أثر انهيار الاتحاد السوفياتي على القضية الكردية
مارتن فان برونسين – جامعة أوتريخت
الترجمة عن الإنكليزية : راج آل محمد
يعتبر الكرد من الجيران المباشرين لجمهوريات ماوراء القفقاس لكل من أرمينيا وجورجيا وأذربيجان وفي كل واحدة منها أقلية كردية أيضاً. ورغم أن جمهوريتي تركمانستان وكازاخستان في آسيا الوسطى بعيدتان عن كردستان، فإن فيها أقلية كبيرة من الكرد أيضاً. ومن البديهي أن يكون للتغيرات الدرامية الأخيرة من حيث بروز موجة جديدة من القومية والعودة إلى الإسلام والتي تؤثر على هذه الجمهوريات السوفتيية السابقة تأثيرا أيضا على الكرد. إن طبيعة هذا التأثير غير مباشر غالباً ولذلك لم يعط له حقه [من البحث] والسبب في ذلك أنه تزامن مع تغييرات أخرى طرأت على النظام السياسي والاقتصادي للعالم. هذه الورقة تحاول البحث في العلاقات المختلفة المتداخلة.
الكرد وآسيا الوسطى في التاريخ: الصلات الصوفية
للعلاقات بين الكرد والمسلمين في القفقاس في آسيا الوسطى تاريخ طويل. في ورقتنا الحالية يبدو البحث عن الاتصالات الأولى غير مرتبط بالموضوع. ولقد كانت غزوات المغول والثورات الشعبية اللاحقة فترة واضحة من الاتصال والتبادل الثقافي ولكن التأثيرات في كلا الاتجاهين استمرت لعدة قرون تالية. فهناك مثلا تشابه قوي بين الصوفية التي سادت في كردستان وآسيا الوسطى في القرون من 13 إلى 15.
فلقد كان من بين معلمي الباطني الوسط آسيوي الكبير نجم الدين كبرى (توفي في 1221)-وهو مؤسس الطريقة الكبراوية وله تأثير كبير على الطريقة النقشبندية- كردي يدعى عمار بن ياسر البدليسي (توفي في عام 1200 تقريباً).تأثير (الشيخ نجم الدين كبرى) امتد حتى وصل غرباً إلى خرسان ومن ثم إلى كردستان.
في منتصف القرن الرابع عشر كان الشيخ الرئيس للطريقة الكبراوية رجلا من الأطراف الشرقية لكردستان ويدعى سيد علي همداني (المتوفي سنة 1384) والذي كان له تأثير كبير على التصوف في كل من كردستان وآسيا الوسطى، وفرع الكبراوية الذي سُمي باسمه (الهمدانية) أصبح مؤثراً بشكل خاص في خرسان وآسيا الوسطى[2] ولكنه كان أيضاً طريقة معظم المتصوفين المؤثرين في القرن الخامس عشر في كردستان ألا وهم الشيخ حسام الدين بدليسي في الشمال والزعماء الدينيين من عائلة برزنجي في الجنوب. ونظراً لمكانة الشيخ حسام الدين الرفيعة بين الكرد، اقتنع معظم الأمراء الكرد بسليله إدريس البدليسي وتحالفوا مع الطرف العثماني في الصراع العثماني-الصفوي والذي أدى إلى ضم معظم كردستان إلى الإمبراطوية العثمانية. ولا تزال عائلة البرزنجي الدينية الأكثر تأثيراً في كردستان رغم أنه لم تعد لها صلة بالكبراوية بل القادرية.
وربما يشير علي الهمداني وخلفاؤه المباشرون أيضاً إلى صلة ما بين جماعتين اسلامتين مهرطقتين في كردستان وآسيا الوسطى والذي تُظهِر موسيقاهم الدينية تشابها ملحوظا وغير قابل للتفسير لغاية الآن. فأهل الحق في جنوبي كردستان والإسماعيليون في بكداشان لا يستخدمون فقط أنواعاً متشابهة من آلة الطنبور ذات الوترين بل أيضا نفس المقامات وأساليب العزف ذاتها وهي تذّكر بعضها ببعض بقوة. وقد حاول (و.و إيفانوف W.W. Ivanow ) أن يبرهن أن جماعة أهل الحق تأثرت كثيرا بالإسماعيلية ولكنه لم يقدم دليلا مقنعا بما فيه الكفاية للبرهان على نظريته. ولكن المثير للاهتمام هو أن سلسلة النسب المكتوبة لأسياد أهل الحق (الزعماء الدينيون الوراثيون لهذه الجماعة) تُظهر أن جدهم الأعلى المشترك سلطان اسحق ،المؤسس المفترض لهذا الدين، كان شقيق مؤسس عائلة البرزنجي والحفيد (الروحي) لعلي الهمداني[3]. كما إن النصوص القديمة لأهل الحق تحتوي أيضاً على إشارات إلى دراوشة قلندار والذين شكلوا على ما يبدو مكوّنا رئيسياً لهذا الدين في مراحله التكوينية الأولى.ويبدو أنه من الجدير البحثُ فيما إذا لم تكن الجماعات الإسماعيلية في هندوكوش قد استوعبت جماعات دراويش كهذه. بل أنه من الممكن أن جماعات الدراوشة المتجولين قد ساهموا في القرون التالية في التوسط بين هذه الجماعات المتشابهة- كما يشير إلى ذلك في الواقع إحدى أساطير أهل الحق.
وفي حالة التصوف التركماني المشكّلة من اليوسفية-البكداشية، كان التأثير بأكثر من اتجاه. فعندما سافر المتصوف الخرساني حاجي بكداش (المتوفى سنة 1335) غرباً، بحسب سيرته المبكرة (الولاياتنامه) فإنه قضى بعضاً من الوقت في كردستان واستقطب عددا من المريدين هناك قبل أن يسافر إلى وسط الأناضول وهي المنطقة التي اقترنت فيما بعد بالبكداشية بشكل خاص. ويبدو أنه وجد بعض الأتباع بين رجال القبائل الكردية حيث أن السجلات المالية العثمانية تذكر بعض القبائل الكردية البدوية البكداشية.
استمر الدراوشة من آسيا الوسطى في المرور عبر كردستان خلال القرن التالية والبعض منهم كان يبقى لفترة وجيزة. ( يُعرف قليل من الكرد الذين سافروا بعكس الاتجاه) وقد أصبحت كردستان الطريق الرئيسي للحج من آسيا الوسطى وبخاصة إبان قيام الدولة الصفوية الشيعية. وعندما زار أوليا جلبي بلدة جزيرة الكردية على نهر دجلة حوالي 1600 وجد أن المقيمين في التكية النقشبندية المحلية لم يكونوا من الكرد بل من شعوب آسيا الوسطى ( الهنود والأوزبك، وجغتاي والقمق)[4]. المتصوف والعالم الكردي الكبير إبراهيم حقي الأرضرومي الذي عاش في القرن الثامن عشر يذكر في قسم سيرته الشخصية من كتابه (معرفتنامه) إن رحالين متصوفين من الأوزبك قد شكلا تأثيرا كبيرا في التطور الروحي لوالده حيث قضى أحدهما الشتاء كاملاً في بيت والده.
وقد بُعثت الحياة في التصوف الكردي من قبل الشخصية الكاريزمية مولانا ضياءالدين خالد الذي عاد في عام 1811 إلى السليمانية في كردستان العراق بعد أن درس في دلهي على شاه غلام (المعروف أيضاً ب عبدالله الدلهاوي) وبين ذلك التاريخ وحتى مماته في دمشق في عام 1827 عيّن أكثر من ستين خليفة. وخلال عدة أجيال انتشرت الخالدية- فرع النقشبندية المنسوب إليه- في كل العالم الإسلامي وألقت بظلالها على كافة الفروع الأخرى. ويبدو أن مولانا خالد قد نفخ في الخالدية روحاً قتالية حيث نجد معظم الشيوخ من طريقته في الجبهة الأمامية من النضال السياسي، إذ أن معظم الثورات الأولى للقومية الكردية قادها شيوخ من الطريقة النقشبندية-الخالدية.
ولكن في السياق الحالي فإن أبرز ممثل للطريقة النقشبندية هو الداغستاني (شيخ شامل المتوفى سنة 1871) والذي تبقى مقاومته للغزو الروسي – كما سنرى حالاً- مصدر فخر وإلهام لمسلمي شمالي القوقاز في الوقت الحاضر.[5] كان الشيخ شامل أثناء نضاله ضد الروس على اتصال مع شيوخ الكرد النقشبنديين في نهري (هكاري) الذين يبدو أنهم أرسلوا عدداً من المقاتلين الكرد لدعم شامل[6]. ولا يزال الشيخ شامل يحظى بإعجاب كبير في تركيا حيث نُشرت عدة كتب عن حياته في العقود العشرة الأخيرة ويبدو أنها لا تُقرأ فقط من قِبل أشخاص منحدرين من القوقاز.
وكان للخالدية ممثلاً مهماً واحداً على الأقل في وسط آسيا، المفكر المجدِد ورجل الدين الشيخ ضياءالدين رسولي (المتوفى سنة 1917) والذي تلقى علوم دينه من الشيخ الخالدي البارز ضياءالدين كوموشخانوي Gümüshkhanvi في إستانبول. ولكن يبدو أن معظم النقشبندية في آسيا الوسطى (بما فيها أفغانستان) كانت ولا تزال تنتمي إلى الفروع الأخرى من الطريقة وليس لها اية صلات حالية مع النقشبندية الكردية.
الجاليات الكردية فيما وراء القوقاز وآسيا الوسطى
يشكل الصوفيون والدراوشة المتجولون حداً مشتركاً بين كردستان والقوقاز وآسيا الوسطى ويشكل الأكراد الموزعون بين تلك الجمهوريات حداً مشتركا ثانياً. يذكر كتاب شرفنامة -الذي اكتمل في عام 1597- عن تاريخ القبائل والأسر الكردية الحاكمة أسماء بعض القبائل الكردية التي كانت تعيش في القوقاز وفي شمالي خرسان.وقد انتقلت مجموعة من القبائل الصغيرة نسبياً والتي تُعرف باسمها التركي Yigirmidort (أربع وعشرون) إلى إيران عند الفتح العثماني في عام 1576 ولكن الجماعات الأخرى بقيت هناك على ما يبدو. فقد أستوطنت قبيلة (كيل) الكردية في شمالي خرسان منذ وقت طويل بينما رحلت قبيلة (جكني) إلى هناك في القرن السادس عشر واستخدمها الصفويون كحراس للحدود الشمالية الشرقية ضد الأوزبكيين السنة. وفي حوالي 1600 يُزعم أن 40 ألف عائلة من القبائل الكردية قد جُلبت إلى المنطقة من أجل الغاية ذاتها. كانت كل تلك العوائل من القزلباش الشيعة الذين جاؤوا من شرقي الأناضول بعد الفتح العثماني وكان من بينها قبيلة Yigirmidort من القوقاز. وهؤلاء يشكلون أسلاف القبائل الكردية الحالية في شمالي خرسان (في منطقة بوجنورد، شيروان وقوجان) وجنوبي تركمانستان. ورغم أنهم لا يزالون يتكلمون الكردية فإن هذه الجاليات الكردية الكبيرة قد بقيت عمليا معزولة عن أكراد كردستان بالمعنى الضيق للكلمة، كما إن بروز القومية الكردية هناك لم يكن له أدنى تأثير في خرسان وتركمانستان. وهم بالتالي لن يلعبوا أي دور فيما بقي من هذه الدراسة.
غير أن وضع الكرد في جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، بالإضافة إلى أكراد روسيا وكازاخستان (الذين أيضا نشأوا من تلك الجمهوريات الثلاث ) مختلف من هذه الناحية. إن قسما من أكراد جمهوريات ما وراء القوقاز ينحدرون من القبائل التي عاشت هناك منذ قرون وقسم آخر من الناس الذين فروا إلى هناك لسبب أو آخر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. إن نسبة كبيرة من الكرد في جورجيا وأرمينيا إزديديون فرَّ أسلافهم من الاضطهاد الذي لاقوه على يد الأكراد السنة والجيش العثماني في القرن التاسع عشر وفي الحرب العالمية الأولى. كان للإيزيديين على الدوام وعي بأنهم مختلفون عن المسلمين لدرجة أن الكثير منهم يرفضون اعتبار أنفسهم أكراداً. وقد حاولت الحكومة الأرمينية في السنوات الأخيرة اللعب على هذا الوتر بغية تقوية التقسيم بين الجماعتين وعاملتهما بشكل مختلف.
في الثلاثينيات والأربعينيات وقع الكرد في جمهوريات ما وراء القوقاز ضحايا لسياسة التهجير الستالينية للأقليات القومية. حيث تم تهجير عشرات الآلاف إلى آسيا الوسطى وسيبيريا، حيث لا تزال هناك جاليات كردية كبيرة وخاصة في كازخستان وقرغيزيا وسيبريا.
ليست هناك إحصائيات دقيقة ومقبولة على نطاق واسع عن عدد الكرد في الاتحاد السوفييتي السابق، حيث أن الإحصائيات الرسمية تظهر تبايناً كبيرا من سنة إلى أخرى، وهي (أي الإحصائيات) تحاول بالتأكيد التقليل من حضورهم. في إحصاء روسيا القيصرية لعام 1897 بلغ عدد الكرد 100.000 ( وربما لم يشمل هذا العدد أكراد تركمانستان).
في أرمينيا فقط وبسبب التغيرات الأخيرة استمتع الكرد ببعض الحقوق الثقافية الكبيرة. فبرامج راديو يريفان تُسمع في شرق تركيا وشمالي العراق ويتم الاستماع إليها بشوق كبير وخاصة عندما كانت اللغة الكردية محظورة بشدة في تركيا (أي حتى 1991). وكان لصحيفة (ريا تزه) التي تصدر في يريفان باللغة الكردية وبالحروف السيريلية [الروسية]عدداً من القراء في أوربا الذين كانوا يقتبسون بعض المواد منها في مطبوعاتهم المنشورة في ألمانيا والسويد. بعد 1980 توطدت العلاقات بين المثقفين الكرد في أرمينيا والمثقفين الكرد في تركيا الذين يعيشون في منافي أوربا. فقد نُشرت كتب ومقالات كتّاب مثل جليلي وأورديخان جليل، وعسكري بويك، وشكرو محويان والراحل عرب شمو (شاميلوف) في أوربا الغربية وفي تركيا أيضاً.
وقد أثر النزاع على نوغورني-كاراباخ وصعود القومية في جمهوريات ما وراء القوقاز وآسيا الوسطى سلباً على الكرد في تلك المناطق. ففي أرمينيا عانى الأكراد السنة بشكل خاص من معاملة سيئة حيث كانت هناك الكثير من حالات الطرد، حيث يتكلم [عصمت شريف] وانلي عن طرد 180 ألفا في الفترة بين 1987-1988. في الفترة نفسها أثر الصراع القومي في كل من قرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان والذي لم يكن موجها بشكل مباشر على الكرد، فإنه أجبر الكثير من هؤلاء على مغادرة تلك الجمهوريات، حيث يزعم وانلي بأن معظمهم استقروا في كراسندار وهو ما انتهى إليه أيضا الكثير ممن تركوا أرمينيا. في السنوات الأخيرة هاجرت أعداد كبيرة “طواعية” لأسباب اقتصادية أو أمنية إلى روسيا أو آسيا الوسطى وخاصة إلى كازاخستان.[7]
وفي تلك الفترة أيضاً تعززت الصلات بين تلك الجاليات الكردية وأكراد تركيا وبخاصة مع حزبهم الأكثر تنظيماً، PKK. إن PKK هو التنظيم الوحيد الذي بذل مساعي جدية للحصول على نفوذ بين أكراد الاتحاد السوفييتي السابق، وقد نجح بشكل لافت للنظر لدرجة أن الصحافة التركية دقت جرس الإنذار حول نشاطات PKK في كازاخستان زاعمة أن دعاة PKK يألبون الأكراد المحليين على الأتراك (أي الوافدين من تركيا).
ظهور الإسلام السياسي بين الكرد والرابطة الأفغانية:
لقد خضع تأثير الإسلام في القومية الكردية لتغييرات كبيرة. كما قلنا من قبل كان الكثير من قادة الحركة القومية الكردية من شيوخ النقشبندية وهم من قادوا تقريبا كل الثورات الكردية في الفترة الممتدة بين 1880-1925. لقد شارك العامة في تلك الثورات بدافع التأثر الديني بهؤلاء الشيوخ والولاء القبلي لزعماء القبيلة الذين تعاونوا مع الشيوخ أكثر منه بسبب الوعي القومي. والحركة الكردية التي انبثقت في الستينيات أولا في العراق ومن ثم في تركيا وإيران مختلفة جداً من حيث طبيعتها. فقد كانت علمانية إلى حد كبير ورغم أن أغلبية الكرد من المسلمين الأتقياء، إلا أن العاطفة الدينية لم تنعكس سياسياً. وكان الزعيم الأبرز مصطفى البارزاني في الفترة من 1960– 1975 ينتمي إلى أسرة خارجة عن مركز الشيوخ النقشبنديين ولكن هو نفسه لم يكن شيخاً ولم يكن لأي من القادة الآخريين أية صلة دينية. فمعظم القادة كانوا علمانيين، والملالي الذين كانوا ناشطين في الحركة كانوا بمستويات أدنى مشاركين في الحركة السياسية العلمانية.
فالحركة [الكردية] في تركيا بشكل عام كانت تتألف من جناحين: الجناح الأول متجذر في علاقات القوة في جنوب شرقي تركيا ومتأثر إلى حد كبير بحركة البارزاني في العراق، والجناح الآخر يساري ومتمركز في المدينة. في نهاية السبيعينيات كانت هناك حوالي دزينة من الأحزاب الكردية السياسية في تركيا، وكل واحد منها كان ملتزما بأحد أشكال الماركسية. إذاً بقي الإسلام والقومية تقريباً أولويتين منفصلتين على نحو متبادل حيث الجماعات ذات التفكير الديني بقيت بمنأى عن القضايا القومية. وقد تغير الوضع بحلول الثمانينيات حيث أصبحت الجماعات الدينية أكثر قومية بينما اكتشف القوميون الراديكاليون سطوة الإسلام على القرويين الكرد العاديين.
وفي إيران التي برزت فيها الحركة الكردية بكامل قوتها في أعقاب الثورة الإسلامية، كانت الأحزاب الكردية علمانية وعلى نحو متشدد. فقد منيت جهود الحكومة المركزية بأن تقدم الشخصيات الدينية كممثلين مقبولين للكرد بالفشل الذريع. وكان الشيخ عزالدين الحسيني، ذو الشخصية الكاريزمية هو الشخصية الدينية الوحيدة الذي برز على السطح كزعيم سياسي والذي كانت حاشيته من الشباب الراديكاليين اليساريين. أما الحزب الكردي الرئيس، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني، فكان له جناح ماركسي وآخر اشتراكي ديمقراطي، وكلاهما علمانيان إن لم يكونا مناوئين للدين. أما الحزب البارز الآخر فكان ماوياً اندمج فيما بعد مع جماعة غير كردية أطلقت على نفسها الحزب الشيوعي الإيراني.
وقد لعب عدداً آخر من العوامل على نطاق أوسع في جعل الإسلام عاملاً أكثر أهمية في السياسة الكردية. أولى هذه العوامل كانت الثورة الإسلامية في إيران، التي أثارت ردود أفعال قوية في العالم الإسلامي برمته. عامل آخر أقل وضوحا كانت الحرب الأهلية في أفغانستان والتي حولت تلك الدولة والمقاطعات المجاورة لها من باكستان إلى حقل تدريب للمقاتلين المسلمين من كل أنحاء العالم ودفعت بالمحافظين السعوديين للعب دور الممول للحركات الإسلامية المتطرفة. وقد قضى المسلمون من مختلف العقائد في تركيا وكردستان بعض الوقت في بيشاور واكتسبوا بعض الخبرة المباشرة في أحدث طرق حرب العصابات. من غير الممكن للمتفرج الخارجي أن يقدر عدد هؤلاء ولا إلى أية المنظمات كانوا ينتمون. إحدى الجماعات في تركيا كانت تتألف من أتباع شيوخ النقشبندية- الذين لم يكونوا من الأصوليين بالمعنى الدارج للكلمة. وهم ليسوا بارزين منذ عودتهم إلى تركيا ولكن وجود مجموعات مدربة من رجال مستعدين للانخراط في الجهاد قد يكون عاملاً مهماً في المستقبل.
وقد لعبت جماعة كهذه دوراً مهماً في كردستان العراق في بداية التسعينيات [من القرن الماضي]. ففي الثمانينيات وأثناء الحرب العراقية- الإيرانية، برزت عدد من التظيمات الكردية الإسلامية المدعومة بقوة من إيران والسعودية، ولكن أياً منها لم تصبح مهمة. إحدى هذه التشكيلات الهامشية كانت الحركة الإسلامية الكردستانية التي أصبحت قوة فاعلة بعد عام 1991 بسبب عدد من الشباب الراديكاليين بقيادة رجل يُعرف باسم الملا كريكار (أو الملا فتاح) وعلي بابير الذي عاد من أفغانستان فغرس في الحركة روحا قتالية. في أفغانستان كان هؤلاء ينتمون إلى الحزب الإسلامي بقيادة [قلب الدين] حكمتيار. وعندما انخرطت الحركة الإسلامية في صراع مسلح مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) الحاكم في الجنوب بين عامي 1993-1994 كان الملا كريكار هو الذي تخلص من معظم القادة المعتدلين والمترددين وقاد هجوماً ناجحاً ضد الحزب المنافس. ولم تكن مكاسب الحركة عسكرية فقط: إذ كسبت قاعدة واسعة من الأتباع بين السكان القرويين. بينما انخرط الحزبان الكرديان الرئيسان (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني بقوته الرئيسية في اأقصى شمال العراق) في اقتتال أخوي منذ ربيع 1994 وقد خسروا الدعم الذي كانوا يحظون به مما جعل الحركة الإسلامية بديلا أكثر جاذبية.
أفول الاشتراكية؟
لم يثر سقوط الاتحاد السوفييتي رفضاً عاماً للاشتراكية كبديل قابل للتطبيق بين أكراد تركيا كما أثار في بعض أجزاء العالم. فلم تشعر الأحزاب اليسارية بحاجة إلى إعادة النظر في مبادئها السياسية أو حتى تفهم النقد الموجه للستالينية من قبل اليسار الأوربي. فقد كانت لديهم مشاكل أهم: فالمؤسسة العسكرية استولت على السلطة في عام 1980 مما أدى إلى الإنهاء الفعلي لكافة الأحزاب اليسارية في البلاد(الكردية والتركية على حد سواء). فالبالغون في الثمانينيات لم يجدوا أية تنظيميات سياسية حيث يمكنهم أن يحصلوا على تجربتهم السياسية الأولى، وبالتالي تربى جيل غير مسيس بالكامل. ولكن كانت هناك حالتان استثنائيتان: فالتطرف الإسلامي كأسلوب وليس كحركة منظمة اجتذبت الكثير من الشباب الساخطين على النظام القائم. وكان هناك أيضا البديل الأخطر PKK الذي أصبح أنجح حركة راديكالية معارضة في تاريخ الجمهورية التركية.
ترجع جذور PKK إلى الحركة الطلابية اليسارية في أوائل السبعينيات [من القرن الماضي] وتعتمد إيدولوجيته على صيغة غير متطورة من الماركسية-اللينينية حيث تم استبدال مصطلح الأمة المضطهَدة بالبروليتاريا المضطهَدة. وعلى خلاف الأحزاب الكردية الأخرى، تمكن من الحصول على اتباع أقوياء من بين طبقات المجتمع الكردي الأكثر فقرا واضطهاداً. وكان هو التنظيم الوحيد الذي لم تستطع الآلة العسكرية أن تمحقه بحكم انضباطه الشديد وتنظيمه القوي واستعداد أعضائه لتحمل العنف القوي. فقدرته على مجرد البقاء ونجاح دعايته المثيرة للإعجاب في حرب العصابات المتصاعدة منذ عام 1984،جعل الPKK يستحوذ على الإعجاب رغم أنف الكثيرين من الكرد الذين عارضوه في البداية لأسباب متعددة. PKK هو الحركة غير الحكومية الأكثر تنظيما في تركيا وكردستان، ويستفيد بشكل فعال من وجود جاليات كبيرة من الكرد في أوربا الغربية ولكنه في الوقت نفسه يقيم علاقات دبلوماسية ناجحة مع الكثير من الحكومات التي تكون على خلاف مع تركيا.
ورغم أن ال PKK لم يتنكر لمبادئه الماركسية-اللينينية أبداً، فإنه أصبح يساند قضايا الجماهير أكثر من أن يكون جماهيرياً. وفي مؤتمره الرابع الذي عُقد في عام 1986غيّر موقفه من الدين إذ كان في السابق، مثل كافة التنظيمات اليسارية، معارضاً بشدة لكل الأديان، ولكن في لحظة انتقاد هامة للذات اعترف الحزب بأن هذا الموقف قد أبعده عن قطاع واسع من سكان القرى. واعتباراً من تلك اللحظة لم يتوقف PKK عن الهجوم على الدين فحسب، بل بدأ يتودد أيضا إلى الدوائر الدينية السنية لدرجة أنه استبعد الكثير من الأكراد الإيزيديين والعلويين عن صفوفه. وفي مسعى منه لأن يكون كل شيء بالنسبة لكل الرجال (والنساء!)، أعلن عن قيام وحداته الخاصة من الإيزيديين والعلويين. والمؤشر على كيفية استبدال الهوية الدينية بالاشتراكية كخطاب قائد في السياسة الكردية هو البرلمان الكردي في المنفى الذي تأسس عام 1995 بإيحاء واضح من PKK والذي يضم عناصر الحزب إضافة إلى ممثلي الجماعات السنية المختلفة (مسلمون سنة، علويون، إيزيدون ومسيحيون سريان) ولكن لا أحد من النقابات العمالية(الجماهير الكادحة) أو الاتحادات الاشتراكية.
تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا… ومشكلة أكراد تركيا
وحدة الأراضي التركية هو الهاجس الأول لساسة تركيا وقادتها العسكريين فالدولة-رغم كل شيء- وليدة الصراع ضد الأعداء الذين كانوا يقطعون ما تبقى من الامبراطورية العثمانية. وبدا أن انهيار الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا قد جلب ما كان غير قابل للتفكير فيه إلى نطاق الممكن. غير أنهما لم تكونا سابقتين خطيرتين بالنسبة لتركيا حيث كانت الدولتان فدراليتان والحدود بين الدول الفدرالية بقيت دون تغيير. ولكن حالة الشيشان والبوسنة تتعلق أكثر بموقف تركيا حيث التشابه مع موقف الكرد في تركيا أكثر وضوحا. إن البوسنة لم تخلق أبدا مشاكل للسلطات التركية فالانفصاليون هناك كانوا من الصرب المسيحيين الذين لم يكن هناك أي تعاطف معهم بين المسلمين في كل مكان. فلا أحد من القادة الكرد يريد أن يقارن ب (كرازيدتش أو ملاديتش) ولم يوجه النقد أبداً لدعم تركيا الرسمي لبوسنة موحدة.
أما الشيشان فالوضع مختلف تماماً. فالرأي العام التركي يبدي تعاطفاً قوياً مع الشيشان في نضالهم للاستقلال عن روسيا. والأرهابيون الشيشان أبطال بنظر الأتراك، ومطالبة الشيشان بالحكم الذاتي أو أكثر يبدو مقبولاً تماماً. ويبدو أن التشابه الكبير بين المطالب الشيشانية وطريقة النضال من جهة ومطالب PKK وطريقة نضالهم تغيب عن بال معظم الناس في تركيا (ولكن ليس عن بال الكرد طبعاً). إن التحامل الروسي على الشيشان باعتبارهم أعضاء في المافيا يجد شبيها كبيراً له في نظرة الكثير من الأتراك في الغرب. واستغاثة الشيشان بالشيخ شامل لمقاومة الجيوش القيصرية يجد نظيره في إعادة التقييم الإيجابي لثورة الشيخ سعيد ضد تركيا الكمالية التي كان للحركة الكردية في السبعينيات موقفا متناقضاً منها بسبب مظاهرها الدينية و”الإقطاعية”. ومهما كان الحل النهائي الروسي لمشكلة الشيشان، فسيكون له تأثيراً قوياً.
لا بد من ذكر تشابه آخر وأخير: وهو أن كلا من الشيشان وكردستان تقعان في مناطق مرور نفط بحر القزوين. والتنافس بين روسيا وتركيا اللتان ترغبان في مرور أنابيب النفط الجديدة عبر أراضيهما قد تم تسويته في الوقت الحاضر بأن يكون لكل منهما خط أنابيها. ولكن الخط الحالي سوف يُحدَّث قريباً ويمر من نوفوروسيسك على البحر الأسود عبر الشيشان، وهو يُعتبر السبب الأهم الذي يجعل روسيا تتمسك بهذه المنطقة. وتنوي تركيا أن تنقل النفط الذي سيصل إليها من الخط الجديد عبر جورجيا إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط.[1]