عامودا حاضرة الکردايتي والثقافة
محمد زکي أوسي
عامودا اسمها التاريخي الأقدم (داري), يعود نشوء عامودا کقرية صغيرة إلی أواسط القرن الثامن عشر, حينما توجه برکو (الضيعة الکردية من برکات) من کَري عامودي الواقع حالياً في شمال کردستان, حيث قطعت اتفاقية سايکس – بيکو – سازانوف أوصال کردستان بدايات القرن العشرين, لينی أول بيت بناءً علی تعليمات (اسماعيل آغا الدقوري) وهو الجد السادس ڵال الدقوري زعماء قبيلة (دقورا) المقيمين بصورة أساسية في عامودا وقراها بقصد انشاء مزرعة للخضروات, وبمرور الزمن استقطب الموقع الجديد الدقوريين, لتتحول عامودا إلی قرية کبيرة ثم بلدة, وتطورت أکثر حتی وصل عدد ساکنيها إلی (70) عائلة في أواسط القرن (19) حيث حولها العثمانيون إلی مرکز ناحية, وفي حزيران من عام (1926)م. جعلها الفرنسيون أيضاً مرکز ناحية بناءً علی قرارات مؤتمر الدرباسية الأمني الفرنسي – الترکي, في إطار اتفاقية أنقرة الثانية التي سمحت للفرنسيين بإقامة مراکز عسکرية لهم في الدرباسية وعامودا حيث کانتا ضمن حدود شمال کردستان ولم تلحقا بسورية بعد, ومعروف الجزء الکردستاني الجنوبي الغربي ألحق بسورية بموجب اتفاقيات أنقرة الثلاثة (تشرين الأول عام 1920 وما تلاه وحتی عام 1929م).
أهمية عامودا التاريخية والجغرافية: ذکر العلامة محمود اڵالوجي (1802- 1854م.) في کتابه (نشوة المرام في العودة إلی دار السلام) اسم عامودا, حيث زارها عام (1851م) وقال: فيها 70 بيتاً ومسجداً واحداً ومعنی هذا أنها کانت قرية عامرة قبل قرن ونصف, وفي وسطها يمر نهر الخنزير غالباً ما يجف صيفاً, ومن المؤشرات الحضارية فيها وجود تلال أثرية منها تل عامودا – کَري موزان – شاغر بازار – شرمولا, وهي مناطق حضارية قديمة مأهولة بأجداد الکُرد منذ أکثر من ثلاثة آلاف سنة, في العهد العثماني کانت تتبع ولاية ماردين, وبعد دخول الفرنسيين إليها (1924م) جعلوها مرکز ناحية تتبعها (160) قرية تتبع قضاء قامشلو, مساحة البلدة 1 کلم2 وعدد سکانها يزيد علی (50000) نسمة, وهي کُردية صرف وهذا ما عّرضها للإهمال منذ القديم وحتی اڵان, وهي عقدة مواصلات مهمة حيث تتوسط شرق کُردستان سورية وغربها وکذلک شمالها وجنوبها وتشتهر بزراعة القطن والحبوب والبقوليات والخضروات والتجارة وتربية الماشية إلی جانب شهرتها الصناعية مثل الحدادة – الميکانيک – الخراطة والعتوية وتعديل وتطوير اڵالات الزراعية الحديثة وغير ذلک..
دور عامودا في الثقافة والوعي القومي الکُردي: لعبت عامودا ونواحيها دوراً متميزاً جداً في نشر الوعي القومي الکُردي, سواءً في عهد جمعية خويبون أو أثناء وبعد تأسيس البارتي عام (1957م, وهنا لا بد من التنويه بدور الحُجر والکتاتيب الملحقة بالجوامع والتي تأسست عام (1918م) في نشر العلم والوعي علی أيدي مجموعة من مشاهير العلماء مثل المرحوم الملا (عبد الله سيدا) المتوفي عام (1929م) والملا فتح الله سيدا وغيرهما, وقد درس علی أيدي هؤلاء کثير من الشخصيات التي لعبت دوراً قومياً بارزاً وفي مقدمتهم المرحوم الشاعر الکبير جکر خوين والملا عبد اللطيف وملا علي من قرية توبز وملا شيخموس قرقاتي, وقد تأسست فيها أول فرقة کشفية کُردية براعية المرحوم جکرخوين ودارت فيها صراعات قوية بين دعاة الوعي والقومية الکرُدية والمتحجرين من ڕجال الدين الذين اتهموا القوميين الُکرد من جمعية خويبون واڵاخرين بالکفر والإلحاد, ولکن بقيت عامودا دائماً في المقدمة تجمل لواء النضال والتضحية في سبيل الحقوق القومية للشعب الکردي.
انتفاضة عامودا 1937م.: أولاً الوع السياسي: دخلت فرنسا عامودا في حزيران (1924م) وجعلوا منها ناحية تتبعها (160) قرية مرتبطة بقضاء قامشلو کما ذکرنا, وفي بدايات ثلاثينات القرن العشرين ظهرت الحرکة الکُردية علی الساحة کقوة سياسية ڕداً علی السياسات الفرنسية التي حاولت التقرب من القوميين العرب وسمحوا للمؤسسات السياسية العربية بالعمل علی الساحة, واتفقت مع ترکيا علی تقطيع أوصال شمال کُردستان بموجب اتفاقيات أنقرة منذ (تشرين الأول 1920م) وحتی عام (1929م) حيث ضُمَت آخر أجزاء جنوب غرب کُردستان بسورية (منطقة منقار البط) أقصی شمال شرق سورية, مما أثار تزمر الکُرد منذ ڕبيع عام (1933م) و ظهرت بوادر هذا التزمر علی شکل الاقتتال الُکردي – الکُردي موالين لفرنسا ومعارضين لها, وکذلک من خلال استياء الکُرد الايزديين الذين لجأوا إلی سورية اثر قمع اتفاضة الثائر الکُردي الإيزدي داودي داود في جنوب کُردستان والذين عادوا إلی موطنهم جراء ذلک عام (1936م).
في عام (1936م) أقامت فرنسا حکومة قومية عربية مرکزية في دمشق, ودعمت حکماً ذاتياً للأقليات في مواطنها (الدروز نموذجاً) وهذا أثار شعور الخيبة لدی الکُرد الذين کانوا يطالبون بدورهم بحکم إداري ذاتي في مناطقهم أسوة بغيرهم, وأحسوا أنهم أصبحوا تحت الهيمنة العربية, فقامت انتفاضات في مناطقهم أشهرها انتفاضة عامودا عام (1937م).
أحداث سبقت الانتفاضة (طوشة عامودا): اضطربت الأوضاع في الجزيرة علی أرضية النزاع بين الکُرد والعرب من قبيلة طي وممن والاهم من السريان, ولوحظ نشاط کُردي محموم, فقسم من الکُرد ومعهم أکثرية مسيحية وبدعم فرنسي طالبوا بإدارة ذاتية, وقسم آخر من الکُرد تزعمهم مصطفی بک شاهين وقفوا ضد الفکرة وأظهروا ولاءهم لحزب الکتلة الوطنية صاحب الأکثرية النيابية, وتصاعدت الاستفزازات في أواخر تموز (1937م) بين الکُرد والفوج الکلدو اڵاشوري المدعوم فرنسياً وزاد التوتر أکثر نتيجة للفتن التي أثارتها فرنسا حتی صارت عامودا علی صفيح من نار, مما حدا بنحو خمسين عائلة مسيحية للهجرة إلی الحسکة والقامشلي, فتدخل الفرنسييون ضد الکُرد الذين ڕدوا عليهم بالمثل (28/7/1937م) کما يقول جکرخوين, بعد ذلک وصلت من دمشق إلی الحسکة لجنة للتحقيق في الأحداث, ولکن الاصطدام الذي حصل بين الکُرد المحسوبين علی التيار الوطني السورية يقودهم سعيد آغا الدقوري (دقورا) وشيخموس ه سو (کابارا) وعيسی عبد الکريم (ملان خضر) من طرف وعملاء فرنسا من طرف آخر, أدی إلی فشل اللجنة وجُرح اثنتان من أعضائها وعادت إلی دمشق کما يقول المرحوم الأستاذ محمد ملا أحمد توژ في کتابه (القضية الکُردية), ولما أرسلت الإدارة الفرنسية في قامشلو الکابتن (مابر) إلی عامودا للتحقيق في الأحداث لکنه فشل نظراً لتعرض سيارته لنيران الثائرين الکُرد في (9/آب/1937م) کم يقول الصحفي الفرنسي (مارسيل أوميه).
الأنتفاضة (طوشة عامودا): انعدمت الثقة بي الوطنيين من الکُرد وفرنسا والمتعاونين معها, فرنسا کانت تسعی جاهدة لإقامة شبه دويلة في الجزيرة, لذلک حرضت علی تهجير معظم مسيحيي ترکيا إلی الجزيرة وهذا أثار مخاوف الوطنيين يقودهم سعيد آغا الدقوري الذي سافر (1936م) إلی دمشق وعرض الأمر علی قيادة الکتلة الوطنية فبارکت جهوده وبعد عودته إلی عامودا زاره ضابطان فرنسييان في بيته مع المترجم (جاک شماه) وطلبا منه الانضمام إلی الموقف الفرنسي ولکنه ڕد قائلاً: (إني ڕجل سوري وطني) فکان ڕد الضابطين: إن سعيد ڕجل شقي وسيری ما سيحدث له في الأيام القادمة. في عام 1937م قبيل الأحداث سافر سعيد آغا ثانية إلی دمشق ومعه الحاج يونس الحسو وسليمان حاج سعدون بشلأن خاص ولدی عودتهم علموا في دير الزور بأن الفرنسيين يثيرون الفتنة وأن عامودا تغلي, فما کان من سعيد آغا ورفيقيه إلا العودة عن طريق صحراوي إلی معبر أم الدبس علی الخابور ودخول عامودا عن طريق قرية الجوهرية غرباً ب /4/ کم, لتبدأ المعرکة في (28/7/1937م) بمدينة عامودا بين الحي الوطني والحي العسکري (عملاء فرنسا) تدعمهم فرنسا بفرقة من الخيالة وقصف بالطيران (خمس طائرات) والدبابات علی البلدة الثائرة, ولم يتردد الکُرد المعروفون ببأسهم في الرد علی الهجوم, وبتطور الأحداث انقسم الصف الُکردي بين مؤيد للهجوم وآخر معارض, حيث هبت مجموعات کُردية مثل عشيرة (الميرسينيان) يقودها (عبدي خلو آغا) وبعض من (ملّان خضر) يقودهم (نواف آغا), للدفاع عن سکان الحي العسکري من المسيحيين وقاموا باجلائهم إلی قريتي حاصدي فوقاني وتوبز وما إن سمع الدقوريون بالأمر حتی اشتدت المعرکة, وهاجمو الحي العسکري وقتلوا من ساکنيه ومن الفرنسيين /24/ مقاتلاً, وهنا التزم الأرمن الحياد التام کما بيّن الخوري کورين ناشيد جيان وکيل الأرمن في الجزيرة, أما اڵاشورييون فقد ڕفضوا بشکل مطلق التورط في الأحداث.
نتائج طوشة عامودا: في البداية تمکن الثوار من دحر الفرنسيين وعملائهم, فبدأت االطائرات والدبابات والمدفعية الفرنسية تقصف عامودا وقراها بمنتهی الوحشية وطلب المستشار الفرنسي في قامشلو ارسال تعزيزات عسکرية من دمشق لاخماد الانتفاضة وکان له ذلک وقد استشهد في أول غارة (32) وکانت الخسائر المادية کبيرة جداً في المدينة وقراها, أما مجموع الشهداء فقد بلغ (150) شهيداً وأکثر ودمرت عامودا البطلة ڕغم البسالة التي أظهرها أهلها نظراً للفارق الکبير بين العدد والعدة, أما قائد الانتفاضة سعيد آغا الدقوري فذهب مع مناصريه إلی ترکيا ولما ڕأی النوايا الترکية خبيثة لجأ إلی العراق وبقي هناک خمس سنوات ليعود عام (1942م) معززاً مکرماً إلی الوطن بعد دفاع عشائر الدقورية عنه في الجزيرة والشام وتوسطهم لدی السلطات الصالحة يقودهم آل شمدين آغا الدقوري, وانتخب سعيد آغا الدقوري نائباً في البرلمان ممثلاً عن الجزيرة في خريف عام(1944م) بالتعاون مع ڕفاقه من قبائل الملية (عيسی آغا عبد الکريم) والحاج سعدون وطاهر حسو وغيرهم أمثال الشيخ جميل المسلط (الجبور) والشيخ دهام الهادي (شمّر) ولا ننسی إلی أنه خلال الأحداث تم طرد مُديري ناحيتي عامودا والدرباسية وبذلک أخليت الجزيرة من العناصر الوطنية السورية, واتخذت السلطات الفرنسية اجراءات تعسفية ضد الکُرد عموماً ومثقفيهم خصوصاً الوطنيين وقبضت علی أکثر من عشرة منهم وساقتهم إلی سجون دمشق وتدمر ومن بينهم المهندس المرحوم عارف عباس الذي کان يسکن وقتها مدينة ديريک کما يقول الدکتور نور الدين زازا ڕحمه الله.
ڕأيان في أسباب الانتفاضة والأحداث:
الرأي الأول: ارسال الشيخ دهام الهادي وفداً إلی دمشق أثناء الأحداث وعاد الوفد يوم (25/7/1937م),حاملاً المال والسلاح, وعندها دعا الشيخ دهام إلی الجهاد المقدس ضد الفرنسيين في کلٍ من قامشلو والحسکة ثم الحي العسکري الموالي لفرنسا في عامودا وقتل منهم /24/ شخصاً.
أما الشيخ سليم الحسيني فيقول: قبل الطوشة أغارت طائرات فرنسية علی قری عامودا (بريفا- تل حبش – تل خنزير – سنجق خليل – قرة قوب تحتاني) فاستشهد عدد من المواطنين وجُرح آخرون وأُلحق أضرار مادية بالغة بالسکان, وفرَّ کل أهالي عامودا إلی الحدود الترکية وقسم من الوطنيين وصلوا العراق مثل آل الدقوري (سعيد – عبد الهادي – عبد الرحمن شکري) والسبب المباشر لضرب عامودا وقراها يکمن في تحطيم إرادة الوطنيين, ودعم العملاء لإحکام السيطرة, واستمرت المعارک ثلاثة أيام وأحرقت عامودا وقراها وتعرضت البيوت للسلب والنهب وقُتل کلٌّ من خلو زند بالشي – وملا داوود – وخليل العلي وعندها تمکن أهالي بريفا من حجز المستشار الفرنسي, ومن ثم تم اعتقال کلٌّ من مجيد شيخموس وسليمان عبدو وسُجنا في القلعة بدمشق, واشترط الفرنسيون علی عودة أهالي عامودا إلی بيوتهم تقديم بندقية حربية عن کل فرد وقف ضد الفرنسيين, وبقيت الحالة هکذا ولم يهادن أهالي عامودا الفرنسيين حتی کان الجلاء في نيسان عام 1946م. کما يقول الباحث الشيخ سليم الحسيني.
الرأي الثاني: منذ عام 1922م. حاول الفرنسيون ترسيخ نفوذهم في عامودا فمنِعوا, وحاولوا ثانية بحجة بناء مخفر للدرک السوري, فوافق أهالي عامودا شريطة أن يکون جميع الدرک في المخفر سوريين فرضخت فرنسا للأمر, في عام 1924م. تشکلت حرکة وطنية يقودها زعيم قبيلة دقوري (سعيد آغا) اثر مقتل الضابط الفرنسي (روغان) في معرکة بياندور واتصلت قيادة الحرکة بزعماء الکتلة الوطنية مثل القوتلي – جميل مردم بک – سعد الله الجابري – فخري البارودي – وجری التنسيق بين الطرفين, وانضم إلی الحرکة الوطنية کل من قبيلة الکيکية (عيسی الرستام) والملية (عيسی عبد الکريم) والتمکة (حسين أسعد) ورداً علی هذا شکلت فرنسا جيشاً من عملائها تدعمه قوات الهاجانا الفرنسية ودارت معرکة حامية اثر هجوم هذا الجيش قری جولي وتل حبش وذو الفقار وکان الناس صائمين, وانتهت المعرکة بدحر المهاجمين وقد استشهد (12) ثائراً ومن بينهم (عبدي حاج يونس – علي حاج قاسم – شيخموس سعدي شيخموس محمد الهنو – سليمان العيشو – حمي حسو المحمد) وهنا انتقلت قيادة الانتفاضة إلی الحدود الترکية ومن ثم داخل ترکية ثم إلی العراق کما أشرنا ليعودوا إلی الوطن عام 1942م. بعد خمس سنوات من المعاناة.[1]