الأمير باذ بن دوستك الحاربختي
رستم عبدو
خلال الفترة الواقعة بين 374 -380 ه / 984- 990 م
ظهرت خلال الفترة العباسية العديد من الشخصيات الكردية التي فرضت اسمها على الساحة الإسلامية, وبرزت هذه الشخصيات في الحراك السياسي كما أنها تميزت في المجال العسكري, كقادة مشهود لهم بالكفاءة , وساهمت هذه الشخصيات مع مرور الزمن في تأسيس إمارات ودول استطاعت الوقوف بوجه مطامع القوى الخارجية, نذكر من هذه الشخصيات اسم أبو عبد الله الحسين بن دوستك الحاربختي/الجاربختي1 المؤسس الفعلي للدولة المروانية أو الدوستكية أو الحاربختية.
برزت شخصية أبو عبد الله الحسين بن دوستك والملقب ب باذ/ باد الكردي أبو شجاع في الربع الأخير من القرن العاشر الميلادي وذلك في عهد البويهيين2 الذين استلموا مقاليد الأمور في الخلافة العباسية بعد وصولهم إلى مقرهها في بغداد ومشاركتهم الحكم بمباركة خلفاء بني عباس.
لا نعرف تفاصيل كثيرة عن طفولة باذ ومكان نشأته, إلا أنه ينتمي إلى قبيلة الحميدية الكردية وتسلم زعامتها 3, كان باد جميل المنظر ضخم البنية, قويا ذو بأس شديد4, شهماً وكريماً يطعم الفقراء من ماله, كثير الغزوات في تلك الديار5.
عندما استولى عضد الدولة أبو شجاع البويهي الديلمي على الموصل وأخذها من بني حمدان6, التجأ إليه باذ, إلا أن عضد الدولة خاف منه وخشي من جسارته وتنامي طموحه , وعندما التمس باذ الخطر على حياته من طرف أنصار عضد الدولة سارع إلى مغادرة الموصل باتجاه معقله في الجبال.
بدأ باذ في توسيع نفوذه هناك, فاستولى على مدينة أرجيش وهي من أملاك أرمينية ثم استولى على آمد وميافارقين وغيرها من مدن ديار بكر7 كجزيرة ابن عمر وحصن كيفا ونصيبين التي استطاع انصاره ضمها لمناطق نفوذه بعد موت عضد الدولة.
قوي أمر باذ وكثر أنصاره واتخذ من مناطق باب حيزان والمعدن8 مكانا له, وولى أخاه الحسين بن دوستك أبو الفوارس على ميا فارقين9.
استشعر صمصام الدولة, الذي خلف أباه عضد الدولة البويهي, خطر باذ الذي كان قد رفض الامتثال لأوامره, مما دفع بصمصام إلى إرسال جيش بقيادة أبي سعيد بهرام بن أردشير لإخضاعه لكن الجيش أخفق في ذلك بل تلقى جيشه هزيمة مزلة على يد باذ, الأمر الذي أغاظ صمصام الدولة ودفعه إلى ارسال جيش آخر بقيادة أبا القاسم سعد بن محمد الحاجب للثأر منه , حيث التقىت جموعهم في موقعة باجلايا عند بلدة كواشي على خابور الحسنية10, تلقى على إثرها جيش صمصام هزيمة أخرى وانسحب قائدهم أبا القاسم سعد بن محمد الحاجب مع بعض عساكره لمدينة الموصل , تبعه باذ ولاحق فلولهم حتى دخل ورائهم الموصل وسيطر عليها بعد فرار أبي القاسم منها11.
وقد قال أبو الحسن البشنوي في انتصار باز
أنصار باذ بأرجيش وشيعته بظاهر موصل الحدباء في العطب
بباجلايا جلونا عنه غمغمة ونحن في الروع جلاؤن للكرب.
بعد سقوط الموصل في يد باذ وتعاظم قوته خشي صمصام من تقدمه باتجاه بغداد والاستيلاء عليها, مما دفعه لجمع العساكر ومن ثم تعيين أكبر قادته وهو زيار بن شهراكويه لقيادته والسير نحو الموصل لقتال باز.
التقى الجمعان وهزم باذ الذي اضطر على أثرها للانسحاب باتجاه الجبال. أرسل زيار قسما من جيشه بقيادة أبي القاسم إلى جزيرة ابن عمر في طلب باذ وقسما آخر من جيشه باتجاه نصيبين, كما ان صمصام الدولة أتفق مع سعد الدولة أبن سيف الدولة الحمداني على مسير الأخير بجيشه من حلب للمساهمة في القضاء على باذ مقابل منحه ديار بكر12.
في هذه الاثناء كان باذ يعد العدة ويجمع عساكره ويتأهب لقتال جيوش صمصام والمتحالفين معه, وقد استطاع التصدي للجيش الحلبي والانتصار عليه الذي سرعان ما عاد أدراجه, كما استطاع محاصرة جيش الموصل الذي كان قد تقدم صوب ميا فارقين مما دفع بأبي القاسم سعد بن محمد الحاجب لتكليف أحد مقاتليه, بعد حصار باذ لجيشه, من أجل التسلل إلى خيمة باذ وقتله لكن فشل في ذلك مكتفيا بإصابته13.
مرض باذ على أثرها فترة من الوقت ثم وقعت اتفاقية سلام بين باذ وبين كل من زيار وأبي القاسم سعد بن محمد الحاجب أمراء الموصل14, اتفقوا من خلالها على أن تكون ديار بكر والنصف من طور عابدين15 لباذ.
بقيت الاتفاقية سارية حتى موت أبي القاسم سعد بن محمد الحاجب, بعدها حاول باذ من جديد التقدم والسيطرة على الموصل, في تلك الفترة كان شرف الدولة أبو الفوارس هو من يحكم بغداد خلفا لأخيه صمصام, والذي أمر بجمع العساكر وتكليف أبا نصر خواشاذه لقيادتهم والسير نحو الموصل لحمايتها من باذ .
نجح شرف الدولة في الاتفاق مع كل من عرب بني عقيل وبني نمير على دخول الحرب معه ضد باذ مقابل اقطاعهم بعض المناطق16, وقد تمكنوا معا في وقف زحف باذ الذي كان قد نجح في ضم النصف الآخر من طور عابدين قبل أن يعقد أتفاق آخر تنازل على إثره البويهيون عن جزيرة ابن عمر وطور عابدين17 لصالح باذ.
مات شرف الدولة أيضا وخلفه أخاه الآخر بهاء الدولة أبو نصر خاشاد الذي طالب من باذ استرجاع ما كان قد حصل عليه خلال الاتفاق الأخير, لكن باذ رفض الطلب, مما دفع ببهاء الدولة إلى طلب الدعم من الخليفة العباسي الطائع لله18 و كلف ابن الطاشي لقيادة جيش بغداد وضرب باذ, حيث جرت بينهما معركة عند طور عابدين قتل فيها الحسين بن دوستك أخ باذ ونقل جثمانه إلى ميافارقين.
في عهد بهاء الدولة تمكن ابني حمدان, وهما أبا طاهر والحسين اللذين كان في خدمة أخيه شرف الدولة ببغداد من قبل, من الظفر بالموصل بعد طرد عاملها19 وبدأ يرتفع شأنهما والتوسع على حساب مناطق أخرى خاضعة لنفوذ باذ, مما دفع بباذ بجمع عساكره للوقوف في وجه بني حمدان والسيطرة على الموصل وقد انضم إلى جيشه من أجل هذا الغرض الكرد البشنويون أصحاب قلعة فنك20 في حين انضم بني عقيل لجيش بني حمدان 21.
جرت معركة بين الطرفين قتل على إثرها باذ بعد أن وقع على الأرض وهو يحاول الوثب على فرس آخر22, فتقدم إليه الخيالة وقتلوه ثم فصلوا رأسه عن جسده و قطعوا أطرافه وحملوه إلى الموصل ثم إلى بغداد ثم أعادوه إلى الموصل ليصلب اشلاؤه على باب الإمارة23 وهم يتباهون بقتل باذ الكردي الذي طالما أدخل اسمه الرعب في نفوس اعدائه ومنافسيه.
ثار أهل الموصل بسبب طريقة قتل باذ والتشهير به, وطالبوا حكامها من بني حمدان دفنه بطريقة تليق به كمقاتل وغاز, اضطر بني حمدان الامتثال لأوامرهم, فاغتسل باذ وكفن وصلي عليه ودفن بالموصل24 وأقيمت على روحه المآتم حزنا على فراقه25.
على الرغم من قتل باذ وهزيمة جيشه في بادئ الأمر إلا أن الأمير أبو علي بن مروان ابن أخت باذ استطاع رص صفوف مقاتليه من جديد وملاحقة جيش بني حمدان هزيمتهم وقتل الكثيرين منهم26 .
عاد بعدها الأمير أبو علي بن مروان مع مجموعة من مقاتليه إلى حصن كيفا وفيها زوجة باذ الديلمية وأهله, ليخبرهم بما حدث ومن ثم الانتقال معهم إلى مدينة آمد بعد أن ضمن ولاء مدن آمد وميا فارقين وكل الحصون المحيطة بهما, ليبدأ معه تاريخ الإمارة المروانية التي لم تختلف عن الإمارات الإسلامية الأخرى باستثناء أن هذه أمرائها من الكرد27, وحكمت هذه الإمارة نحو مئة سنة, من أرمينا حتى أورفا وكانت عاصمتها مدينة ميا فارقين, إلى أن قضت عليها السلاجقة28 في عام 1096م بفضل الدسائس والمؤامرات.
المصادر:
ابن خلدون, 2000, عبد الرحمن, تاريخ ابن خلدون – ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر, مراجعة سهيل زكار, مجلد 3, دار الفكر, بيروت, لبنان.
ابن فضل الله العمري, شهاب الدين, 2010, مسالك الأبصار في ممالك الأمصار, تحقيق, مهدي النجم, مجلد 26, ط2, دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان.
أبي شجاع الروذراوري, ظهير الدين, 2003, ذيل تجارب الأمم, الجزء 8, ط1, دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان.
الجزري, ابن الأثير, 1987, الكامل في التاريخ, مراجعة , محمد يوسف الدقاق, المجلد 7, ط1, دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان.
الفارقي, أحمد بن يوسف, 1959, تاريخ الفارقي – الدولة المروانية, تحقيق, بدوي عوض, الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية, القاهرة, مصر.
زكي, محمد امين, 1939, خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور حتى الآن, ترجمة, محمد علي عوني, مطبعة السعادة, مصر.
نيكيتين, باسيلي, 2007, الكرد دارسة سوسيولوجية وتاريخية, ترجمة, نوري طالباني, ط3, مؤسسة حمدي للطباعة, سليمانية, إقليم كردستان العراق.
1 يذكر أرشاك سافرسيان في كتابه الكرد وكردستان الذي ترجمه أحمد محمود خليل, والصادر عن دار سردم – سليمانية/ اقليم كردستان عام 2008, أن أبا علي بن مروان بن دوستك البابختي/ الجاربختي ( القبائل البختية الأربعة), سليل القبائل البابختية التاريخي, هو مؤسس المملكة المروانية شمال دجلة, لكن بن مروان الجاربختي لم يعط المملكة اسم عائلته (جاربختي ) وانما أعطى هو وخلفاؤه المملكة اسم مروانية حتى ينسجم مع العالم الإسلامي
2 البويهيون, برزوا على الساحة سنة 933 م , وينتمون للديلم ويرجع بنسبهم إلى بويه بن فنا خسرو, بسطوا نفوذهم على بلاد فارس ثم تطلعوا بعد ذلك للسيطرة على بغداد وقد تمكن أحمد بن بويه من دخول بغداد سنة 334ه واستحوذ على مقدرات الخلافة العباسية.
عاصر باذ كل من عضد الدولة أبو شجاع فنا خسرو البويهي وأولاده الثلاث صمصام الدولة أبو كاليجار وشرف الدولة أبو الفوارس وبهاء الدولة أبو نصر خاشاد.
3 زكي, محمد أمين, خلاصة تاريخ الكرد وكردستان, ص 143.
4 الجزري, ابن الأثير, الكامل في التاريخ, مجلد 7, ص 415.
5 ابن خلدون, تاريخ ابن خلدون, ص 537.
6 نسبة إلى جدهم أبي العباس حمدان من بني تغلب, حكموا الموصل عام 905م في عهد أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون كما حكموا حلب عام 944م في عهد سيف الدولة الحمداني.
7 بخصوص مصطلح ديار بكر أو ربيعة أو مضر فقد ظهر بعد الفتوحات الإسلامية لمنطقة الجزيرة, وذلك نسبة للقبائل العربية التي كانت تستوطن منطقة تهامة والحجاز قبل أن ينتقلوا لبوادي الشام والعراق نتيجة الاقتتال فيما بينهم هناك إبّان الفتن كما يذكر جرجي زيدان في كتابه العرب قبل الإسلام.
8 حيزان والمعدن, يقع بين ديار بكر وأرمينيا وهو المكان الذي خرج منه باذ وبالتحديد من جبل باحسبى.
9 الفارقي, أحمد بن يوسف, تاريخ الفارقي, ص 52.
10 الجزري, ابن الأثير, المرجع السابق , ص 415.
11 ابن خلدون, المرجع السابق, ص 537.
12 ابن الأثير, المرجع السابق, ص 418.
13 المرجع نفسه.
14 ابن خلدون, المرجع السابق, ص 538
15 طور عابدين بليدة من أعمال نصيبين في بطن الجبل المشرف عليها والمتصل بجبل الجودي ( ياقوت الحموي, المجلد , 4, ص 48 ).
16 المرجع نفسه.
17 الفارقي, المرجع السابق, ص 56.
18 المرجع نفسه
19 ابن فضل الله العمري, شهاب الدين, ص 185.
20 ابن الأثير, المرجع السابق, ص 380.
21 ظهير الدين الروذراوري, أبي شجاع, ذيل تجارب الأمم, ص 108.
22 الفارقي, المرجع السابق, ص 58.
23 ظهير الدين الروذراوري, المرجع السابق, ص 108.
24 المرجع نفسه.
25 الفارقي , المرجع السابق, ص 58.
26 المرجع نفسه.
27 نيكيتين, باسيلي, الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية, ص 30.
28 السلاجقة ينحدرون من قبيلة قنق التركية وينتسبون إلى جدهم سلجوق بن دقاق وقد وصفهم المقريزي بأنهم أخلاط من الترك، كانوا يصيفون في بلاد البلغار ويشتون في تركستان وينهبون ما طرقوه, نزح هؤلاء من موطنهم الأصلي عام 985 م ليستقروا في خراسان قبل أن يتمكن طغرلبك من تأسيس دولة له هناك في عام 1037 م، ومن ثم التوسع بعد ذلك في الشرق، وقد انقسمت إلى خمسة بيوت: هي السلاجقة العظمة وسلاجقة كرمان وسلاجقة العراق وكردستان وسلاجقة سوريا وسلاجقة الروم.[1]