نشاط الكرد الصناعي والتجاري في العصر العباسي الثاني
رساله دكتوراه، مقدمة من الباحث محمود محمد عبد الله
الملخص
تتناول هذه الدراسة (نشاط الكرد الصناعي والتجاري في العصر العباسي الثاني 232- 656ه/ 847 – 1258م)، وقد تضمنت الحياة الاقتصادية في بلاد الكرد، مركزًا على الأنشطة الصناعية والتجارية لسكانها.
[1]
أهمية الدراسة وأسباب الاختيار
تكمن أهمية الدراسات الاقتصادية في تاريخ والنشاطات العامة في المجتمع، في توضيح كثير من جوانب الحياة الحضارية للدولة الاسلامية بشكل عام، وبلاد الكرد بشكل خاص، وفي معرفة النشاطات العامة الاقتصادية، ووسائل الإنتاج المختلفة والضرائب ونظمها على المنتجات والسلع وأرباب الحرف والصناع وما يمتهنونه من الأعمال الشاقة، التي كانت مصدر رزقٍ لهؤلاء، ومعرفة التجارة والطرق والمراكز التجارية والمدن والعلاقات التجارية بين الأقاليم الإسلامية وغير الإسلامية، ومعرفة الأسواق، وتفسير مظاهر الرخاء التي سادت عصرًا مهمًّا مثل العصر العباسي الثاني، وكانت من وراء تلك القدرات الهائلة التي تمتعت بها الخلافة العباسية وأمراء الأقاليم والسلطات وأمراء الإمارات الكردية والأتابكات في كردستان والتابعة لحكومة السلاجقة في دولة الخلافة العباسية، وكل هذا رجاء أعتمد على مجهودات المزارعين وأصحاب المواشي وأرباب الحرف والصناع والتجار في المجتمع.
اتجه الباحث لدراسة الحياة الاقتصادية في التاريخ، ومنها النشاط الصناعي والتجاري في بلاد الكرد، والتي كانت تلعب دورًا مهمًّا ومؤثرًا في المستوى المعيشي للمجتمع الكردي. والحياة الاقتصادية بصفة عامة من الموضوعات الغامضة في التاريخ الإسلامي، فهي في حاجة إلى جهد أكبر للتعمق وراء جذورها، ودراسة أصدائها ونتائجها، وخصوصًا أن بلاد الكرد بموقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية والبشرية، أسهمت بنصيب موفور في زيادة ثروة الدولة الإسلامية، وفتحت أمام المسلمين مصادر جديدة لتلك الثروة الاقتصادية .
كما لم ينل تاريخ الكرد الاقتصادي في تلك الفترة اهتمام المؤرخين والباحثين من الكرد أنفسهم، سوى ما ذكر عن الجانب الحضاري من قبل المؤرخ شرف خان البدليسي والباحث محمد أمين زكي، وبعض الباحثين المعاصرين، كما أهملته الدراسات الإسلامية والعربية والاستشراقية، وبهذا تفتقر المكتبة الإسلامية والعربية والكردية إلى دراسة أكاديمية تاريخية عن الحياة الاقتصادية، ومنها النشاط الصناعي والتجاري للكرد في تلك الفترة الزمنية.
وقد بدا للباحث أن دراسة الحياة الاقتصادية بشكل عام سيكون موضوعًا كبيرًا وواسعًا، حيث إن كل جانب من جوانبها يمكن أن يكون بحثًا قائمًا بذاته، ومن هذا المنطلق، وقع اختيار الباحث على موضوع نشاط الكرد الصناعي والتجاري في العصر العباسي الثاني (232 – 656ه/ 847-1258م).
وقد واجه الباحث صعوبات كثيرة في إعداد هذه الرسالة، وفي مقدمتها الوضع الأمني والسياسي الذي نعيشه، وصعوبات الوصول إلى المدن العراقية في الوسط والجنوب، باستثناء مدن إقليم كردستان، وقلة المصادر والمعلومات الموثوقة عن الحياة الاقتصادية، ومنها النشاط الصناعي والتجاري، التي تخص الكرد، والمتشتتة في ثنايا المصادر والمراجع، إذ يستلزم من الباحث جهودًا عظيمة في الإحاطة بمختلف الكتب التاريخية والجغرافية والبلدانية والرحالة والأدبية واللغية لمتطلبات الدراسة، ولكن تيسير الله كان كبيرًا، والحمد لله رب العالمين.
وتتكون هذه الرسالة من مقدمة وتمهيد وأربعة فصول، فضلًا عن الخاتمة والملاحق، وقد سلط الباحث الضوء في التمهيد على السرد التاريخي لتسمية الكرد وبلادهم مع ذكر أشهر القبائل الكردية، كما أشار إلى حياة الكرد الدينية والسياسية والإدارية ذاكرًا أعلام الكرد الذين تولَّوا مناصب رفيعة في دولة الخلافة العباسية من الوزراء والقضاة وغيرها، وتناول نشاط الكرد الزراعي، مبيّنا أهم المحاصيل الزراعية ووسائل الإرواء والطرق الزراعية المتبعة وأصناف المزارعين والفلاحين والعمال الذين عملوا في الزراعة، والثروة الحيوانية مع ذكر أهم الأصناف المتوافرة، وأهميتها الاجتماعية والحياتية عند الكرد، إذ تعد مع الزراعة المادة الأساسية للنشاط الصناعي والتجاري وحركة أسواقها .
وجاء الفصل الأول بعنوان (العوامل المؤثرة على الصناعة والتجارة في بلاد الكرد)، ولخصه الباحث في أربعة عوامل رئيسة: العوامل الجغرافية من الموقع والمناخ ومصادر المياه، والأزمات الاقتصادية بسبب الكوارث الطبيعة من الجفاف والفيضانات والأمراض الفتاكة مثل الطاعون والجراد والآفات الزراعية والبشرية والحيوانية، والأزمات بسبب الفتن والحروب الداخلية في الدولة الإسلامية، وحالات السلب والنهب وقطع الطرق وسرقة القوافل التجارية، إضافة إلى تردِّي الأوضاع المالية والفساد الإداري، كما تحدث الباحث عن سياسة فرض الضرائب في بلاد الكرد، التي كانت سلاحًا بيد الدولة تستخدمها حسب الفلسفة الاقتصادية للدولة الإسلامية والسلطات الكردية، مع ذكر أهم الضرائب المتبعة في بلاد الكرد، واختتم الفصل بذكر الغزوات الخارجية على بلاد الكرد وتأثيرها على الجانب الاقتصادي والدمار الذي تخلفه تلك الغزوات .
كما جاء الفصل الثاني بعنوان (النشاط الصناعي والحرفي) مقسمًا إياه إلى عنصرين رئيسين: تناول الأول أهم الصناعات، وتناول العنصر الثاني طوائف الصناع والحرفيين في بلاد الكرد وأوضاعهم الاجتماعية.
وجاء الفصل الثالث بعنوان (نشاط الكرد التجاري)، وذكر فيه أهم المدن ومراكز التجارة في بلاد الكرد، وأنواع الطرق التجارية البرية، والمائية، مع ذكر أهم وسائل النقل المستخدمة آنذاك، كما ذكر العلاقات التجارية لبلاد الكرد، سواء كانت داخلية مع الأقاليم والمدن داخل الدولة الإسلامية أو العلاقات الخارجية مع البلدان المجاورة وغير المجاورة في المشرق والمغرب، إضافة إلى ذكر أصناف التجار الكرد، ودورهم المميز في المجتمع الكردي.
وجاء فصل الرابع بعنوان (الأسواق في بلاد الكرد)، وشمل أنواع الأسواق والوكالات الحرفية والخانات التجارية، والعملات المتداولة في بلاد الكرد سواء كانت محلية الضرب أو خارجية، وأهم البضائع المتبادلة بين المدن في بلاد الكرد وغيرها الصادرة منها والواردة إليها، وعملية الرقابة على الأسواق.
وأما بالنسبة لمصادر الدراسة، فقد اعتمد الباحث على عدد كبير من المصادر التي أفادتها، منها كتاب ( لمسالك والممالك) لابن خرداذبة، وكتاب (البلدان) لليعقوبي، وكتابي (مسالك الممالك) و(الأقاليم) للإصطخري، وكتابي (التنبيه والإشراف) و(مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي، وكتاب (البلدان) لابن الفقيه، وكتاب (صورة الأرض) لابن حوقل، وكتاب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) للمقدسي، وكتاب (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) للماوردي.
واعتمد الباحث أيضًا على المصادر الفارسية ومنها (سفرنامة) لناصر خسرو، وعلى كتاب (ذيل تاريخ دمشق) لابن القلانسي، وكتاب (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) لابن الجوزي، وكتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي، وكتاب (الكامل في التاريخ) لابن الأثير الجزري، وكذلك كتاب (مرآة الزمان في تاريخ الأعيان) لسبط ابن الجوزي، وكتاب الروضتين لأبي شامة، وكتاب (آثار البلاد وأخبار العباد) للقزويني، وكتاب (الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة) لابن شداد، إضافة إلى كتاب (تاريخ مختصر الدول) لابن العبري.
ومن مصادر تواريخ الدول والإمارات (مفرج الكروب في أخبار بني أيوب) لابن واصل، وكتاب (جامع التواريخ) لرشيد الدين فضل الله الهمداني، وكتاب (الحوادث الجامعة والتجارب النافعة) لابن الفوطي، وكتاب (المختصر في أخبار البشر) لأبي الفداء، وكتاب (التعريف بالمصطلح الشريف) لابن فضل الله العمري، وكتاب (نزهة القلوب) لحمد الله المستوفي القزويني، وكتاب (عيون التواريخ) و (فوات الوفيات) لابن شاكر الكتبي، وكذلك رحلة ابن بطوطة .
وكتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر) لابن خلدون، و (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) للقلقشندي، و(السلوك لمعرفة دول الملوك)، و(شفاء القلوب في مناقب بني أيوب) للحنبلي، و (الشرفنامة في تاريخ الدول والإمارات الكردية) لشرف خان البدليسي، وكذلك كتاب (جامع الدول) لمنجم باشي.
هذا إضافة إلى اعتماد الرسالة على عديدٍ من المراجع، سواء كانت كتبًا أو رسائل جامعية أو بحوثًا منشورة في دوريات مختلفة، أغنت الرسالة بمعلومات بعضها مستمدة من مصادر مخطوطة أو مطبوعة لم يستطع الباحث الوصول إليها .
وفي ختام هذه الدراسة، وصل الباحث إلى مجموعة من النتائج، أهمها :
. يعد الكرد أحد العناصر البشرية المهمة في الشرق وشمال الشرق للخلافة العباسية، وقد كان لهم دور مؤثر في المنطقة سياسيًّا وعسكريًّا وحضاريًّا، وقد ظهر مصطلح (كردستان) في أواسط القرن السادس الهجري/ الثاني العشر الميلادي، بوصفها تسمية إدارية وجغرافية لبلادهم، قبل أن يكون مفهومًا قوميًّا.
. تغيرت سياسة الحكم والنهج السياسي والإداري للخلافة في العصر العباسي الثاني من الحكم المركزي في عصرها الأول إلى الحكم اللامركزي تجاه أقاليم الدولة ومنها الأقاليم الكردية، فيما يشبه اليوم بالنظام الفدرالي، وأحيانًا الكونفدرالي؛ نتيجةً للتوسع الحاصل في مساحة الدولة الإسلامية، ولأول مرة حكم الكرد بلادهم بأنفسهم منذ دخولهم في الإسلام، وظهرت السلطات والإمارات الكردية ثم الأتابكات في كردستان.
. وصل أشخاص من الكرد إلى مناصب رفيعة في دولة الخلافة، وفي أقاليم غير كردية مثل منصب الوزارة، بنوعيها: التفويضي والتنفيذي، ومنصب أمير الحاج، وولاية البلدان وشحنكية البلدان، وقضاة العاصمة وقضاة الأمصار .
. عرف الكرد منذ القدم النشاط الزراعي وتربية المواشي، وازدهر في فترة البحث بشكل لافتٍ للنظر؛ بسبب اهتمام الدولة الإسلامية المتمثلة في الخلافة العباسية والسلطات المحلية في بلاد الكرد، حيث كان خراج الأراضي الزراعية والضرائب تمثل المورد المالي الرئيس للدولة، الأمر الذي أدى إلى تشجيع الزراعة والتنوع في المحاصيل الزراعية والحيوانية، التي تعد المواد الأولية في نشاط الكرد الصناعي والتجاري.
. كانت هناك عوامل مؤثرة على الأنشطة الاقتصادية ومنها الصناعية والتجارية، كالعوامل الجغرافية من الموقع والمناخ ومصادر المياه، والأزمات الاقتصادية نتيجةً للجفاف والفيضانات والجراد والأمراض الفتاكة، والفتن والصراع السياسي والعسكري الداخلي، والأزمات المالية، وسياسة فرض الضرائب، إضافة إلى الغزوات الخارجية لبلاد الكرد أثناء فترة البحث، ومنها الغزو السلجوقي والصليبي والخوارزمي والكرجي والمغولي، واتبع الغزاة أساليب التعسف والاستغلال ونهب الثروات في غزواتهم، وتعرض المزارعون والقوافل التجارية والأسواق لتلك الهجمات، مما تسبب في تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار.
. مارس الكرد الصناعة بشكلها البدائي؛ ومنها صناعة المنسوجات القطنية والكتانية والصوفية والحريرية والصباغة والحياكة، وصناعات المواد الغذائية من طحن الغلال والألبان وتجفيف الفواكه واللحوم والسكر والحلوى والزيوت والخمور، والصناعات المعدنية من الذهب والفضة والنحاس والحديد والملح والأحجار الكريمة والصخور والزجاج والبلور، والصناعات الخشبية والجلدية والدوائية والعطور وصناعات أخرى.
. كان لتواجد الثروة المعدنية والزراعية والمواشي في كردستان، أثر في إكساب أهلها خبرات في هذا المجال، وانتشرت في المدن الكردية حرف مارستها الطبقة العامة في المجتمع الكردي، وقد اختص أناس في ممارستهم لحرفة معينة؛ لأن الفرد لا يستطيع بمفرده أن يقوم بكل الصناعات، ولهذا تعددت الحرفة وأرباب الحرف في المدن الكردية، الأمر الذي أدي إلى ظهور التنظيمات الحرفية في أسواق المدن الكردية التي كانت بمثابة النقابات في الوقت الحاضر، والدفاع عن مصالحهم المشتركة وتنظيم حركة الأسواق .
. لموقع كردستان الجغرافي وثرواتها الطبيعية والمنتجات الزراعية والحيوانية والمعدنية الأثرُ البالغ في نشاط الكرد التجاري، الداخلي والخارجي، فبرزت مدن كردية كمراكز تجارية، وتواجدت شبكات من الطرق التجارية البرية والنهرية، الداخلية والخارجية سهلت نشاط الكرد التجاري مع الأقاليم الإسلامية المجاورة وغير الإسلامية، وظهر أصناف من التجار في المجتمع الكردي كان لهم دور إيجابي من الناحية العمرانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية .
. ارتبطت حركة الأسواق في كردستان بالوضع الاقتصادي العام للبلد، وتوافرت أنواع الأسواق الدائمية والأسبوعية والشهرية والموسمية، وبنيت أسواق جديدة في بعض المدن الكردية منها ميافارقين وأربيل ومدن أخرى؛ لسد احتياجات السكان من السلع والمنتجات الصادرة والواردة .
. كانت النقود المتداولة في كردستان هي نفسها المعمول بها في سائر الأقاليم التابعة للخلافة العباسية، إضافةً إلى وجود دُورٍ لضرب النقود في بعض المدن في بلاد الكرد، ومنها شهرزور وأربيل وديار بكر وسنجار ومدن أخرى، وكان للتجارة الخارجية في كردستان أثر في رواج بعض النقود الخارجية بحكم التبادل التجاري وجني الأموال من البلدان الأخرى.
كانت الحسبة من أبرز الأجهزة الرسمية للدولة لمراقبة الأسواق وتنظيم الحرف في المدن الكردية، فكان على المحتسب مراقبة أرباب الحرف والمكاييل والأوزان والتسعيرة للسلع التجارية، وتفقد الأسواق ليتأكد من تطبيق ما تم الاتفاق عليه بين شيوخ الحرف والقاضي، ويسوق من خالفها إلى القاضي للمساءلة والاستجواب.