كثيراً ما نجد في الشرق مفكرين وعلماء وقادة ومثقفين يدافعون عن حرية واستقلال [1]شعوبهم وأقوامهم وبلادهم، ولكن في لحظة ما، حينما يتعلق الأمر بحقوق وحرية شعوب وأقوام أخری، تراهم يبدلون ويغيرون مبادئهم كما تبدل الحرباء لون جلدها، ويعارضون حقوق هذا الشعب أو ذاك بحجج باطلة ومناقضة تماماً للحجج التي كانوا يستخدمونها في سبيل[1] نيل حرية شعوبهم واستقلال بلادهم.
وقليلاً بل ونادراً ما نجد في الشرق من له مبادئ ثابتة لا تتبدل ولا تتغير بتغير قومية أو هوية أصحاب القضية، كالمناضل التركي إسماعيل بيشكجي، الرجل الذي حُكم عليه بالسجن لعشرات السنين بسبب دفاعه عن القضية الكردية ومطالبته بحقوق الكرد، وعدم التنكر لهم كما فعل ويفعل غيره لأنهم-الكرد- ليسوا من شعبه أو قوميته.
خدم بيشكجي في الجيش ولايتي بدليس وهكاري/الكردية، عاش بين الكرد، جلس معهم، أكل من طعامهم، استمع إليهم وسمع منهم، رأی بعينيه مقدار الظلم والقمع الذي كان يعاني منه الكرد
خدم بيشكجي في الجيش ولايتي بدليس وهكاري/الكردية، عاش بين الكرد، جلس معهم، أكل من طعامهم، استمع إليهم وسمع منهم، رأی بعينيه مقدار الظلم والقمع الذي كان يعاني منه الكرد
من هو إسماعيل بيشكجي؟
مفكر وعالم اجتماعي تركي ولد عام 1939 في ولاية جوروم بتركيا. في عام 1962 نال شهادة البكالوريوس في العلوم السياسة بأنقرة، وفي عام 1967 نال شهادة الدكتورة بعلم الاجتماع من جامعة أتاتورك في أرضروم، عمل في الدوائر الحكومية لفترة بعد تخرجه، في عام 1964 أنهی خدمته العسكرية التي كانت في المناطق الكردية في ولايتي بدليس وهكاري، عام 1964- 1969 عمل استاذاً في قسم علم الاجتماع بجامعة أتاتورك بأرضروم، عام 1971 عمل أستاذاً بكلية العلوم السياسة في جامعة أنقرة، فيما بعد ترك التدريس وتفرغ لأبحاثه وكتبه. له العشرات من الأبحاث والمؤلفات التي تتحدث بغالبيتها عن القضية الكردية، ترجمت مؤلفاته إلی عدة لغات عالمية من بينها الإنجليزية والفرنسية والعربية.
لقاءه بالكرد
شاء الله أن يتعرف بيشكجي علی الكرد، ليكون الصديق الأبدي للكرد، والمدافع الشرس عن حقوقهم، وليرد علی محمود درويش-صديق الكرد- الذي قال للكرد: لا أصدقاء سوی الجبال بأن للكرد أصدقاء جيدون ومستعدون أن يدفعوا حياتهم ثمناً لحريتهم واستقلالهم. خدم بيشكجي في الجيش ولايتي بدليس وهكاري/الكردية، عاش بين الكرد، جلس معهم، أكل من طعامهم، استمع إليهم وسمع منهم، رأی بعينيه مقدار الظلم والقمع الذي كان يعاني منه الكرد، من هنا تعرف علی مأساة الشعب الكردي، وعلم أنهم شعب له تاريخ وثقافة ولغة وحقوق وقضية، وأنهم ليسو بأتراك الجبال كما سمتهم تركيا الكمالية، يقول بيشكجي في ذلك: عندما وصلت الی جنوب شرقي تركيا شاهدت شعباً له لغة وتاريخ وتقاليد تختلف عما لدينا نحن الأتراك، كما لا يحمل الاسم الذي نطلقه نحن الأتراك عليه، فهو لا يسمي نفسه بأتراك الجبال بل بالكرد.
بعد أن أنهی بيشكجي الخدمة العسكرية بدأ بالبحث عن تاريخ الكرد وقضيتهم وحقوقهم وجغرافية وطنهم، فكتب الأبحاث وألف الكتب وراسل مثقفي ومفكري العالم يحدثهم فيها عن القضية الكردية، ومن هنا بدأت معاناته مع السلطات التركية.
من معاناته مع الحكومة
عام 1977 أنهی بيشكجي كتابه الترحيل القسري للكرد، وقد صادرت السلطات الكتاب وقُدم للمحاكمة، ولم يثنه ذلك عن نضاله وواصل الكتابة
حينما بدأ بيشكجي بأبحاثه عن الكرد وقضيتهم كان يعلم أنه سيتعرض للقمع والسجن والتعذيب، ولكن مع ذلك لم يبالي بما سيؤول إليه حاله طالما إنه يؤمن بأنه يدافع عن قضية عادلة وشعب مظلوم، قام بيشكجي في البداية ببحث عن لغة الكرد وتاريخهم وجغرافية وطنهم، وكانت هذه المبادرة بداية التصادم مع السلطة القمعية، تم اعتقاله ومحاكمته بتهمة الترويج بوجود قومية ولغة كردية (حينها كان الكرد يعتبرون عند السلطات التركية من أتراك الجبال ولغتهم ممنوعة من التداول، والتكلم بالكردية أو التحدث عن قضيتهم يعتبر من المحرمات في تركيا) فحُكم عليه بالسجن لمدة 13 عاماً، في السجن تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة.
في عام 1974 أُفرجت عنه السلطات نتيجة عفو عام، بعد خروجه رفضت جامعة أنقرة إعادته للتدريس فيها، قرر بيشكجي ترك التدريس والتفرغ لأبحاثه وكتبه، في بدايات عام 1977 أنهی كتابه الترحيل القسري للكرد، صادرت السلطات الكتاب وقُدم إلی القضاء، أثناء فترة المحاكمة لم يتوقف بيشكجي عن نضاله وواصل الكتابة، وفي نهاية عام 1977 ألف كتابه تاريخ الترك ونظرية الناطقين بلغة الشمس والمسألة الكردية، تمت مصادرة الكتاب وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، علی الرغم من أن المحاكمة الأولی لم تكن قد انتهت.
في عام 1982 حكمت المحكمة عليه بالسجن 10 أعوام بسبب رسالة كان قد وجهها لرئيس اتحاد كتاب سويسرا وهو في السجن، وفي عام 1987 تم الحكم عليه بالسجن مدة عام ونصف بسبب الدعوة القديمة المتعلقة بكتاب التهجير القسري للكرد، في عام 1990 ألف كتاب كردستان مستعمرة دولية وتمت محاكمته. كثيرة هي الأحكام التي صدرت بحقه، ولا يسع المجال هنا لذكر التفاصيل كاملة. بلغ مجموع الأحكام القضائية التي صدرت بحقه من قبل السلطات التركية 76 عاماً، قضی منها 18 عاماً خلف القضبان.
بعض مؤلفاته
كردستان مستعمرة دولية، الترحيل القسري للكرد، أراء حول المثقف الكردي، حول المجتمع الكردي، النظام في الأناضول الشرقية/كردستان، قانون تونجلي 1935 والإبادة الجماعية في ديرسم، ثلاث وثلاثون طلقة في حادثة جنرال موله (يتحدث الكتاب عن قيام ضابط تركي بمحاولة إبادة قرية كردية علی الحدود التركية الإيرانية، استشهد علی أثرها ثلاثة وثلاثون كردياً)، الدول المناهضة للكرد، بالإضافة إلی عشرات الكتب والأبحاث الأخری.
من أقوال بيشكجي:
إنني أخوض نضالاً سلمياً حتی يفسحوا المجال للمناقشات العلمية التي ترفض المحرمات والرقابة وتستند إلی حرية التعبير عن الرأي واحترام حقوق الإنسان من أجل إنقاذ الشرف التركي.
البعيد عن آلام شعبه لا يمكن أن يكون ثورياً حقيقياً، والإنسان الذي لا يعرف مفردات حياة شعبه ولا يناضل من أجل وضع حد ڵالامه، لا يمكن أن يكون ثورياً صلباً ولن يفيد في شيء دعمه لنضالات الشعوب الأخری.
إنه سلوك عنصري عندما يكون تطبيق العدالة وحقوق الإنسان والحرية مرتبط بإكراه المرء علی التنكر لهويته القومية، وهو سلوك رجعي يهدف إلی إبادة الجنس البشري
إنه سلوك عنصري عندما يكون تطبيق العدالة وحقوق الإنسان والحرية مرتبط بإكراه المرء علی التنكر لهويته القومية، وهو سلوك رجعي يهدف إلی إبادة الجنس البشري
يستطيع الكردي في تركيا أن يتمتع بالحريات العامة وبالمساواة شريطة إنكاره لهويته القومية.
إنه سلوك عنصري عندما يكون تطبيق العدالة وحقوق الإنسان والحرية مرتبط بإكراه المرء علی التنكر لهويته القومية، وهو سلوك رجعي يهدف إلی إبادة الجنس البشري، ومثل هذا الإكراه هو الذي يجعل من كردستان في وضع أدنی حتی من وضع المستعمرة.
الكرد يدافعون عن وطنهم ويعملون علی تحريره من السيطرة الاستعمارية لذلك فهم وطنيون.
الشعوب التي لا تمتلك دولة معرضة دوماً إلی المجازر والإبادة الجماعية.
لعلي أستطيع أن أشبِّه بيشكجي بالفيلسوف الفرنسي فولتير، أحد رواد عنصر التنوير في أوروبا، الذي قال: قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك، بل ربما أكثر من ذلك، لعلي أقول أن بيشكجي تفوق علی فولتير في نضاله، صحيح أن فولتير كان يناضل من أجل حرية وحقوق اڵاخرين، ولكنه لم يتعرض للتعذيب والسجن في سبيل آرائه، بينما بيشكجي بعد كل بحث أو كتاب كان يعتقل ويحاكم ويسجن، وقد أثبت بيشكجي مقولة فولتير عملياً وعلی أرض الواقع وأعلن استعداده الموت في سبيل حقوق واستقلال اڵاخرين-المظلومين. لعلي أقول أن بيشكجي هو مؤسس نهضة الشرق لو استمع إليه الناس.
شكراً إسماعيل بيشكجي، شكراً نيابة عن كل مظلوم علی وجه الأرض، شكراً نيابة عن شهداء ديرسم وحلبجة والأنفال، شكراً وإلی لقاء قريب مع كردستان مستقلة إن شاء الله.[1]