالشؤون القبلية الكردية. لقد ترعرعوا في السهل، ولكنهم اتصلوا بالثقافة الحضرية لأورفا. وتُظهر المقارنة النصية بأنهم كانوا الأسلاف المباشرين للجيلين اللاحقين من مغنيي غرب أورفا.
لقد أدى تضاؤل البداوة والحياة القبلية من جهة والتغيير الاجتماعي الجذري في النصف الثاني من القرن العشرين من جهة أخرى إلى اختفاء الكثير من المعرفة السياقية عن الأدب الكردي الشفاهي. إن تلك المعرفة، التي كان يشترك بها المستمعون والمغنون أنفسهم على حد سواء، لم تكن تحتاج إلى أي شرح في ذلك الوقت، ولكن قراء هذه النصوص الآن قد يجدون صعوبة في تصور بعض الموضوعات التي يتم الإشارة إليها، أو لفهم دوافع أبطالها. ولكوني عشت في المنطقة، فقد تولدت لدي الرغبة في أن أجمع شذرات ما يمكن معرفته عن خلفية شيخ بوزان وأيب آغا تمر. وقد بدا لي أن طباعة جديدة مع التعليق على الخلفية التاريخية وهوامش تشرح العادات. الإشارات المتشابكة إلى الحياة اليومية، لتلك الحكايات والأغاني هو الخيار الأفضل.
لقد انتهزت في المقدمة فرصة أن أتابع الموضوعات التي لم يتم التطرق إليها بشكل موسع في مكان آخر؛ من قبيل الفهم المختلف للتأريخ كما يتبدى في الموروث الشفاهي للكردية الجنوب-غربية و، ربما، في مناطق أخرى أيضا. الموضوع الآخر هو الآلية المتبعة من قبل الباحثين الغربيين للنقل (النسخ) قبل وصول آلات التسجيل. كيف يمكن أن يؤثر التدوين باليد على شكل نص المغني؟ النقطة الثالثة تتعلق بالطرق الممكنة التي تغيرت فيها الملاحم المغناة في تنقلها عبر جيلين أو أكثر من المغنيين.
كان من الضروري الحفاظ على الكلام المنقول وفق اللهجة والقواعد التي دونها مان. غير إن هذه المقاربة قُوبلت بالنقد من قبل بعض الكتاب والمدرسين الكرد المشغولين بمهمة ضبط وتشجيع القراءة والكتابة باللغة الكردية الذين يفضلون طبعةً باللغة الكردية الحديثة. ففي حين يسير طباعة نصوص كرمانجية مليئة بكلمات دخيلة من اللغات المجاورة وأخطاء قواعدية واضحة بالضد من تشجيع الكرمانجية المكتوبة، فإن كافة الفلكلور الكردي ومعظم الأدب الكلاسيكي الكردي مبني على لهجات محلية ومناطق جغرافية خاصة. فإذا ما تم استبدال المعجم بمفردة كردية حديثة أو إذا ما تم تشذيب القواعد، فإن معلومات هامة تختفي. يكمن الحل، كما أعتقد، في تقديم طبعات مختلفة لقراء مختلفين؛ وإني لآمل أن أنشر طبعة موازية لجمهور القراء بالكرمانجية مثقل أقل بالهوامش ومصحح قواعدياً.
لا مناص للباحثين غير الكرد من الاعتراف بحقيقة أنهم يتكلمون بالنيابة عن الآخرين. وبحكم إنني لست كردية، فإنني مدركة تماماً بمحدودية زاوية الرؤية لدي. لحسن الحظ أن المعرفة عالمية، وأن العلم يُكتسب بطريقة تراكمية بعملية جدلية. وإني لآمل أن يتمكن الباحثون الآخرون، أكراد وغير أكراد، من مقاربة هذه النصوص وفق وجهات نظرهم الخاصة وأن يصححوا أي اختلال ملحوظ في المعلومات.
لقد توليت نشر هذه الطبعة كباحثة مستقلة ذات ارتباطات أسرية طويلة بمنطقة أورفا، بعيداً عن أي ضغوطات مرتبطة بالمهنة. الشكر موصول لمؤسسة اليزابيث جيني ستيبتنغ في بازل لمساهمتها في تحمل تكاليف النشر.
وكما هو الحال في الطبعات السابقة، فإن حل خيوط قصص المغنين لم يكن ممكنا دون مساعدة من شركاء ضليعين باللغة الكردية من الاتحاد البرازي السابق، غربي أورفا وفي سويسرا. أنا ممتنة جداً لكل أولئك الذين شرحوا لي بصبر وأناة الكلمات والعبارات الاصطلاحية والإحالات المحلية غير المعروفة لدي. كنت أتمنى لو إنني استطعت أن استنطق أصواتهم وتعليقاتهم الذكية. شكر خاص للأستاذ برويز جيهاني الذي ساعدني في حل بعض المشاكل النصية المعقدة بحكم معرفته الواسعة بالأدب الكردي بشقيه الكلاسيكي والشفاهي. كما أود أن أشكر الكثير من أصدقائي الكرد الذين شجعوني من خلال اهتمامهم بمشروعي.
كدتُ أتوقف في لحظة من اللحظات لولا الزيارة التي قمت بها لجليلي جليل في فيينا الذي شجعني التزامه الثابت في الحفاظ على توثيق الفلكلور الكردي وعلى الاستمرار.
ملاحم وقصص كردية من أورفا كما سجلها أوسكار مان
في ربيع عام 1906، أهدى شيخ بوزان وأيب آغا تمر، وهما مغنيان كرديان، عدة مقاطع من ذخيرتهما الفنية للباحث الألماني أوسكار مان (1867-1917). كان مان يقوم برحلته الثانية إلى المشرق، وقد اجتمع بالرجلين في مدينة أورفا. وقد وجدت الملاحم والقصص القبلية طريقها في عملين من أعمال مان مؤرشفين في أكاديمية برلين-براندنبورغ للعلوم والإنسانيات [1](BBAW) إن الملاحم، التي يتم نشرها هنا لأول مرة، تفتح نافذة جديدة غير متوقعة على الأدب الشفاهي الكردي للكردية المحكية في جنوب غربي [كردستان]. كانت المجموعة الكاملة من الأدب الشفاهي الكردي من القرن التاسع عشر والعشرين المنشورة من قبل تبدو كاملة، ولكن هذه النصوص الأربعة عشر تضيف لما نعرفه من قبل مجموعة رائعة متعددة الأوجه يمكن تأريخها بشكل رائع. تتنوع النصوص التي جمعها أوسكار مان بين مجموعة من الحكايات القبلية إلى الملاحم الكردية الكلاسيكية، وتعدّ أبكر شهادة معروفة عن الأدب الشفاهي الكردي في منطقة أورفا.
الغرض الرئيسي من هذه الطبعة هو تفسير تلك النصوص ووضعها في سياقها المحلي قدر الإمكان بعد أكثر من مائة عام. لفك رموز المقاطع التالفة في متن النص، والتي تتطلب معرفة محلية خاصة، تعاونتُ مع شركاء كرد في منطقة سروج، موطن المغني شيخ بوزان. وجهات نظرهم، بالإضافة إلى المعلومات التاريخية، والإثنولوجية والأدبية عن المنطقة التي تم استقاؤها من تقارير الرحالة والأبحاث الجديدة، شكلت المعلومات الأساسية لوضع المقدمة والملاحظات على كل نص بشكل مستقل.
مثلما يتبدى من هذه الأمور، كانت منطقة أورفا قبل الحرب العالمية الأولى عبارة عن فسيفساء من اللغات والأقليات والأديان. والرجال الذين جمع مان قصصهم ترعرعوا في منطقة احتكاك بين الكرمانجية، والعربية، والتركية والأرمنية والسريانية؛ وتنقلوا بين المدينة والبادية، وتأثر أحدهم على الأقل، هو شيخ بوزان، بالموروث الشفاهي للاتحادين الكرديين الرئيسيين، اللذين تواجدا في أورفه ونعني بهما الاتحاد المللي إلى الشرق من أورفه والاتحاد البرازي إلى الغرب[2]. لم يكن الخطاب القومي الكردي معروفاً بعد في المنطقة. وقد تشكلت رؤية هؤلاء المغنين للعالم من القيم القبلية التي تحدد حياة البداوة في البادية السورية، وهي قيم مشتركة مع القبائل البدوية العربية المجاورة. ليس من المستغرب بالتالي أن جلادت بدرخان وروجيه ليسكو اللذان بذلا جهدا مكثفا لإنشاء الكرمانجية كلغة مكتوبة في سوريا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، اشتكيا من أن اللهجة غير الصافية لمغني منطقة الاتصال تلك قد أثرت على نوعية الملاحم والأغاني. بيد إنه من منظور معاصر ليس من الممكن تأكيد مثل هذا الموقف. ما أناقشه هنا هو أهمية توثيق اللهجات الكرمانجية، وفي حالتنا هذه الكرمانجية الجنوب-غربية بمفرداتها الغنية والمعقدة.
بغية وضع هذه النصوص المكتشفة حديثًا في مكانها الصحيح، أصفُ قدر الإمكان سياقها وخلفياتها والظروف التاريخية التي أملتها، وكذلك تأثيرها على الموروث الإقليمي لاحقاً. القسم الأول يتناول إقامة أوسكار مان في أورفا، وأساليب عمله، وتعاونه مع المترجمين الفوريين، بالإضافة إلى مسائل تدوينه وإملائه. يقدم القسم الثاني معلومات عن تقاليد الغناء الكردي في المنطقة في ذلك الوقت والمغنين والمترجمين شيخ بوزان و أيب آغا تمر وعثمان أوغلو، الذين أملوا النصوص. نظرًا لأن العديد من مقاطعها بالإضافة إلى رسائل مختلفة لمان من أورفه (مقتطفات هنا) تدور حول إبراهيم باشا الملي، يقدم القسم الثالث بعض المعلومات الأساسية عن زعيم المللية والوضع السياسي حول أورفه في بداية القرن العشرين. يعالج القسم الرابع وشبكة علاقة المغنين بين أورفه وعفرين بين عامي 1906 و 1980 وذخيرتهم من الألحان والأدوار، ويقدم وصفًا للنمط البيئي المحلي لمم و زين ، ويمثل استقلال التقاليد المحلية. مع ظهور هذه الملاحم الكردية الكلاسيكية المختلفة لشيخ بوزان و أيب آغا تمر، نشأ وضع نصي جديد لبحث الفولكلور الكردي: حيث بات من الممكن لأول مرة، الحصول على دراسة التطورات والتغيرات في الموروث الشفاهي المحلي. يبحث القسم الخامس في مفهوم تاريخ المغنين الأكراد وجماهيرهم مثلما يظهر في هذه النصوص، وهو مفهوم يختلف عن الاعتماد الغربي على التسلسل الزمني الصارم والذي يستخدم وسائل أخرى لخلق أصالة تاريخية. في القسم السادس، أوجزُ آلية العمل واستخدام المصادر لهذه الطبعة. يقدم المسرد الكلمات المستعارة من العربية والتركية التي كانت جزءاً من لهجة المغنين بالإضافة إلى الاستخدامات المحلية للكلمات الكرمانجية الشائعة وتعابير خاصة من اللهجة البرازية.
أوسكار مان والدراسات الكردية-الفارسية:
يتألف كتاب العمر الذي كرس له أوسكار مان حياته من تسجيل ووصف، وأحيانًا اكتشاف، لغات إيرانية غير معروفة، بما في ذلك اللغة الكردية. جمع اوسكار مان في رحلتيه الرئيسيتين عبر إيران (1901-1902) والإمبراطورية العثمانية (1906-1907)، نصوصًا شفوية وقصصاً وملاحم وشعر كلاسيكي – التي طلب من الرواة المحليين أن يملوها عليه.
بناءً على ذلك، كان [مان] يهدف إلى إنشاء أطر وقواعد للغة أو اللهجة المعنية. رحلته الثانية، التي التقى فيها بالمغنيين شيخ بوزان وأييب آغا تمر، قادته من حلب عبر أورفه وسويرك وديار بكر والجزيرة إلى الموصل والبصرة وإيران، ومن هناك عاد إلى برلين في خريف عام 1907.
تم تمويل هذا المشروع الطموح من قبل الأكاديمية البروسية للعلوم، ووزارة الشؤون الدينية والتعليمية والطبية وخزانة الرايخ. حيث أبدى الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني اهتمامًا شخصيًا ببعثة مان الاستكشافية. نشر مان نتائج رحلاته في سلسلة رائعة من المتوقع أن تشمل اثني عشر مجلدا بعنوان الدراسات الكردية-الفارسية.
لقد نجح هو وكارل هادانك، الذي خلف مان بعد موته المفاجئ في عام 1917 عن عمر يناهز الخمسين سنة، في نشر سبع مجلدات بدءاً ب”لغة الأكراد الموكريين” Die Sprache der Mukri-Kurden (المجلد الأول 1906، المجلد الثاني، 1909). لقد جمع مان نصوص هذين المجلدين الأوليين خلال رحلته الأولى عبر الإمبراطورية الفارسية. في صاوجبلاق (مهاباد)، حين أهداه المغني رحماني بكر كامل ذخيرته من الملاحم الكردية الطويلة، وهو نوع صادفه مان مرة أخرى في أورفه . لقد أثار اللقاء مع رحماني بكر اهتمام مان بالأدب الشفاهي الكردي وكتب دراسة مطولة عنها في “لغة الأكراد الموكريين” وقد تم تأكيد صحة معظم ملاحظاته في الأبحاث اللاحقة.
بقي جزء كبير من كتابات مان، لاسيما رحلته الثانية، غير منشور، بما في ذلك الإملاءات الأربعة عشر من أورفه. وقُدِّر لها أن تظهر في المجلد الرابع من الدراسات الكردية-الفارسية مع العنوان المؤقت “Die westlichen Kirmândschî-Dialekte. Volksepen und Proben aus der Kunstpoesie ”.” لهجات كرمنشاه الغربية. الملاحم الشعبية وعينات من الشعر الفني”[3] هذه النصوص الأربعة عشر من أورفه تتراوح بين الحكايات البسيطة إلى الأغاني kilam الجميلة والملاحم الشعبية ذات الجودة الأدبية المعتبرة.
تمت كتابة نصوص مان من أورفه في ذات الفترة التي كتب فيها هوغو ماكاس نصوصه من ماردين (200 كم شرق أورفه ) ونصوص ألبرت في لوكوك Albert v. Le Coq من كلّس (200 كم غرب أورفه ) . معلوم أن ماردين وأورفه وكلس تقع على الحافة الشمالية لسهوب بلاد ما بين النهرين، والتي تقسمها الحدود التركية السورية إلى جزأين. توثق المجموعات الثلاث، التي يعود تاريخها إلى مطلع القرن العشرين، الأدب الشفاهي لأشباه البدو الكرد وقرويي السهوب، الذين يمثلون بحكم الواقع ثقافة أقلية كردية، حيث كان الجزء الأكبر من السكان الناطقين بالكرمانجية في ذلك الوقت يعيشون في المناطق الجبلية. تشترك المجموعات الثلاث في عدد من الخصائص المتعلقة بذخيرة المغنين وأنواعها وأسمائها وسماتها الشعرية (الموضحة في القسم 4).
تنقسم نصوص مان الأورفلية إلى مجموعتين: الملاحم الكلاسيكية ( saz )والقصص القبلية التي تتناول الأحداث التاريخية المحلية. من بين الأخيرة، يبرز تاريخ شيخ بوزان لقادة الاتحاد المللي (الملاحظات 5-9) على أنه فريد من نوعه. وبلغت ذروتها في ترنيمة المديح لإبراهيم باشا الملي، وهو مثال نادر على صنف المديح. تتضمن النصوص الأورفلية أيضًا النسخة الأولى من ملحمة الحرب Derwêşê Evdî [4] واثنان من المراثي الجميلة التي لم تكن معروفة حتى الآن ، واحدة من قبل زوجة الزعيم المللي (رقم 8) والأخرى من قبل زعيم قافلة من قبيلة بيسيكي (رقم 11). أخيرًا ، كتب مان نسختين مختلفتين من الرومانسية Mem û Zîn ، التي أملاها عليه شيخ بوزان و أيب آغا تمر على التوالي (الملاحظات 13-14)[5]
هذا التكرار محمود لأن توثيق الأدب الكردي الشفاهي لطالما أخذ منحى غير منظم ونادراً ما يتم تدوين نسختين مختلفتين من الملحمة ذاتها في ذات المكان والزمان.
1.2 أوسكار مان في أورفه
كان أوسكار مان واحدًا من العديد من المسافرين إلى المنطقة في مطلع القرن العشرين عندما تحول اهتمام الدول الأوروبية نحو الجزء الشرقي من الإمبراطورية العثمانية.
قام الضباط أو الجواسيس الأجانب (مارك سايكس ، وإيلي بانيستر سوان) ، وعلماء الآثار (ماكس فون أوبنهايم وفيليكس فون لوشان) واللغويين (إدوارد سخاو في عام 1897[6] ، وألبرت فون لو كوك في عام 1901 ، وأوسكار مان في عام 1906) بالسفر عبر بلاد ما بين النهرين ، وكتبوا التقارير والأبحاث المنشورة عن رحلاتهم، وغالبًا ما جمعوا معلومات استراتيجية لحكوماتهم.
وقد فتح بناء سكة حديد بغداد، الذي بدأ في عام 1899، المنطقة أكثر [أمام هؤلاء الضباط والجواسيس]. استجابة لطلب الإمبراطور فيلهلم الثاني لتمويل رحلة مان الثانية، ادعى إدوارد سخاو والموقعون معه من الأكاديمية البروسية أن المشروع تم تبريره من خلال المصالح الألمانية في الشرق:
“كان الشعب الكردي هو المهيمن على الشؤون الاقتصادية أو السياسية في كل المنطقة التي سيتم عبورها في المستقبل بواسطة سكة حديد بغداد، بدءاً من كابادوكيا إلى أبواب بغداد. إلى أي مدى يمكن أن ينجح السيد مان في زيارة هؤلاء الأكراد في منازلهم المختلفة سيعتمد إلى حد كبير على جملة من الظروف الحالية. ولكن نظرًا لمهاراته اللغوية، فمن المؤكد أنه سيتخطى جميع من سبقوه.”[7]
قدم المبشرون الأوروبيون والأمريكيون تقارير دقيقة عن الأقليات المسيحية والوضع السياسي في المقاطعات الشرقية العثمانية. بعد مرور عام على مذبحة أرمن أورفه عام 1895، بدأت البعثة الشرقية الألمانية بقيادة يوهانس ليبسيوس العمل في المدينة[8] . تعد مجلة بعثة Der christliche Orient مصدرًا للمعلومات التفصيلية عن الوضع في أورفه وقت زيارة مان.
تعتبر التقارير المقدمة إلى الحكومة المركزية من قبل المسؤولين الإقليميين في أورفه وحلب مصدراً آخر للمعلومات القيمة حيث يصف فيها هؤلاء مساعيهم لقمع تمردات القبائل الكردية والعربية في المناطق المجاورة. وكان إبراهيم باشا الملي، الذي غالباً ما كان متورطاً في تلك المناوشات، قد تحول في مطلع القرن تقريباً من زعيم قبلي للاتحاد المللي القبلي إلى لاعب إقليمي قوي. فلا غرابة أن يلعب إبراهيم باشا الملي دوراً هاماً في الحكايات التي تم نقلها إلى مان.
في رحلته الثانية إلى الإمبراطورية العثمانية، كان مان، الذي وصل إلى حلب في 31 مارس 1906 قادمًا من ميناء الإسكندرونة ينوي قبل كل شيء توثيق اللغة الكرمانجية. على الرغم من البحث الطويل، لم يتمكن مان من العثور على راوٍ يتحدث الكرمانجية، حتى رتبت السيدة كوخ ، زوجة تاجر ألماني و “أم” من بين جميع الرحالة الألمان في حلب ، لقدوم كردي يدعى عثمان أوغلو من أورفا.
“ما زلت جالسًا هنا في انتظار برقية التلغراف حول إيداع الأموال. لكن الآن وجدت عملاً على الأقل. السيدة كوخ أرسلت لي كرديًا من أورفه الرجل ليس ذكيًا بشكل مميز، لكنه يفي بغرض القيام بالدراسات النحوية والمعجمية. أعمل معه 3-4 ساعات في اليوم. إن طباخي يوسف Jusif ماهر جدًا في تقديم خدمات الترجمة”.
تم تضمين إملاءات مان من حلب وأورفه في دفترين، “Kirmanji I 1906/07″ و ” Kirmanji II 1906/07″ (يُشار إليها من الآن فصاعدًا ك1″ و “ك2) يُظهر ك1 أن مان قام بمساعدة من عثمان أوغلو، بجمع مفردات كرمانجية تضمنت مفردات الحيوانات والفواكه والخضروات والملابس. كما سجل أيضًا صيغ الأفعال، مفردات القرابة، وحكايتين عن نصر الدين خوجا، بالإضافة إلى أربع حكايات متضمنة في هذه الطبعة (الملاحظات 1-4)[9] . هذه النصوص الأربعة بسيطة جدًا في الأسلوب لأن عثمان أوغلو أراد مان، الذي كانت الكردية جديدة عليه، أن يفهمه؛ ومع ذلك، فإن تلك النصوص تتمتع بأهمية إثنولوجية وتاريخية. النصان الأوليان يتناولان إبراهيم باشا الملي ، والثالث يتناول مجزرة مأساوية للإيزيديين والرابع بتربية الخيول التي اشتهرت بها أورفه منذ الأزل. كان مان قد بدأ بدراسة الكرمانجية قبل ستة أسابيع من مغادرته حلب. وصلت قافلة البغال الخاصة به إلى أورفه في 23 أيار/مايو 906، واستأجر على الفور غرفة حديثة المظهر في خان عند بوابة السراي (“يبدو وكأنه فندق أوروبي هنا تقريبًا”؛ الشكل 5) وقام بزيارة الوالي ، مثلما هو مطلوب من جميع المسافرين الأجانب. في قناق (قصر) الوالي ، تعرّف مان على إحسان بيك ، المثقف المنفي من اسطنبول والذي سيكون مفيدًا للغاية[10] . وتواصل فيما بعد مع الفرنسيسكان ومختلف السكان الأوروبيين وأعضاء بعثة الشرق الألمانية لبسيوس في المدينة[11] . من بين هؤلاء كان المسعف السويسري جاكوب كونزلر ، الذي كان على دراية عميقة بأورفه والأقلية الكردية فيها[12] . كان مان قد تلقى العلاج عن كونزلر في كاحله الملتوي، لكن من غير المعروف إلى أي مدى استفاد من الخبرة المحلية للمسعفين. تمت مناقشة مساهمة كونزلر الخاصة في الفولكلور الكردي في القسم 2.1 وفي مقدمة الأغنية رقم 11.
نظرًا لمعرفته الممتازة بالفارسية، سرعان ما تعرف مان على أعيان المدينة الذين سعوا إليه لاختبار مهاراتهم في اللغة الفارسية. بعد وصوله بثلاثة أيام، قدمه إحسان بك إلى المغني (“منشد الشعر”) شيخ بوزان، الذي وظفه مان فورًا:
[1] إرث مان وكارل هادانك المشترك مقسم بين أكاديمية برلين-براندنبورغ للعلوم والإنسانيات (BBAW) ومكتبة الدولة في برلين
[2] استخدم مصطلح “برازي” هنا كما كان مستخدمًا في النصف الأول من القرن العشرين. لقد تم حل الاتحاد البرازي الآن. ونادراً ما يتحدث الناس عن كونهم ” من ” البرازية ” ، بل يتحدثون عن أعضاء قبيلة فرعية مثل ديدان، بيجان أو شدادان
[3] حاشية المترجم اعتمدتُ على غوغل لترجمة العناوين باللغة الألمانية
[4] في الوقت الذي يسمي فيه شيخ بوزان بطله ب”درويشي عفدي” فإن الأخير يُمسى دوريش في كافة النسخ المتداولة في المنطقة تقريباً. وأنا هنا أحافظ على الفرق بينهما بالإشارة إلى ملحمة شيخ بوزان بدرويش عفدي، والنسخ الأخرى بدوريش عبدي.
[5] الملحمة معروفة في المنطقة باسم” ممي آلان، لكن شيخ بوزان ومان يستخدمان مم وزين أيضاً.
[6] نشر فون لوكوك نسختين من مم وزين من كلس تم إملاءهما على بعد بضعة أيام في عام 1903. قارنَ لقمان تورغوت Lokman Turgut نسختين من Cembelî kurê Mîrê Hekkarî (جمبلي ابن أمير هكاري) من طور عابدين، ومع ذلك، لم يتم تسجيلهما في الوقت والمكان ذاته.
[7] رسالة إلى الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني بتاريخ 25 يوليو 1905 ، موقعة من قبل سخاو، فون ريشتهوفن وبيشل ، في: رسائل ، محرر. كوليفاند: 436-39. (ترجمة جميع الاقتباسات من المصادر الثانوية في هذا المنشور هي من قبل المحرر، ما لم يذكر خلاف ذلك).
[8] Kieser 2000: 228
[9] ك1 ص16-24
[10] رسالة بتاريخ 21 أيار/مايو 1906، الرسائل، تحرير كوليفاند:496
[11] للحصول على وصف مفصل للمستعمرة الأوربية في أورفه وقت إقامة مان، راجع كايزر Kieser 2000، الأقسام 1.7 و 2.10.
[12] للاطلاع على كونزلر وحياته، راجع كايزر.[1]