فيلسوف، شاعر، زعيم، مشير في الجيش العثماني، خياط وأستاذ نابغه مريدوه ينتشرون في عموم کوردستان ومنهم الرئيس العراقي جەلال طالباني، قسمهم الى درجات يحظى البروفيسور المعروف جمال نبز بصفة الخليفة والمعتمد الأول ويليه المبشرين السبعة ويدعي البروفيسور عزالدين مصطفى رسول أنه أحدهم غير أن اڵاخرين يزعمون أن بشيرا قد قرر ذات مرة أخراجه من السبعة وأعطائه مرتبة أدني لعصيانه من المبدأ البشيري وخلقه المشاکل للزعيم، من تلامذته مجموعة من ألمع الفلاسفة والکتاب والمؤرخين والأدبا و الکورد نذکر منهم ودون ترتيب المؤرخ والوزير أمين زکي بگ والوزير،العلامة توفيق وهبي بگ والنائب المشهور أمين الرواندوزي والشاعر أسيري والأديب الکبير علا و الدين سجادي صاحب المؤلفات العديدة ومنها تاريخ الأدب الکوردي والمؤوخ حسين حزني موکرياني وفيما بعد شقيقه گيوي موکرياني والمؤرخ ملا جميل روژبياني والشاعر العملاق هژار مهابادي والشهيد الدکتور عەبدولڕەحمان قاسملو الذي کان أستاذا في جامعة بەغداد لفترة والشاعر والحقوقي کامل ژير وأحمد هردي والشاعر المجدد عەبدوڵڵا گوران وحتى پيره ميرد أيضا وقد أوصى أن يدفن بجنبه ولم تتحقق وصيته کما سنأتي على ذلک لاحقا وکذلک الشخصية الفذة معروف جياووک مؤوسس نادي الارتقا و الکوردي ورئيس المحامين المدافعين عن الشقي الکوردي الثائر أبراهيم عبدگه والاديب والسياسي رفيق حلمي زعيم حزب هيوا _ الامل في 1939 و الدکتورين الأخوين أحسان وکمال فؤاد والأخير يحتفظ بمجموعة من الوثائق المهمة باستاذه، وطائفة أخرى من الأٍسما و اللامعة الذين کانوا نجوما متلألئة في سما و الأدب والسياسة ولا يمکن بأي حال أن نجمعهم بقائمة مستقلة واحدة.
للأستاذ مجموعة من المؤلفات المنوعة التي لا تجتمع في باب علمي واحد ومجموعة من القصائد التي تحمل إنتمائات شعرية من مختلف المدارس الشعرية وبعضها تعد من الروائع نشرت في الجرائد والمجلات الکوردية المختلفة في العشرينات والثلاثينات والأربعينيات وحتى الخمسينيات وبداية الستينيات وحسب الدکتور کمال فؤاد يقول أن الاستاذ أذا سأل عن صفته فکان يقول أنا (فيلسوف وشاعر عند الإيجاب).
على ضو و ما سبق يحق لنا وللقارئ أن يقول من هو هذا الاستاذ والفيلسوف والشاعر عند الحاجة وهو في نفس الوقت خياط مشهور في بەغداد کان يحلو له أن يسمي نفسه بصاحب المقص الذهبي !؟
أحتار حتى أقرب مريدي الأستاذ أن يردوا على بعض الأسئلة الجادة عن حياة هذا الرجل وخصوصا ما يتعلق بولادته أو نشأته حتى ظهوره على حين غرة کشخصية فاقت شهرته بەغداد وکوردستان بل کتب عنه کتاب أجانب في برلين وباريس ولندن على صفحات الجرائد والمجلات الصادرة في أوروبا، قبل أيام حمل بريدي رزمة کتب من الاستاذ البروفيسور جمال نبز وفي طي أحد الکتب خصني مشکورا بهدية رائعة وهي عبارة عن قرص ألکتروني مسجل عليه فلم وثائقي فريد من نوعه عن الأستاذ بشير مشير أشترک فيه مجموعة من المريدين الذين لا زالوا على قيد الحياة أدام الله بقائهم وفي الأسطر الباقية سوف نشير إليه فقط بکلمة الأستاذ الذي کان يفضله على باقي الألقاب التي منحوه أياه مريده وبعض المرات کان يضفي علي نفسه صفة من الصفاة على شخصيته.
بما أن أکثر مريدي الاستاذ من السليمانية فيجمعون على أنه من مدينة السليمانية وذلک من فرط حبهم له، ولکن لهجته والمفردات التي نسمعها منهم تفيد على أن الرجل ربما نشأ في المنطقة المحصورة بين کرکوک واربيل في بداية حياته أو أية منطقة أخرى من أعمال لوا و أربيل، واکثر الظن أنه من مواليد السنوات المحصورة ما بين (1800 – 1888)، فيشاع عنه أنه لم يشکف شيئا عن نشأته الأولي سوى بعض الأدعاءات التي کانت من بناة أفکار الأستاذ، مثلا أدعائه بأنه تخرج من کلية الأرکان الحربية في أستانبول وکان يحمل رتبة مشير إبان الحرب العالمية الأولى، أو أنه کان يعمل ربما مهندسا في في مشروع سکک الحديد المشهور (بەغداد – برلين) وکان يتقن اللغة الألمانية ولکنه نسى تلک اللغة فيما بعد کما کان يزعم، ولکن أخيرا تکشف بعض خيوط السيرة نتيجة لهفوات منه وأن کان يتصف بقلة الکلام ولم يکن رجلا ثرثارا کما يتصور البعض الذي لم يزامله ولم يزامنه فمثلا أنه ذات مرة کان يحکي عن نضاله من أجل الکورد قبل الحرب العالمية الأولى وکيف کان يعمل بجد من أجل بنا و الدولة الکوردية لمجموعة من المريدين في محله وبينهم المدرس (البروفيسور (لاحقا) معروف خزندار وقد قال الأستاذ من ضمن ما قال أنه ذهب من طهران الى أسطنبول على ظهر باخرة فقاطعه المسکين خزندار لمرات عديدة قائلا:
أستاذ لا يوجد بحر بين طهران وأسطنبول فکيف سافرت بباخرة !؟
وکان الاستاذ يهمل الاجابة لحين الانتها و من حديثه وعند الانتها و وبخه قائلا:
- أنت حضرتک مدرس ودارس فلماذا لا تفتهم !، ألا تدري أني أتحدث عن أکثر من خمسين سنة خلت ولا أتحدث عن المنطقة اڵان، أخرج ولا تعود الى المحل بعد اڵان !
وهکذا خسر خزندار أهم محفل کوردي (السفارة الکوردية في عاصمة الرشيد کما کان يسميه الاستاذ) ولم يشارک أقرانه في تلک المساجلات والنقاشات والتي کانت تجري في ذلک النادي السياسي والأدبي طيلة حياته.
ومن الهفوات الأخرى التي تفيد هذه السيرة أنه کان متعلقا برجل من أصدقائه يقابله بحمية کلما قابله وأسمه حسن حلمي وفي أحد المرات کان الملا مصطفى صفوة والد البروفيسور عزالدين حاضرا عند لقائهما فسأل الاستاذ:
- أستاذ ربما علاقاتکما نابعة من حبکما للشعر والأدب ؟
فيرد عليه الاستاذ:
- لا ملا أفندي، أضافة الى ذلک کان حسن حلمي زميلا لي في الدراسة !
وبعدئذ يقول الملا صفوت لنجله:
- عزالدين لقد حليت لغزا طالما حاولتم حله فلم تفلحوا أنتم !!
- کيف !؟
تبين لي المستوى الدراسي الحقيقي للأستاذ، حيث أني أعرف حسن حلمي وهو من حينا في السليمانية وأن کان يکبرني بسنوات، فقد کان الرجل شرطيا في العهد العثماني وقد فتحت دورة خاصة لمدة أشهر لتعليم مبادئ القرآءة والکتابة لهؤلا و والناجح من الدورة کان يرتقى درجة اعلي فيصبح من الضبطية (الکورد يسمونها زه فتيه) ما يعادله اليوم (شرطي أول) وبما أن الاستاذ کان زميلا له في الدراسة فأنه لا بد وأن کان معه في تلک الدورة لان حسن حلمي لم يدخل المدرسة سوى إشتراکه في تلک الدورة.
الاستاذ خياطا:
کان الاستاذ يملک محل للخياطة في شارع الحيدرخانة في محل قريب من سوق السراي ببەغداد، وله من الصناع مجموعة من أمهر الخياطين اليهود في بەغداد من بينهم المشهور عاصم فليح المؤوسس الفعلي للشيوعية في العراق قبل أن يعلن عن الحزب الشيوعي العراقي بنحو سنتين، وعليّة القوم وحتى العائلة المالکة في العراق کانوا يفضلون هؤلا و الخياطين على بقية الخياطين في العراق، ولکن هؤلا و أرتقوا وأصبحت لهم محلاتهم الخاصة في بەغداد فيما بعد وثم هجّر اليهود منهم الى أسرائيل في عام 1949 و1951 فلم يعد الاستاذ ذلک الخياط المشهور الذي يتهافت علية القوم على محله رغم الاعلانات الکثيرة له في الصحف وحتى في الکتب والمجلات الصادرة في ذلک الزمان فحول محله الى محل لبيع الکتب الکوردية والصحف بأنواعها، وحتى أعلاناته في الجرائد کانت أعلانات غريبة وفريدة فمثلا کان يکتب (الخياط بشير المشير، خياط عسکري وملکي، صاحب المقص الذهبي ومؤلف کتاب ديوان المصباح ودليل طلاب الحق (سيپاره ي حه قپه رستي) وسعره ست آنات وله تحت الطبع کتاب عجيب وغريب وهکذا کان العنوان يشير الى أنه خياط غير ان التفاصيل تشير الى انه مؤلف وکاتب وأستاذ، وحتى محله في الحيدرخانه کان من ضمن ممتلکات أسرة الچادرجي المعروفة وکان الاستاذ من دون البقية معفيّا من بدل الأيجار ويذکر لنا د. عزالدين طريفة بهذا الصدد حيث يقول أن أسرة الچادرجي وأن کانوا من رواد اليسار العراقي في العهد الملکي فقد کانت لهم نزعة أرستقراطية غريبة ونقلا عن نصير أبن المرحوم کامل الچادرجي يقول أن ابيه طيلة حياته کان يستقبل ضيوفه في الديوان دون أن يقوم بأستقبالهم وتوديعهم حسب العادات الشائعة في المجتمع العراقي وحدث لمرتين فقط أن قام کامل بالتعني للذهاب الى باب المنزل لأستقبال احد ضيوفه وفي المرتين کان الضيف هو الشيخ محمود الحفيد، المرة الاولى عند نفيه من قبل الانگليز الى جزيرة نائية في المحيط الهندي وثم عند عودته من المنفى ثانية (وقد زار کامل الچادرجي البارزاني أيضا عندما کان مقيما في فندق الفردوس وقذ نقله الى مقر البارزاني الصحفي المعروف حافظ قاضي بسيارته الشخصية وقد دون القاضي المعلومة في مذکراته في الصفحات 86 و87 و88)، رغم هذا يضيف الدکتور عزالدين أن رؤوف الچادرجي عميد تلک الأسرة عند نزوله الى شارع الرشيد کان يأتي لمحل الاستاذ يصافحه من دون الناس ويمضي وهذا سر آخر من أسرار هذه الشخصية العجيبة التي نحن بصددها.
يقول الدکتور جمال نبز وهو أقرب الناس من قلب الأستاذ أن مکتبة الاستاذ لم تکن کبقية المکتبات لا في العراق ولا في أي مکان آخر في العالم، فالمکتبات في کل مکان عادة تتعامل مع المؤلفين ودور النشر على أساس الربح والمصلحة المشترکة بين الناشر وصاحب المکتبة ولکن الاستاذ يعتبر کل ما يصله من کتب ومجلات وصحف ملکا له ولا يجوز أعطا و أصحابها (عانة واحدة) وکان الجميع يفقه الاستاذ وبالتالي لم يحاسبوه لا في أول الشهر ولا في آخر الشهر وطبعا هذه الصفة من الاستاذ لا تعني بأي شکل من الأشکال بانه رجل طماع ومستغل أو أي شئ آخر، لا بل کان کريم الطبع ويده ممدودة لڵاخر ولکنه کان يعتبر تصرفه هذا هو الصحيح ولا يمکن مناقشته أبدا، غير أن گيوي موکرياني وهو أديب وصاحب مطبعة في أربيل لم يکن يعرف طبيعة الأستاذ وإن کان الاستاذ قد زامل شقيق گيو الأکبر المؤرخ حسين حزني موکرياني لسنوات عديدة حيث کان الأخير يصدر مجلة زاري کرمانجي في عشرينات القرن المنصرم وکان هو التالي بشيري الهوى، فحدث أن گيوا قد بعث لشهور عديدة مطبوعاته الى بەغداد وکان يوصي بإيداعها لدى الاستاذ وقد زار بەغداد وکان في طريقه الى محل الاستاذ لکي يتحاسبوا حول مبيعات الکتب ويأخذ کل ذي حق منهما حقه وقبل وصوله لمحل الاستاذ صادف وأن ألتقاه جمال نبز وعرف منه قصد زيارته للأستاذ فنصحه کثيرا أن لا يفتح الموضوع مع الاستاذ فکان کلما ينصحه يزيد گيو دهشة ويلح لماذالا أحاسبه !؟، الحساب والمحاسبة حق ولا بد منه، على أيّ حال يذهب الى الاستاذ وما أن يفاتحه حول الموضوع حتى تثار ثائرة الاستاذ:
- حقا أنک رجل عجيب الأطوار يا گيو، بدلا أن تشکرني على بيعي لکتبک تأتيني وتطلب المال مني، لأول مرة أشاهد رجل مثلک، فيفهم الرجل طبيعة الرجل تماما ويقفل عائدا الى أربيل وهو يحمل شارة البشيرستية من يومه الى مماته وکان کلما يطبع کتابا في مطبعته يرسل حصة الاستاذ الکاملة مع رسالة شکر دون أن ينتظر منه حسابا ولا هم يحزنون.
خطب الأستاذ تثير أعجاب الناس:
شارک الاستاذ في الکثير من المناسبات وکانت خطبه مثار أعجاب الحضور، مرة دعي الأستاذ الى مناسبة في نادي الأرتقا و الکوردي ورئيسه الشخصية المعروفة معروف جياووک وکان على الأستاذ أن يلقي کلمة في تلک المناسبة، فما کان عليه الا وأن يفاتح تلميذه جمال نبز الأقرب الى فکره ونظرته الى السياسة والفکر أن يکتب له الکلمة دون أن يعطيه حتى الخطوط الاساسية للکلمة وکالعادة ودون نقاش وتردد وما شابه يذعن التلميذ لأمر الاستاذ ويکتب له کلمة في غاية الأتقان، في يوم المناسبة يقول الاستاذ للتلميذ أذهب وقل لهم أن الاستاذ يعاني من ألم في يده ويعتذر عن تقديم الکلمة وعلي تقديم الکلمة إنابة فيفعل نبز ما قاله الأستاذ، ومن يدير المناسبة کان المطرب والمسرحي الفنان رفيق چالاک فيطنب في وصف الاستاذ عندما يحين دوره وهو أيضا بشيري الهوى ويتقدم نبز فيلقي الکلمة وسط تصفيق الحاضرين وما أن ينهي من إلقا و الکلمة حتي يعود ليجلس بجنب الاستاذ فيلتفت إليه الاستاذ وهو لم يزل مذهولا بإعجاب الناس لصدى کلمته الرنانة فيسأل نبز:
- ها، ما رأيک بکلمتي في المناسبة !؟
- أحسنت أستاذ، سلمت يدک وعاش يراعک.
- شکرا.. أن قلمي قوي حقا !
وهنالک قصص أخرى بطلها الأستاذ ومنفذها نبز، فيقول الدکتور کمال فؤاد ويؤيده الدکتور عزالدين على أن شخصية کوردية من بەغداد کان عقيد متقاعد وأسمه محمد علي کان يحتفظ بمخطوطات لشعرا و کورد وکان حاضرا في محل الاستاذ وکان يقول بأنه أعطى ديوان الشاعر الفلاني للشخص الفلاني فطبع ديوانه وما أن يسمع الاستاذ بهذه الکنوز حتى يقول:
(ئه مين)، وأنا ؟
فيفهم الشخص الأشارة ويقول حسنا سأعطيک ديوان الشاعر حاجي قادر کويي وبأمکانک تدقيقه وتحقيقه وکتابة مقدمة له وثم طبعه.
فيأتي بالمخطوط ويسلمه للأستاذ وما على الاستاذ الا ويأمر جمال نبز بکتابة مقدمة للديوان ويصادف أن يکون گيوي موکرياني حاضرا في المجلس. فينکب نبز على کتابة المقدمة وبين حين وحين يأتيه الأستاذ قائلا له:
أريد أن تکون المقدمة قوية ومعبرة لأن (ذاتا) قوة المؤلف تکمن في قوة المقدمة !
ولکن يشا و القدر أن لا يرى ذلک المجهود النور ويبدو أن گيو موکرياني الذي علم بالمشروع سارع بالعودة الى أربيل وحصل على نسخة أخرى من ديوان الشاعر وطبعه في مطبعته التي ورثها من شقيقه حسين حزني موکرياني (وهي نفس المطبعة التي جلبها حزني من الشام الى رواندوز وتم نقلها أخيرا الى أربيل وکانت الحروف بدائية حفرها حزني بنفسه وهو شخص عديد المواهب حقا) وما أن علم الأستاذ بأمر أنتشار الديوان في السوق حتى ثارت ثائرته وأنصب معاتبا موکرياني وقال:
أنه علم بأمر کتابي حتى سبقني في طبع الديوان، ولکن صحبه سهلوا من هول المصيبة وقالوا له:
- يا أستاذ کتابک لا يشبه کتابه فکتابک أقوى وفيه مقدمة غير ان کتاب گيو بلا مقدمة، تريث حتى تباع نسخ موکرياني وأطبع کتابک بعده، ولکن الاستاذ لم يقتنع بالامر ويودع کتابه في صندوق العجائب الذي کان يحفظ فيه کل أسراره ولم يطلع عليه أحدا سواه وحتى قال لورثته أن لا يفتحه أحدا بعد موته الا عندما يحضر جمال نبز المقيم في المانيا بنفسه ويفتحه.
الاستاذ يتحدى الحکم الملکي ويقف بوجه سعيد قزاز:
من لا يعرف وزير داخلية العراق سعيد قزاز !؟
أنه أحد أصلب وزرا و الداخلية في العراق وأصرمهم، فقد کان صلبا حتى في لحظة أعدامه، وعندما نُطقَ بحکم الإعدام بحقه من قبل محکمة العقيد فاضل عباس المهداوي (محکمة الشعب) قال کلمته المشهور (لي الشرف أن أتعلق عاليا ويبقى تحتي أناس لا يستحقون الحياة)، ومعلوم کما أسلفنا أن الاستاذ بشير لا يحسب لکائن من يکون حسابا، وهو يمضي على کل ما يکتب بأسمه ويرمي (أمضائه کما کان يقول) على کل ما يکتب له دون حساب عواقب الأمور، وقد تم نشر الکثير من المقالات التي تهاجم الحکومة بجرأة باسمه الصريح، هذا ما أزعج الحکومة ودعى سعيد قزاز أن يأتي ذات مسا و بنفسه الى محل خياطة الأستاذ، فيقول الاستاذ جمال نبز وقد کان حاضرا ويحکي بصفته شاهد عيان لما جرى حرفيا في تلک الأمسية:
کانت الساعة تشير الى حدود العاشرة وکنا قد بقينا کلانا، الأستاذ وأنا في محله ونحن على وشک أن نقفل المحل والأنصراف (پايدوست) وأذا بسيارة شوفليه سودا و ترکن قرب المحل وشاهدت سعيد بيگ قزاز وزير داخلية العراق يرافقه السائق فقط، نزل وبدون مقدمات توجه الى الأستاذ ويبدو أن سابق معرفة يربطهما:
(أوسطة بشير ما هذا الذي تنشره ضد الحکومة، قل لي من يکتب لک هذه الترهات !؟).
وأنا أراقب الوضع عن کثب (والکلام للأستاذ نبز) رأيت الأستاذ وقد تلبدت أساريره وبدأت شفتاه ترتجف من حدة العصبية فرد على سعيد بيگ وانا أعرف ما الذي أثاره، حتما کلمتان من سعيد قزاز، أما الأول فهي کلمة (أوسطة) وهي من الخطوط الحمرا و لدى الأستاذ فهو الأستاذ والفيلسوف صاحب المؤلفات القيمة ويشار إليه بالبنان فکيف به وهو يسمع کلمة (أوسطة) والثانية طبيعة سؤال البيگ بصيغة (من يکتب لک !؟)، فرد عليه الأستاذ بحدة:
- ما هذا الذي تقوله يا سعيد بيگ ؟
ألا تخجل، أنا قلمي قوي ولا أحدا يکتب لي، وثم أنا أکتب ضد الحکومة لأنها قوّادة، فلتتخلى الحکومة من القوادة کي لا أکتب ضدها بقلمي القوي، ألا سألت نفسک يا سعيد بيگ، لماذا لا أکتب ضدک وأکتب ضد الحکومة !؟
فما کان من الوزير الا أن يهدأ لأنه جابه من هو أصلب عودا منه فمد يده الى جيبه وأخرج عملة ورقية وأشترى شيئا من السکائر مع فرشاة أسنان من الأستاذ وهو يردد:
- طيب.. طيب، أستاذ أکتب ما تشا و ضد الحکومة ولا تکتب ضدي.
فأخذ الاستاذ منه ثمن السکائر دون أن يعطيه الباقي طبعا وهو يقول:
لا سعيد بيگ.. کيف أکتب ضدک، أنا قلمي قوي.
وأنتهى کل شئ بين الحکومة والأستاذ.
صراع على الأستاذ بين الحزب الشيوعي والپارتي:
کان الصراع والحرب الباردة على أشدها بين القوميين والحزب الديمقراطي الکوردستاني من جهة والحزب الشيوعي العراقي من جهة أخرى، ولکن تحت مظلة الأستاذ تتحول الحرب الباردة الى نقاشات هادئة وتبادل الود والأبتسامة البريئة، فقد کان هنالک کما مر نادي الأرتقا و الکوردي وکانت النية متجهة الى أنتخاب هيئة أدارية جديدة للنادي وکانت کفة الشيوعيين أعلى لأن أکثر أعضا و النادي کانوا من الکورد الفيلية والغالبية من الفيلية کانوا ضمن اليسار العراقي کما يقول الدکتور کمال فؤاد في الفلم الوثائقي الذي بين يدي اڵان ولهذا کان القوميين الکورد يحاولون بشتى الوسائل تأخير عملية الأنتخاب لئلا يفوز الشيوعيين بمجلس الأدارة ويتحول النادي الى مؤوسسة عراقية عامة کباقي المؤسسات ولا يکون في خدمة الکورد مثلما کان سابقا، وقد کان محل الاستاذ هو المحل الذي يجري فيه کل النقاشات والجدل حول ذلک الموضوع فيقترحون الأقتراح بعد الأقتراح دون التوصل الى نتيجة مرضية، وذات مرة طَلِبْ من الأستاذ أن يدلي بدلوه بالموضوع، فقال:
- أنتم لا تملکون الحل، فأن أقتراحي هو أن يتسنم المستقلين مجلس إدارة النادي.
- کيف ؟ وهل لديک أسما و تستحق ملئ المناصب ؟ سأل الحاضرون،
- نعم..
- من هم يا استاذ ؟
أولا، إبراهيم أحمد (وکان سکرتيرا للحزب الديمقراطي الکوردستاني آنئذ)
فقال الحاضرون، نعم فهو مستقل حقا !! والثاني:
الثاني.. هو ذاک الأصلع (ذکروني باسمه) أبن الشيخ نوري وکان يقصد بها و الدين نوري الذي کان عضوا في المکتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي !
أما الثالث، سأل الحاضرون ؟
الثالث (ئه مين) أنا. وأبوکم الله يرحمه.
على أي حال هکذا کان الاستاذ يأتي بأقتراحاته دون أن يعارضه أحدا.
في عهد الجمهورية زرع البعض من المترددين على محله شيئا في ذاکرته وهو أن وزارة جديدة سوف تنبثق وأنک يا أستاذ ستکون ضمن التشکيلة، فبقى الاستاذ ولمدة شهر و شغله الشاغل أخبار الوزارة ومن هم هم زملائه الوزرا و يا ترى، الى أن أعلنت الوزارة فتفاجأ بعدم ورود أٍسمه في التشکيلة، فجن جنونه ولم يجرأ أحدا أن يقترب من المحل لفترة خوفا من ردود الفعل، فأستغل الاستاذ عزالدين مصطفى رسول الفرصة وذهب خلسة الى المحل وبعد مقدمة قصيرة قال له:
- أستاذ ألا تدري من هو العائق أما عدم توزيرک !؟
- من ؟
- ابراهيم أحمد !
- کيف ؟
- نعم.. بعدما علم أنک ستصبح وزيرا في التشکيلة الجديدة سارع الى الملا مصطفى (الذي کان آنئذ ضيف للزعيم يقيم في قصر نوري السعيد في الصالحية) وقال له لماذا توافق على جعل بشير مشير وزيرا وهو ليس منتمي الى الحزب فقل للزعيم أن يعين عوني يوسف وزيرا (کان ضمن قيادة الپارتي) فکلم البارزاني الزعيم تلفونيا وحل عوني يوسف بدلا منک في الوزارة، يبدوا أن الجو کان ملائما للأيقاع بالصداقة بين الپارتي والاستاذ فبدأ الفتور وکان الاستاذ المعتمد الأول للجرائد والمطبوعات الکوردية في عموم بەغداد، ومن ضمن الجرائد التي کانت تصدر آنئذ جريدة خبات لسان حال الحزب الديمقراطي الکوردستاني ويشرف عليها الاستاذ جەلال طالباني بأعتباره عضوا في المکتب السياسي مسؤولا عن الأعلام المرکزي، فلاحظ أن جريدة خبات ومنذ فترة ترسل برزمة کبيرة الى محل الاستاذ وتعاد الرزمة کما أرسلت دون أن تصرف منها حتى نسخة واحدة، ففطن أنه لابد في الأمر مکيدة ما، فذهب الطالباني بنفسه الى الأستاذ وسأل عن سر مرتجعات الجريدة دون أن تفتح الرزمة فرد الأستاذ:
- ليس الأمر بيدي، الناس لا يريدون قرآءة جريدتکم !؟
- کيف ولماذا کانت تصرف قبل أسبوع ولا ترجع لنا ولا نسخة !؟
- يبدوا أن نظرة الناس تغيرت أزائکم !!
- کيف، أنا لا أفهم هذا الأنقلاب المفاجئ من الناس ؟
نعم، أنتم وقفتم أمام أستيزاري وعينتم عوني يوسف بدلا مني، ولهذا ترککم الناس، ألا تعرفون أني کبير الکورد في بەغداد ؟
- طيب، أليس عزالدين مصطفى رسول هو من نقل لک هذا الکلام ؟
- نعم.
- طيب أنا لا أقول شيئا، ولکن أن مکرم الطالباني وهو من جماعة عزالدين في الحزب الشيوعي تعين مديرا عاما لمصلحة التبوغ وهم بصدد تعيين أناس لهم خبرة في التبغ براتب قدره ستون دينارا (کان مبلغا هائلا في ذلک الزمن) أذهب مع عزالدين الى مکرم، فأذا عينوک فاحصا للتبغ فمعناه أن إدعائه صحيح وإننا وقفنا عائقا أمام أستيزارک يا أستاذنا.
عند مجيئ الاستاذ عزالدين الى المحل وهو لا يدري بالتطورات الجديدة سأله الأستاذ:
- هل تعرف مکرم طالباني ؟
- نعم أعرفه.
- وأنا أيضا أعرفه سبق وأن تعارفنا في منزل جياووک بيگ، قم معي لنذهب الى بيتهم.
- لماذا ؟
- لا تسأل، عليک المجئ معي وهناک تفهم القصد من الزيارة، وکان الأستاذ يعلم بأمر تعيين فاحصي التبغ مسبقا وکان يقول لزائريه في تلک الأيام وبدون مناسبة، يا جماعة تعرفون أني خبير في أمور التبغ أيضا بالاضافة الى مزاياي الأخرى،المهم ذهبا الى دار الاستاذ مکرم وعادا فاضي اليدين من تعيين الأستاذ ما دعى الأستاذ الى إخراج الدکتور من صفوة السبعة المبشرين وتعيين جەلال طالباني أو الملا جميل روژبياني محله. ويذکر أن الأستاذ قد رشح نفسه لمرتين کي يصبح عضوا في مجلس النواب ففي المرة الأولى کان عام 1928 رشح نفسه وقدم برنامجا يعتبره شهود عيان من أفضل ما قدم من برامج عمل من قبل المرشحين ولکنه لم ينجح لأن المقاعد کانت معدة سلفا للناس الذين تم تعيين (أنتخابهم) من الجهات العليا، أما في المرة الثانية لم يقدم برنامجا بل أقتصرت دعايته على عبارة غريبة عن العبارات التي تکتب عادة في مثل هذه المناسبات فقد نشر (أيها الناس، أنکم أنتخبتم أناسا فأصبحوا ممثلين لکم في المجلس النيابي، لکنهم لم يعملوا شيئا من أجلکم، واڵان أطلب منکم أنا تنتخبوني لکي لا أعمل من أجلکم شيئا کاڵاخرين) وفي هذه المرة أيضا لم يکن له نصيب في أن يکون في البرلمان لنفس السبب السابق ولا لأي سبب آخر.
الأٍستاذ يرد على عباس خلعتبري على صفحات خبات:
في تلک الأيام تشکلت وزارة جديدة في إيران وعين عباس خلعتبري وزيرا لخارجيتها وفي مؤتمر صحفي سٌأل عن المسألة الکوردية فرد أننا لانعر ف إن کانت هنالک مسألة کوردية في إيران، فالکورد جز و من الفرس والشعب الأيراني شعب واحد، ما أثار حنق المثقفين الکورد والقوى السياسية ومن ضمنها الپارتي وکان آنئذ حزبا مجازا في العراق ودرءا لعدم تأزيم العلاقة مع إيران لم يکن بأمکان مسؤول رسمي في الپارتي أن يکتب شيئا مباشرا حول تصريح خلعتبري، فذهب جەلال طالباني الى محل الأستاذ وأختلى به جانبا وحدثه عن خطورة تصريح وزير خارجية إيران ضد الکورد وأقترح أن يکتب الأستاذ ردا عليه، فوافق الأستاذ کعادته وقال سأکتب وأمضي، وکان هذا کافيا لکي يعود طالباني الى مکتبه ويکتب ردا مطولا على تصريح عباس خلعتبري ويذيله بأمضا و الاستاذ بشير مشير، فخرجت جريدة خبات في اليوم التالي بمانشيت کبير غطى الصفحة الأولى بعنوان (الفيلسوف بشير مشير يرد على تصريحات عباس خلعتبري !) وقد نفذت الجريدة على آخرها في الأسواق وتلاقفتها الأيدي بشوق وقد ضرب بذلک الطالباني مجموعة من العصافير بحجر واحد وهي:
أولا – الإيقاع بين الأستاذ وعزالدين مصطفى رسول.
ثانيا – إعادة المياه الى مجاريها بين الأستاذ والبارتي.
ثالثا – نيل درجة التبشير في البشيرستية.
رابعا – الرد على وزير خارجية إيران دون إثارة غبار التأزيم بين العراق وإيران.
وربما ثمة عصافير أخرى سقطت من جرا و الشظايا المتطايرة أذا تفحصنا الموضوع جيدا، ولا أدري هل ثمة رباط بين هذه المسألة ومسألة التأديب الذي ناله (أحدهم) على يد ولدي الأستاذ شامل وکامل عندما لحقا به بعد أن أجرى لقاءا مع البارزاني الذي کان في ذلک الحين يقيم في قصر نوري السعيد في الصالحية وأفهم الأستاذ بشير أنه سأل البارزاني أسئلة حرجة فبعث بوليديه وأشبعا الصحفي المسکين ضربا مبرحا !؟، ومادمنا ذکرنا شاملا وکاملا فأن الاستاذ نبز يقول فيهما أنهما من البشيرستية الحقة وقد کانا نسختين طبق الأصل من الأستاذ، فيذکر طريفة بهذا الصدد حيث أن نبز صاحب الأستاذ الى منزلهم فوجد الدار خالية من أم شامل، فسأله وأين أم شامل يا أستاذ، فقال، (لقد أعطيناها الجواب)، فکرر سؤاله مرة أخرى فقال في رده نفس العبارة فلم يفهم نبز فحوى الجواب المبهم ما دعى الأستاذ أن يقول له، ألا تدري، أنها (طلعت عربية، ولذلک أعطيناها الجواب!) وقد کانت أم شامل رفيقة حيته منذ عقود طويلة من الزمن، يلتفت نبز الى شامل ويسأله، أين أمک يا شامل !؟
والله أستاذ جمال صحيح، أمي طلعت عربية وطلّعناها من البيت، فهل يجوز أن نلفي أمرأة عربية في بيتنا !؟
ولکن بعد فترة قصيرة عادت المرحومة أم شامل الى الدار رغم کونها عربية أيضا.
عزالدين مصطفى رسول سبب توتر العلاقة بين الأتحاد السوفيتي والصين !
شا و أن يذهب عزالدين الى الاتحاد السوفيتي للدراسة ونيل شهادة الدکتوراه في الأدب الکوردي وکانت العلاقات بين الأتحاد السوفيتي والصين الشعبية متوترة وقد کانت شأنها شأن المسائل السياسية الأخرى حديث الساعة في محل الأستاذ بين المتنورين الکورد وکل يقدم تحليلا وأسبابا لتلک العلاقات المتأزمة، والاستاذ وکدأبه لا يتدخل في الحديث، بل يستمع ويراقب الشارع ويرد على السائلين على عنوان کتاب يطلبونه فأن لم يکن الکتاب موجودا فيبيع للمشتري نسخة من کتابه المشهور (سيپه ره ي حه قپه رستي) أذا يقول للمشتري أذا قرأت هذا الکتاب ستجد معلومات وافية عما تبحث عنه، فأنه کتاب عجيب کتب بقلم بشير مشير القوي. وبعد أخذ ورد بين المتجادلين يتوجه نحوه کامل ژير بسؤال عن سبب توتر العلاقات فيرد الأستاذ بکل بساطة، أتريدون أن تکون علاقات الأتحاد السوفيتي بباقي الدول جيدة وعزالدين موجود في موسکو؟، فالسبب هو عزالدين، وکأنه کان يتذکر عزالدين الغائب عن نظره ويتذکر دوره في تأزيم علاقاته بالپارتي، وبالمناسبة يقال عن الأستاذ أنه کان يتذکر مريديه وهم يبتعدون عنه واحدا بعد اڵاخر، فعزالدين في موسکو وقد سبقه کمال فؤاد الى برلين ولحقه أقرب الناس إليه جمال نبز الى ألمانيا أيضا واڵاخرين أيضا أبتعدوا بعد أنقلاب شباط 1963 ما أتخمه حزنا فبدات أيامه تمر ثقيلة ومملة بعدما تعوّد على صحبة أناس من خيرة مثقفي کوردستان وهم يتبادلون الود المقرون بالنکتة والشعر والتأليف الذي أخذ الأستاذ منه نصيب الأسد فأصبح يعيش على أنقاض ذکريات الماضي ورسائل الأصدقا و من دول العالم، يقرأها ويودعها في صندوق العجائب وثم يأمر بکتابة الردود مذيلا بأمضائه ولقبه (والد صغيرکم وکبيرکم الفيلسوف بشير مشير).
(کاژيک) أول حزب قومي يولد من رحم محل الأٍستاذ:
کاژيک هو الأحرف الأولى ل (کومه له ي ئازادى وژيانه وه ي کورد) جمعية أنعتاق وأحيا و الکورد، وهو حزب قومي تشکل من مجموعة من متنوري ذلک الزمن وجلهم من مريدي الاستاذ والمترددين على محفله بعد أن شعروا أن أن اليسار في کوردستان قد أستشرى وأستفحل أمره وکاد الشعور القومي الکوردي أن يذهب قربانا لهذا التوجه الذي بات مودة العصر، وطبعا کانت الأجتماعات التمهيدية تجري في محل الأستاذ وبوجوده لأنه کان متناغما مع مثل ذلک الطرح حتى النخاع ومتشبعا في أبعاده بالفطرة، وللتأريخ فأن أقطاب هذا الفکر کانوا کل من (جمال نبز، د. أحسان فؤاد، کامل ژير، فريدون علي أمين، عەبدوڵڵا جوهر، أحمد هردي وآخرين) وکانت المساعي جارية على قدم وساق بين بەغداد والسليمانية الى أن عانق أول بيان تأسيسي من الجمعية أعين الناس وقد جوبهت من طرف اليسار بالقذف والنقد وأطلاق صفة الشوفينية على تلک الجمعية ولأسباب ذاتية وموضوعية عديدة لا مجال للأسهاب فيها اڵان، لم يکتب للجمعية النجاح الشامل ولکن بقت الأفکار تغزو القلوب والجماجم رويدا رويدا ولا زال الکثير من الناس يدعون بوصل ب(کاژيک) لأنهم يجدون فکر الکاژيک قريب منهم ويعدونه طريقا لخلاص الکورد من هيمنة المحتلين وجبروتهم وقهرهم للأمة الکوردية ولکن الپارتي کحزب قومي قد سبق کاژيک بعشرة سنوات من جهة ودخول المؤوسس مصطفى بارزاني الى العراق وکوردستان عام 1959 من جهة أخرى جعل القوميين الکورد يلتمون حول البارتي، فقبل عودة البارزاني من الأتحاد السوفيتي کان الپارتي حزبا هامشيا قياسا بالحزب الشيوعي لا يتعدى عدد أعضائه عدة آلاف والکلام موثق ولکن بعد دخوله وما لهذه الشخصية من کاريزما زاد أعضا و البارتي بأضعاف مضاعفة حتى أصبح يزاحم الحزب الشيوعي في البداية ويتغلب عليه لاحقا وثم يجعله حزبا صغيرا ويتمسک بمؤسسه البارزاني کقائد للپارتيين والشيوعيين في آن واحد إبان ثورة أيلول وخصوصا عندما ضاقت الحيل بالشيوعيين بعد أنقلاب شباط الأسود وتعرض أعضائه الى الملاحقة والأضطهاد والسجن أسوة بالأحزاب السياسية الأخرى وحتى (کاژيک)أيضا أستمال الى الامر الواقع وأنتشرت أعضائه في الثورة وکان منهم أمرا و للتشکيلات الکبيرة ومنهم فەتاح آغا آمر هيز خبات وآخرين، أي بمعنى آخر أن عامل الزمن والضروف الموضوعية لم تکن مع نمو (کاژيک) کما ينبغي وأقتصر نشاطه وأعضائه في مدينة السليمانية فقط وکان من الأجدر لمؤوسسيه أن يحسبوا أن لکوردستان مدن کثيرة ورقعة أکبر بکثير من التقوقع في مدينة السليمانية، على أية حال، هذا الأمر ليس موضوع بحثنا بقدر ما وجدنا من الضروري الاشارة الى دور محل الاستاذ بشير مشير کنادي ثقافي وسياسي وفکري من الطراز الأول في تشکيل الأحزاب والجمعيات وتأثيره على مجريات الأمور في الساحة السياسية والثقافية في کوردستان.
الاستاذ بعد أنقلاب شباط:
لم تعد أجوا و بەغداد بعد أنقلاب شباط الأسود تلک الأجوا و البيضا و التي تحتضن الألوان کافة وهي کانت منذ القدم توصف بمدينة الأثنيات المختلفة، فسکانها الأصليين لا يعيرون أهتماما بأصولهم الأثنية ويعيشون بوئام وسلام مع بعض وفيهم الکوردي والعربي والترکي والشرکسي والعبري والفارسي وحتى الهندي والباکستاني ولکل هذه الأثنيات بصمات واضحة وقدمت لتأريخ بەغداد أسماءا وشخصيات تحمل في جعبها مختلف الفنون ومن اڵاداب مختلف الصنوف، غير أن الأنقلاب الشوفيني کان إنقلابا على کل تلک الألوان التي تحتفظ بها الفسيفسا و البەغدادي الأصيل، فجا و الأنقلاب وجلب معه تلک الغيمة السودا و التي لبدت سما و تلک المدينة الجميلة وحتى منتدى البشيريستية في محل الأستاذ فقد بريقه وغابت عنه الوجوه التي تملئ المکان مرحا وحيوية، فأصبحت مائدة المشير بشير لا تحوي سوى الرسائل التي تأتيه من خُلّانه المنتشرين في أرجا و العالم، الرسائل التي تمر عبر مراقبة الشرطة السرية قبل أن تسلم الى أصحابها، رسائل تحمل مضامينها الشوق الى الأستاذ غير أنها جلبت في نفس الوقت شکوک اللسلطة الجديدة التي ملأت سجون العراق بنزلا و من کل حدب وصوب، من کل حزب وجمعية، أنه زمن ما يسمى الحرس القومي السئ الصيت، فأقتيد الأستاذ ذو المقص الذهبي الضائع وصاحب القلم القوي الخافت وکبير الکورد في عاصمة الرشيد وعميد السفارة البشيرستية الى سجون النظام الدموي دون أدنى رعاية لشيخوخته وروحه المرحة فيستجيبوه ملقين عليه أسئلتهم التافهة:
•- قل لنا ما سر هذه الرسائل التي تأتيک من دول العالم المختلفة وبعضها بلغات أجنبية ؟
•- أنا فيلسوف وشاعر عند الحاجة ؟
•- وأين شهادتک ؟
- انا خريج کلية الأرکان في أستانبول ولکنکم خربتم البلد ولا أدري أين وضعت شهادتي.
يودع الرجل في السجن وفي شهر آب الذي (يشلع المسمار من الباب) حسب المثل العراقي الدارج، وفي ظهيرة أحد الأيام يعطش فيطلب من السجان الماء، فيعطونه ماءا ساخنا فيقول: ألا يوجد لديکم ما و بارد ؟فيرکلونه بأقدامهم حتى يقع على الأرض مغشيا ويُطلق سبيله على أثره، يعود الرجل الذي تعود في حياته أن يعيش مدللا لا يُرفضْ له طلب، کسيرا وحزينا فتلتم أفراد أسرته حوله ويطيبون خاطره ولکنه يعلم ان أيامه في الحياة باتت معدودة فيوصيهم أن يدفنوه في رابية (مامه ياره) بجوار ضريح بيره ميرد الشاعر، غير أن أبنا و أسرته يقولون، کيف نأخذک الى السليمانية في هذا الضرف المشحون وثم کيف لنا أن نزور قبرک في مدينة السليمانية ونحن في بەغداد، فيصرّ الرجل على طلبه ويقول: يأست العيش بين هؤلاء، أنقلوا جثتي الى السليمانية وکفى، فأنا لا أطيق العيش بين هؤلا و يوما واحد.
بعد أيام قليلة يودع الرجل دنياه التي منحته الغربة فمنحها الجد والهزل وکتب وقصائد وذکريات جميلة ولکن وصيته لا تأخذ مجراه مع الأسف ويدفن في مقبرة الشيخ معروف ببەغداد ويکتت على شاهده (هذا قبر الفيلسوف بشير مشير الذي أنتقل الى جوار ربه في عام 1963) وينتهي بذلک فصل من حياة شعب وأجوا و محفل وأريحيات رجل بشوش عرف بدمث أخلاقه وحبه للناس ببدلته الأنيقة وشاربه الأشبه بشوارب ادولف هتلر والفريق بکر صدقي الذي کان الأستاذ يدعي بأنه خطط لأنقلابه في محله ومناظر تخفي عيناه.
وبقى أن نقول أن حياة الأستاذ بحاجة الى المزيد من التقصي والتحليل فلم يخطئ الشهيد عەبدولڕەحمان قاسملو عندما کان يقول (لا أعتقد أن يکون هنالک شبيها لبشير مشير في أية أمة أخرى) وعليه لو فکر السينمائيين الکورد أن يستبطوا من حياة البشير فلما سينمائيا لکان واحدا من الأفلام الناجحة حتى خارج کوردستان ومع ذلک نحن نثمن جهود دار آراس لأنتاجه الفلم الوثائقي الذي تحدثت عنه حيث أشرف عليه الأعلامي سيروان رحيم وطاقم يشرف على الکاميرا والصوت والمونتاج والتقطيع.
وبقى أن نبدي أستغرابنا من أمر آخر وهو لماذا لا نجد تمثالا للرجل في حديقة عامة في کوردستان وما أکثر الحدائق والمتنزهات والحمد للـە في کوردستان، ولا يحمل شارع من شوارع کوردستان في أية مدينة کوردية (لأنه لم يفرق بين مدن ومناطق کوردستان أبدا)أسم الأستاذ وتلميذه هو رئيس جمهورية العراق ؟ ومن بين مئات الجرائد والمجلات الصادرة في کوردستان (اکثر من نصفها مضيعة للمال والوقت) لا تحمل إحداها أسم بشير أو مشير أو کلمة الأستاذ حتى مجردا من أسمه ؟
ألم يکن الأستاذ يحمل کوردستان في قلبه أينما حل وأقام !؟