مقدمة في مذكرات رضا نور.. (إصلاح الشرق) لا يكفي!
الباحث: حسين جمو
ألقى «الغازي مصطفى كمال» خطابه الشهير «نطق» في ستة أيام متتالية، من (15-20)-10-1927، خلال المؤتمر الثاني لحزب الشعب الجمهوري. واستغرق شهراً لإعداد وكتابة الخطاب، وضمّنه خلاصة فكره وتجربته.
يعتبر «نطق» التدشين الحقيقي للرواية السائدة لقيام الجمهورية التركية ودور مصطفى كمال. وعلى أساس هذا الخطاب، تمت صياغة هوية الدولة الأيديولوجية وشخصياتها «الوطنية». ومن هذا الخطاب، أصبح مصطفى كمال الزعيم الأوحد والأكبر منذ دخول الحلفاء اسطنبول نهاية عام 1918، بما يعنيه ذلك من تقزيم أيضاً لأدوار شخصيات فاعلة لا يقل دورها عن مصطفى كمال، بل إن البعض ساهم في «صناعة» مصطفى كمال نفسه كزعيم توفرت فيه بعض شروط القيادة في تلك المرحلة.
لقد كان الخطاب الشهير إدانة لأكثر من 400 شخصية تاريخية في عهده، وفق المؤرخ محمد دوغان في كتابه «الكمالية». ويعلق الأكاديمي شوكت ثريا آيدمير في كتابه «الرجل الثاني» على الخطاب بأن ما قاله «أتاتورك» عن رفاق الكفاح الوطني القدامى كان بلا شك قاسٍ وغير منصف، لكن هذا يساعد على فهم الحالة النفسية ل«أتاتورك» الذي كان يلفه إحساس أسطوري ويرى الأحداث والبشر من زاويته هو. (#أتاتورك ورفاقه ونهاية العثمانيين# – المقدمة – ص 10)
بقيت ادعاءات مصطفى كمال بدون رد شامل فترة طويلة، سوى بعض الإشارات التي وردت في مذكرات دافع فيها أصحابها عن أنفسهم، مثل كاظم قره باكير، قائد الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الأولى. كسر هذا الصمت المديد طبيب عثماني ووزير في السنوات الأولى للجمهورية، وهو رضا نور، عبر مذكرات تحت عنوان «حياتي وذكرياتي – Hayat Ve Hatıratım».
ترجمت مجلة «المجتمع» الكويتية، على 53 عدداً أسبوعياً، مختارات من المذكرات إلى العربية في 462 صفحة من أصل أربعة مجلدات بالتركية. وقام الدكتور أحمد الشرقاوي بالتوسع في الشروحات والتوضيحات من دون أن يغير من الترجمة الكويتية، لتصدر الترجمة العربية للمذكرات تحت عنوان «أتاتورك ورفاقه ونهاية العثمانيين» عن دار البشير القاهرية عام 2020.
على أن هذا الاختصار للمذكرات لا شك أضاع قسماً كبيراً من القيمة التاريخية لهذه الوثيقة النادرة، وهو عادة دأب المترجمون والناشرون العرب على اتباعها فيما يخص المذكرات والرحلات التاريخية الأوروبية إلى الولايات العثمانية، حيث تأثرت الترجمات بعقلية «الدولة الوطنية»، فاهتمت المؤسسات الثقافية لكل دول بالجزء الذي يخصها دون غيره. وفي هذه المذكرات، التزم المترجم ب«المحافظة على نقل كل الأحداث التي تهم تاريخ العرب والمسلمين» وترك كل ما لا يهم «الأخوة العرب»، على حد تعبيره.
$أتاتورك تنين بسبعة رؤوس.. وإينونو كردي من بدليس!$
استبعدت النسخة العربية تحليل رضا نور للشخصيات الرئيسية، وضمها في فصل بعد نهاية المذكرات. ولحسن الحظ، فإن المترجم وكاتب المقدمة الدكتور بهجت رشيد غالب نقل مقتطفات قصيرة، منها وصف رضا نور لمصطفى كمال أن أمه معروفة لكن أبوه مجهول، وشكك في تركيته، مرجحاً أنه صربي أو من يهود الدونمة أو بلغاري! وأنه لا يملك عقلاً سليماً، لكنه صاحب دراية واسعة في تدبير المؤامرات. كان رئيساً لكل شيء في الحكومة، ومن الأجدى أن يطلق عليه لقب التنين ذو الرؤوس السبعة.
وفي حديثه عن عصمت إينونو، بدأ بنفي أصله التركي. ووفق رضا نور، فإن إينونو كردي من بدليس ويتحدر من عائلة كوروم أوغلو، رغم أن العائلة تنسب نفسها إلى أصل تركي وتنفي بشكل قاطع مزاعم رضا نور. يصف كليهما ب«اللص والحاقد والغدار»، ويزعم أن مصطفى كمال قبّل زوجة إينونو، فبكت، فأنبها إينونو على ذلك بدلاً من أن «يصفع مصطفى كمال». (ص 49 – 50)
صدرت الطبعة العربية لمذكرات رضا نور مطلع عام 2020 تحت عنوان «أتاتورك ورفاقه ونهاية العثمانيين»، وهو عنوان مختلق بعيد عن عنوان الكاتب «حياتي وذكرياتي». ويتضمن عنوان النسخة العربية خطأ لافتاً وهو اعتماد اسم «أتاتورك» ضمن عنوان لمذكرات كتبها رضا نور عام 1929 قبل أن يطلق «أتاتورك» هذا اللقب على نفسه عام 1934 ليحل محل لقب «الغازي». ولقيت رواجاً ودعماً في الترويج لها بسبب تقاطع المذكرات مع توجهات دول عربية لا تتفق مع السياسات التركية التوسعية في الدول العربية في عهد حزب العدالة والتنمية وما عرف ب«الربيع العربي»، فأرادت الطعن في المشروعية الأخلاقية لمؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال، ونفترض أن هذا الكتاب تقاطع – على الأرجح مصادفة – مع هذه التوجهات.
كتب رضا نور مذكراته في العام 1929 في باريس بالتركية العثمانية دون أن ينشرها، ثم عاد إلى تركيا وبقي فيها حتى وفاته عام 1942. ولسبب ما يعود إلى تقديرات رضا نور الأمنية، فإنه كان أودع مذكراته في أربع مكتبات كبرى في العالم، من بينها المتحف البريطاني عام 1935، شرط ألّا تفتح حتى 1960. واطلع كاتب تركي على المخطوط في المتحف البريطاني، ثم نشرت بدءاً من عام 1964 عدة مقالات في الصحف التركية تهاجم رضا نور لآرائه السلبية وتشنيعه في مصطفى كمال. ومن خلال هذه المقالات، صدر كتاب انتقادي تضمن العديد من أقوال رضا نور بحق مصطفى كمال. وبعد نشره بشهور عام 1967، حظرت السلطات الكتاب.
من زاوية، تعتبر مذكراته نقداً ذاتياً لكتابه «تاريخ تركيا» الذي نشر في 14 مجلداً عام 1926 حين كان لا يزال رفيقاً لمصطفى كمال، وأطنب فيه بالمديح ل«زعيم الأمة».
$عاش ومات من أجل الأمة التركية$
إلى جانب المذكرات، أعدّ رضا نور مرافعة فكرية ببرنامج إصلاحي لإعادة إحياء تركيا، وجه فيه انتقادات شديدة للسلطان عبدالحميد الثاني، «الذي أمضى فترة طويلة جداً في الحكم دون أن ينجز شيئاً»، ومصطفى كمال «الجاهل» و«مدّعي العبقرية». لكن ربما أكثر ما ساء رضا نور أنه، بالرغم من تحامله الشديد على «الباشا»، فإن مصطفى كمال كان يحقق نجاحاً وإن كان دون المستوى بالنسبة لرضا نور. لذلك، كتب في برنامج الإصلاحي:
«يمكن إحياء الأمة في عشرين سنة، إذا مرّت مثل هذه المدة دون حرب، وتكون إدارة الدولة والأمة في أيدي أشخاص على درجة كبيرة من العلم والإخلاص. والآن (عام 1929) تم عمل أشياء جيدة، وتم اتخاذ الطريق، ولكن السرعة ضرورية». (ص 35)
ولد رضا نور في سينوب على البحر الأسود عام 1879، وهو يتحدر من عائلة «إمام» التركية المعروفة. توفي في إسطنبول عام 1942. وعلى شاهد قبره كتب اسمه «رضا نور» بالأبجدية الأورخونية (المنغولية – التركية القديمة) بناء على وصيته. وكُتب على شاهد قبره أيضاً: «عاش ومات من أجل الأمة التركية».
تخرج من المدرسة الطبية العسكرية برتبة نقيب طبيب. ومثله مثل صديقه ثم غريمه الكردي العلماني عبدالله جودت، دعا إلى العلمانية في الحياة والسياسة، إذ كان الأطباء من أهم دعاة التحديث والتخلص من الإرث التقليدي العثماني.
ظهر على مسرح السياسة في أول نتخابات جرت بعد «المشروطية الثانية» عام 1908، فانتخب نائباً في مجلس المبعوثان. أقام في مصر من عام 1917 إلى 1921. وهو بذلك لم يعايش هزيمة الدولة العثمانية، لكنه التحق بحرب الاستقلال وظل قريباً من مصطفى كمال وأصبح من مفكري «الحرب الوطنية» وبمثابة مستشار سياسي للقيادة، فاقترح إلغاء السلطنة (وهو ما حدث باكراً في#01-11--1922# ) والإبقاء على مؤسسة الخلافة (وهو ما لم يحدث وألغيت في مارس/آذار 1924).
شارك في قيادة الوفد التركي في #معاهدة لوزان# ، وله دور كبير في صياغة بنود المعاهدة بحيث تصبح انتصاراً للترك ضد الكرد والروم والأرمن في الداخل. فهو بذلك من أبرز المنظّرين لفكرة الوطن ذو الشعوب المتعددة. وقرر مبكراً العمل لتصبح «تركيا اللوزانية» وطناً للأتراك فقط. ويعد الأب الروحي للمفكر الطوراني حسين نهال آتسيز (توفي عام 1975).
$حتى لا نخسر كردستان$
خدم وزيراً للصحة والتعليم في عدة حكومات خلال عهد حكومة أنقرة وما بعد تأسيس الجمهورية، وله الدور الأساس في تنظيم وأدلجة الحركة التعليمية، إذ كان من كبار القوميين الطورانيين. وهو الذي كلف المفكر الطوراني (الكردي) ضياء كوك ألب بإعداد دراسة عن المجتمع الكردي وحدد هدفه من وراء ذلك: «حتى لا نخسر كردستان».
ومن أكثر أعمال كوك آلب إثارة للجدل، دراسته بعنوان «مراجعات اجتماعية عن العشائر الكردية». أُعِدَتْ هذه الدراسة عام 1922. ويتطرق إلى هذه الدراسة علي نزهت كوكسل، المعروف بكتاباته عن ضياء كوك آلب، والذي تزوج من ابنته سنيحه، قائلاً إن هذه الدراسة تم إعدادها بناءً على طلب رضا نور الذي كان وزيراً للتعليم حينها ومن ثم وزيراً للصحة. يحدد رضا نور هدفه بالكلمات التالية:
«عندما كنت وكيلاً للصحة، قمت بتكليف ضياء كوك آلب بإجراء دراسة عن الكرد. وكان هدفي من ذلك جمع المعلومات ومعرفة الوضع بطريقة علمية واقتصادية. وبعد أن علمت أن الكرد هم تُرك، كنت سأبدأ بتنظيم العمل وتركيز نشاطي على إخبار الكرد بأنهم تُرك. التُرك قوم مسكين، فلنقل إننا فقدنا مئات الألوف من التُرك في مصر والجزائر حيث تم تعريبهم، ولكن كردستان لم تخرج من أيدينا بعد، وقد تخلينا عن التُرك هناك (في كردستان) ليصبحوا كُرداً».
$يوماً ما سوف يتحركون!$
يتحدث رضا نور في مذكراته عن الجهود التي بذلها لأجل عمليات الصهر القومي للكرد، ويذكر تكليفه ضياء كوك آلب بكتابة تقرير عن التركيبة الاجتماعية للكرد، على النحو التالي:
«أشعر بالحزن فيما يخص المسألة الكردية. فبالرغم من عدم وجود أي شيء حتى الآن، إلا أنهم يوماً ما سوف يتحركون من أجل قضية قومية، لذلك علينا الاستعداد لاستيعابهم (صهرهم)؛ بدأت بالمراجعات والتحقيقات وكانت بحوزتي كتب حول أسس وطرائق الاحتواء والاستيعاب (الصهر)، وحرصت على الحصول على كتب حول الكرد، وبعثت أموالاً إلى ضياء كوك آلب المقيم في ديار بكر للقيام بمراجعات وتحقيقات في الأحوال الاجتماعية واللغوية والقومية والجغرافية للكرد، وهو بدوره أرسل إلي تقريراً حول ذلك؛ كان هدفي يتركز في حل المسألة من جذورها قبل أن تتحول إلى مقدونيا أخرى».
ومع ذلك، فإن هذا التقرير الذي كان على قدر من الأهمية لم ينشر في وقت كتابته، إذ أن مؤيدي وأنصار كوك آلب لا يريدون أن تنشر هذه المراجعات للرأي العام؛ لأن الأيديولوجيا الرسمية للدولة القائمة على أنه «لا وجود للكرد» وأن «الكرد أصلهم تُرك» سوف تنهار حينما يعلم الناس أن من ابتكر «أساسيات القومية التركية» هو نفسه الذي أجرى مراجعات وتحقيقات حول العشائر الكردية.
لهذا، ظلت أبحاث كوك آلب هذه، التي أطلق عليها البعض اسم «أساسيات القومية الكردية»، مخفية مدة 53 عاماً ولم يتم نشرها إلى أن تمت طباعتها على شكل كتاب تحت إشراف «منشورات كومال» عام 1975.
$الوجه الآخر للفوضى والتأسيس$
إن مذكرات رضا نور، تزود القارئ بالوجه الآخر لحقبة الفوضى العثمانية منذ انقلاب الاتحاد والترقي إلى إعلان الجمهورية، والوجه الآخر لتاريخ مصطفى كمال. وهو – كما سيتضح لدى عرض المذكرات – وإن كان مدفوعاً بالحقد والحسد من مصطفى كمال ورفاقه، فإنه يكشف جوانب مهمة للغاية لأحداث شارك فيها رضا نور، مثل توقيع معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي عام 1921 وترؤسه وفد حكومة أنقرة إلى معاهدة لوزان في المرحلة الأولى، وعضويته في الوفد خلال المرحلة الثانية التي ترأسها عصمت إينونو. فضلاً عن السردية الموازية في كل الأحداث التي مرت بها الجمهورية في سنواتها الأولى، ومن ضمنها نظرته إلى الكرد، وهو من غلاة الطورانيين.
عاد سنة 1939 بعد عام من وفاة مصطفى كمال، فأصدر مجلة «Tanrıdağı»، وكانت صوت الطورانية في عهد خليفة «أتاتورك»، عصمت إينونو. ويحظى رضا نور بمكانة عالية لدى حزب الحركة القومية، وهو أستاذ المفكر الطوراني نهال آتسيز، معلم ألب أرسلان توركيش!.
[1]