سيبيليا الإبراهيم_
كم أمرُك غريبٌ يا حسنُ، تأخُذُك الأقدارُ من #عفرين# الجريحة، إلى لبنان؛ لتجلبك بعدها إلى منبج، تقطع هذه المسافات كلها؛ لتأتي إلى مدينة منبج، وتبقى سنوات هنا، وتتزوج من الفتاة ال#كوباني#ة سيدار شقيقتي، وتصبح فرداً من عائلتنا، وكأنك ابن هذا البيت، وليس فقط النسيب، وكأنك الشقيق الذي لم تلده أمي.
حسن لم يكن شخصاً عادياً، انضم بعمره الصغير كباقي الشبان لهذه الثورة لأجل وطنهُ، بقي لسنوات في الجبهات الأمامية، وبين فكي الذئاب، لكنه لم يفقد حياته بل سطر بنضاله في تلك السنوات أروع ملاحم البطولة، وبالرغم من أنّه كان لايزال في ريعان شبابه، إلا أنّهُ بحبه الشديد لهذا الوطن أثبت وجودهُ، وجسارتهُ، وإرادتهُ ضمن القوات العسكرية وبين رفاقهٌ المُقاتلين، حتى بات اسمُه بين الجميع “حسن عفريني “، الذي لا يهابُ الموت، ولا أحد يستطيع أن يمس شعرةً من رأسه.
قيل: إنّ الإنسان يأخُذ نصيبه من اسمه، حسن الذي كان له اسمٌ آخر (زنّار عفرين)، زنار، الذي يعني الجبل، الصخرة، التي تستند إليها مطمئناً، فكان زنارٌ كالجبال في المعارك التي شارك بها، وفي العمليات التي قام بها في ضرب أوكار العدو على الحدود، كان أسداً وجبلاً يستندُ لهُ رفاق دربه وأحبابه، في الكثير من المرات حين كان يقع رفاقه في مأزق أو خطر بين فكي العدو، حسن كان يضع روحهُ بين يديه، ويذهب ولم يعد مرةً دون أنْ يكون ممسكاً بيد رفاقه، الذين انتشلهم من فك الذئاب، فكان كالجبال والأسود حقاً…لم يعُد مرةً خائباً، كيف يعود خائباً و”برخدان موشي” الشهيد قائده، ومُدربهُ وقدوةٌ لهُ…
في السنوات، التي أمضاها في منبج، وهو على رأس عمله، كان دائماً ما يحنُّ إلى مسقط رأسه، لموطنه عفرين المحتلة، وخلال العديد من المناقشات حول عفرين دائماً ما كان يشددُ بأنّهُ سيُشارك بحملة تحرير مدينته، وسيركعُ على أرضها باكياً بكاءَ الفرح متضرعاً للسماء والشهداء بتحرير عفرين الجريحة من قبضة الإرهاب والاحتلال، لكنهُ غادر قبل أنْ يُحقق أُمنيتهُ، غادر قبل أنْ يركع باكياً على أرض عفرين الطاهرة.
رحيلهُ كان مثله مفاجئاً، لم يكن يخطر ببال أحدٍ منْ أنْ يُغادر حسنٌ يوماً رحيلاً بهذا الهدوء وبهذه السهولة، سيتركُ كل شيء وراءه، ولن يلتفت لنا وسيغادر.
كانت السّاعةُ تُشير إلى السابعة والعشرين دقيقةً صباحاً، كُنا بانتظار السيارات القادمة من حلب، لنسافر إلى حلب في ذاك الصباح، وأثناء وصول السيارات، وعند بدئنا بحمل حقائبنا، قاطعنا نداءُ رفيقٍ من قوى الأمن الداخلي، حيثُ كان يصيحُ: “هفال سيدار، هفال سيدار انتظري”!
التفتنا إليه، خرج من السيارة مسرعاً إلينا، وكان خطباً ما، قد حصل، طلب منا ألا نسافر اليوم، وأن نرافقه إلى ”مشفى الفُرات”، طرحنا عليه الكثير من الأسئلة، هل هناك شيءٌ لا تودُ إخبارنا به؟، لكنه أصّرَ على الصّمت فقط كان يقول بأنّهُ لا يعلمُ شيئاً، فقد أتت التعليماتُ بألا نسافر، ويأخذنا للمشفى في أسرع وقتٍ ممكن، عندما تحدث هكذا، نظرتُ إلي أختي بنظرةٍ خائفة وتفكيرٍ تملؤه التساؤلات، وتراوده الكثير من الأفكار المرعبة، أخبرتنا فوراً أنْ اتصل بحسن، اتصلت بحسن ثلاثة مرات، كان هاتفه يرن ولا أحد يُجيب، ولكن في المرة الرابعة فصل الخط، عندما فصل الخط، ارتحت قليلاً أخبرتها أنّهُ بخير، ها قد فصل الخط ،وهاتفه رنّ ثلاثة مرات.
لكن سيدار زوجة حسن كانت خائفة، لم أفهم معنى خوفها آنذاك، لم أكن أعلم بأنّ حسن كان في الليالي الأخيرة يقوم بحراسة موقوفين في المشفى، لكن سيدار كانت تعلم لذا لم تكن مُطمئنةً، وقد أخبرتني بأن شيئاً ما قد حصل لحسن؛ لأنّهُ كان يحرس موقوفين هو ورفاقٌ آخرون معه، وفي الأمس كان هنالك داعشي موقوفٌ بغرفتهم.
نظرتُ إليها في خوفٍ وأخبرتُها، إذاً يبدو أن المساجين قد هربوا من المشفى، أو مشكلةً أكبر منْ ذلك قد حدثت، أخشى أنّ الموقوفين قد حاولوا الفرار من المشفى والرفاق، الذين كانوا يقومون بحراستهم قد استهدفوهم في محاولةٍ منهم لإيقافهم من الهروب.
كانت الشكوك والتساؤلات الكثيرة قد ملأت أفكارنا، لا زلنا بين الشك هذا وذاك، وما القصة يا تُرى؟ ومرت لحظات، ووجدنا أنفسنا أمام أبواب مشفى الفرات، نزلنا من السيارة نظرت حولي كان هنالك عددٌ كبيرٌ من عناصر قوى الأمن الداخلي، وبعض القياديين جميعهُم كانوا ينظرون إلينا بحزن وألم، لم أكُن أفهمُ ما سبب نظراتهم الحزينةِ تلك، وقفت عند سيارةٍ أتأمل من حولي، وأفكر، ما القصة يا رباه!؟
في تلك اللحظة توجهت سيدار إلى الرفيقات اللواتي طلبن حضورنا للمشفى، لم تمر لحظات حتى شاهدتُ إحدى الرفيقات من قوى الأمن الداخلي تأتي باتجاهي، وقفت في مكاني أنتظر ماذا سيحدث هنا؟ لماذا وجهها هكذا! وكأنّها آتيةٌ إليّ وفي جعبتها خبرٌ مفجع، فور وصولها الي نطقت وقالت لي: “تعالي بسرعةٍ معي إلى شقيقتك “!! قلتُ لها ماذا؟ ما الخطب؟ جوابها كان كوابلٍ من الرصاص سقط علي؛ واخترقت منتصف قلبي؛ “حسن اُستُشهد! أختك بحاجتك الآن”…
عندما نطقت بهذه الجملة لا أعلمُ ماذا حدث للدنيا من حولي، عمَّ السواد حولي، ركضت باتجاه أختي كالمجانين وأنا أبكي ضممتها إلى صّدري…
كنتُ مصدومةّ، ولم أصدق ما قالوه لي، عقلي لم يستوعب ذلك الخبر المفجع ولم أصدق، رددت سؤالي أكثر من مرّة أين حسنٌ؟! ماذا حدث؟ من قتلهُ؟ وأين هو؟! أخبروني، أنّ أحد الموقوفين، الذي كان داعشياً قد أطلق عليه النار، وقام بالفرار من المشفى! وا رباه! ماذا؟ ما هذا الكلامُ الذي تخبروني به!
وقفتُ في صدمةٍ، وأختي كانت تبكي كالأطفال، وعيناها تبحثان عمن حولها بين الرفاق الواقفين، لعل حَسَنَها يأتي، ويكون هذا الخبر كذبةً، قد خلقهُا البعض!
بعد لحظات، أختي بدأت تتساءل أين حسن؟ خذوني إليه، أخبرونا أنّهُ موجودٌ في براد الموتى، سندتها وأخذتها للغرفة حيثُ براد الموتى، دخلنا الغرفة؛ نبكي ولا شيء يُصّدق! لا شيء يصدق! كيف حدث هذا؟! كنت آملُ أنْ لا يكون حسن موجوداً بالبراد.
قام أحدُ الممرضين بفتح البراد رأيتهُ شاباً آخر!! يا رباه!! إنّهُ ابن عمنا، إنه إيناس!
أخبرتُهُم ماذا حدث هنا؟! لماذا!! ما الذي يحدث إيناس أيضاً شهيد! هرولنا مسرعين باتجاه البراد الذي يوجد به حسن فتحناه كان نائماً في سُباتٍ عميق، عندما رأتهُ أختي بهذا الشكل مغمض العينين، خائر الجسد، نائماً في هدوءٍ تام، بدأت سيدار تناديهُ حسن قم هيا، أتيتُ إليك! وكأنّها تُوقظهُ من النوم، وليس الموت.
كان حسنٌ قد غُسل بدمهِ، صرخت باكيةً يا أمّاه بنطاله الأزرق بات أحمر اللون، تلمسه بيدك، تُصبح كلتا يداك دماً، وكأنّهم غسلوه بالدم، كان بنطاله طافحاً بالدم، ويداه اللتان كانتا تحملان كل هذه السنوات السلاح والرصاص، كانتا خائرتي القوى، إحدى ذراعيه، كانت ملوية، كانت قد لُويت وكسرت من المرفق إلى المعصم…
سيدار لم تقم، وهي تحتضن جثته بيديها، وتمسح وجهه، تفتح عينيه، وتخبرني: “سيبيليا حسن متألم، عيناه تخبرانني ذلك، حسن قد تألمَّ كثيراً، وكان يناديني ولم يجدني؛ سيبيليا حسن لن يتركني ويذهب؛ أخبريه أنْ يفيق، إنه يستمع لكلامك، أخبريه أنني لنْ أستطيع من بعده تتمة حياتي”!
قلت له يا حسن، قُم معنا، أتينا إليك، ألمْ تخبر سيدار في الأمس، أنْ نمُرّ عليك قبل أنْ نسافر إلى حلب؟
ها قد أتينا إليك، ولن نسافر إلى حلب، أتينا فقط لنأخُذك معنا، لنأخذك حياً، لا لنأخذك جسداً مثقوباً بثلاث رصاصات، أتينا إليك ارفع رأسك لنا، أفق لا تبق في نومك العميق قم معنا حسننن!.
حسنٌ! حسنٌ! حسن! ناديناه، صرخنا باسمه؛ سمعنا جميع من في المشفى وخارجها، باستثنائهِ هو، الجميع سمع صوت سيدار، وهي تنادي حسن قم معي، حسن لا أستطيع من بعدك حسن، لا تخذلني لقد وعدتني بأنّك لن تدعني يوماً، وعدتني بأنك لن تتخلى عني مهما حدث، ماذا فعلت اليوم؟ أين هي وعودك وعهودك قم معي يا حسن.
سيدار ماتت وعاش حسنٌ شهيداً
حسن ورفاقه غُدر بهم من قبل المجرم في اليوم الثالث عشر من شهر أيلول الأسود في الساعة الخامسة والنصف في مشفى الفرات، يظنُّ الجميع أن مأساة شهادة حسن ستمر، وسننسى ذلك مع مرور الزمن، لكن لا أحد يدرك ثُقل النيران الملتهبة بقلوبنا، ونحن ننظر لصورته، ووثيقة شهادة حسنٍ العزيز المُعلقةِ بحائط المنزل، صورتهُ تلك تبتسم لك ابتسامةً جامدةً، وجهٌ قد رحل، ولن يعود أبداً، شخصٌ اختفت ابتسامتهُ للأبد لم نعُد نستطيع أنْ نرى ابتسامته، ولن نسمع صوتهُ، قامتهُ، مشيتهُ، ضحكاتهُ، حزنهُ، ألمهُ، وجمال روحهُ، كل هذا قد رحل معه، ولن يعود فكيف لا يبكي القلب دماً، شوقاً، قهراً على فقدان العزيز الحسنْ…
سيظنُ الجميع، أنّ سيدار ستنسى حسن بعد مرور الزمن، لا أحد يعلمُ بأنّ سيدار كل يوم تزور قبره العزيز، تضع رأسها على حجرة قبره، وتناديه باكية، لا أحد يعلمُ بأنّ سيدار تبقى مستيقظةً الليل كله، والكرى يملأ جفنيها، وهي تحتضن صورهُ، وقميصهُ وتبكي في صمت مؤلم وهدوءٍ مخيف، لا أحد يعلمُ أنّ سيدار ماتت، وعاش حسن، حسن شهيدٌ، ومن ظلوا بعده موتى، هو الحي، ونحن الموتى…
الأمنُ ينتقم قبل دفن الشهيدين…
فقدنا إيناساً وحسنْ شهيدين في صباح يومٍ مُفزع، لكن رفاقَ دربهم، لم يغمضوا أعيُنهُمْ حتى انتقموا لروح الشهيدين قبل دفن جثامينهم الطاهرة، انتقموا لحسن وإيناس، وأخذوا حقهم من المجرم، الذي قام بقتلهم وتسبب باستشهادهم، الأمرُ الذي يزيح عن كاهلنا البعض من الألم، لأننا انتقمنا لهم، وقبل أنْ يواريَّ جثامينهُم الثَرى، انتقمنا من المجرم، وهكذا أخذت العدالة مجراها، خلال أربعٍ وعشرين ساعة، أُلقي القبض على المجرم، وانتقمنا للشهداء حسن خالد عثمان، إيناس محمد علي.
والشهيد حسن خالد عثمان من مدينة عفرين المحتلة، عاش لفترة من الزمن مع والدته في لبنان، إبان معركة عفرين، عاد من لبنان الى عفرين، وانضم لصفوف القوات العسكرية، وفي عام 2019 تمّ فرزهُ إلى مدينة منبج ضمن صفوف قوى الأمن الداخلي، وفي عام 2020 انضم إلى قوات مجلس منبج العسكري، وعمل ضمن وحدات هندسة الألغام على وجه التحديد، وبعد عامين من عمله، وانتهاء عقده، عاود الانضمام لقوى الأمن الداخلي قسم جهاز الأمن العام، واستشهد، وهو على رأس عملهُ يحرس مجرمين، ويفدي بروحه هذا الوطن، ويذهب الى جوار ربه، وبرفقة قيادته الشهيد “برخدان موشي”، الذي تأثر بشهادته، وترك في نفسه جرحاً عظيماً، ولم يدم طويلاً ذاك الجرح، حتى غادر إلى مملكة الخلود، ليوارى جثمانه في الصف نفسه، الذي دُفن فيه الشهيد “برخدان موشي” في مزار الشهيدة دجلة في مدينة كوباني…[1]