المحامي محمود عمر
مجلة الحوار- العدد74- عام 2020
علي بدران وتجليات ثالوثها المقدس
من الأول: مزار ومقام (علي) الذي يتوسط مقبرتها الكبيرة، والثاني: مزار ومقام (بدرى) الراكن في أقصى الطرف الشرقي من المقبرة من هذين الثنائيين، الأخ (علي) والأخت (بدري)، اللذان كانا دعاة صلاح وخير، وتيمنا ووفاء لهما أخذت القرية اسمها: (علي بدرانى)، أما الثالث: شجرة التوت الكبيرة التي يتجاوز قطر جذعها المتر والنصف المتر، كانت تمتد أغصانها نحو السماء عاليا، وتغطي مساحة دائرة يتجاوز قطرها الأربعين متراً، وما زالت صامدة تورق في الربيع رغم سقوطها، ولا يعرف احد متى ومن قام بزراعتها. وما زالت تظلّل نبع القرية، وتحمل حكايات وقصص أهلها، حيث كانوا يقضون جُلّ أوقاتهم في أفيائِها، وما زال عموم أهل المنطقة – وكلما دق الكوز بالجرة- يقسمون ب (دارا علي بدرانى) الشجرة التي كانت وما زالت محرمة على أياً كان أن يأخذ حتى غصن صغير يابس منها، كم هو محرم صيد السمك من نبعها، وذلك للحفاظ عليهما لما لهما من فائدة لا غنى عنها لأهل القرية ولمكانتهما في قلوب الناس.
هذا الثالوث والمقبرة الكبيرة – المتربعة على مساحة تقارب الهكتار وتحتوي على الآلاف من القبور المختلفة الاتجاهات، وان كانت الاتجاه الإسلامي للقبور هو الطاغي على المشهد، يشير إلى تاريخ هذه القرية الموغل في القدم، والذي اكسب القرية ميزة دينية واجتماعية مهمة عبر تاريخها الطويل، وبسبب مكانتها هذه كانت على الدوام بمنأى عن السرقات والغزو. حين كان الغزو عرفا في غابر الأزمان، وكانت الطبول والمزامير تصمت في الأفراح احتراما حين مرورها من القرية أو من الجوار، وكانت وما زالت قرية (علي بدران) مقصدا دينيا يلجأ إليها الناس تبركاً واحتراماً لتحقيق مراد أو شفاء مريض أو أملاً في إعادة ضالّ إلى رشده، كتعبير عن الموروث الثقافي والديني والشعبي والعُرف الذي ما زال سائدا. وان كان بنسبة أدنى المكان والزمان.
(علي بدران) هي من قرى منطقة آليان التي تقع على بعد مسافة تقدر بعشرين كيلو متر شمال غرب بلدة جل آغا (الجوادية)، وأربعة وعشرين كيلو متراً شمال شرق بلدة تربه سبي (قبور البيض)، تحدّها جنوبا قرية (خوشيني) ولا يفصلهما عن بعض سوى الطريق الممتد من (رميلان) شرقا وصولا إلى (قبور البيض) غربا، هاتان القريتان المتحدتان في التاريخ والجغرافيا والطبيعة وانتماء ساكني القريتين لنفس العشيرة، وشرقا تحدّها قرية (آلا قوس) وغربها تقبع قرية (باباسية).
بنيت قرية علي بدران على ضفة نهر يأخذ جل ماءه من ينابيع قرية (عتبى) الواقعة في أقصى الشمال على الحدود السورية – التركية الدولية، على مسافة ستة إلى سبعة كيلومترات ولا يفصلهما عن بعضهما سوى قرية (شيدكة) التي تقع في منتصف المسافة بين القريتين، وتشكل حدود علي بدران الشمالية، ولكن يظل الرافد الرئيس للنهر هو نبع القرية النابض في أسفل مقبرتها في الزاوية الشمالية الجنوبية، يظللها شجرة التوت، ثالوث القرية الثالث، وكلما اتجه النهر جنوباً زاد غزارته بفضل الينابيع العديدة التي تغذيها في علي بدران، و من أراضي قرية خوشيني.
كانت علي بدران تشتهر بكروم العنب التي كانت تقع في شمالها وبساتين الفاكهة: من تفاح ودراق وخوخ وتين ومشمش وأشجار الحور التي كانت تمتد على طول النهر لتصل جنوبا إلى بساتين قرية خشوني. لكن للأسف أصبحت هذه البساتين والكروم أثراً بعد عين بسبب تغير المناخ والجفاف وجشع البشر، وبقيت فقط بعض أشجار التوت المعمرة تقاوم أنانيتنا وجهلنا وغضب الطبيعة. ورغم كل ذلك لا زالت القرية ومعها قرية خوشيني تشكلان في الربيع بطبيعتهما الخلابة مقصدا يؤمه الناس للترويح عن النفس، هذا وقد كان نبع القرية وظلال أشجار التوت حولها تشكل في العيدين (عيد رمضان والأضحى) كرنفالا يقصده عموم أهل المنطقة للاحتفال.
قرية علي بدران متوسطة الحجم فيها ما يقارب الخمسة والثلاثون منزلا بنيت ككل بيوت المنطقة من اللبن والطين، واجهة المساكن الرئيسية تتجه كالعادة نحو القبلة (الجنوب)، وتعود القرية في ملكيتها إلى بيت (أوسي) وهم جل قاطنيها الذين ينتمون مع عدة أسر أخرى إلى عشيرة (قلنك وشمخالكا)، واسم العشيرة مأخوذة من اسمي أخوين من فرسانها الأوائل هما (شمخال ومحمود)، هذا الأخير الذي غلب لقبه (قلنك) على اسمه وذلك لطوله الفارع، مع العلم إن كل أسرة تعلم إلى أي من هذين الأخوين تنتمي، وتعد هذه العشيرة من العشائر الكُردية القديمة في منطقة آليان، والى الجغرافيا الواقعة جنوب خط الحدود التركية – السورية، والتي تسمى محليا باللغة الكوردية (بن خت)، أي جنوب خط الحدود.
على الأرجح كان أفراد عشيرة قولنك وشمخالكا يقطنون في عموم قرى آليان ويجاوزونها وصولا إلى قرية (تل علو) في الجنوب الشرق، مرورا بآلا قوس ونبي سادي وشبك وجل آغا، ومن الغرب وصولا إلى قرية (ديرونا قلنكا)، وأهم قرية لهذه العشيرة في شمالي خط الحدود (سر خت) هي قرية (آلا قمش) التي ارتكب فيها (اتاتورك) أبشع جريمة بحق الإنسانية، وهذه القرية تعود إلى آل أوثمان آغا المعروفين في المنطقة، والتي أراد زبانية أتاتورك إبادتهم عن بكرة أبيهم مع عشرات الأسر من العشائر الأخرى في جريمتهم المروعة تلك، ولم ينجُ من المجزرة سوى أفراد قلة، البعض منهم هاجر بعذاباته إلى (علي بدران)، وما زال أولادهم وأحفادهم يسكنون القرية كبيت (حاجي عمر) و(يوسف خليل) و(إبراهيم عبدو) و(حجي محمد) وهؤلاء أسماء لأشخاص فرادى قد أبيدت كل أفراد أسرهم في مجرة آلا قمش عام 1926.
علي بدران كبقية أخواتها من القرى الكُردية لم تسلم من المشاريع العنصرية التي طبقت بحق الكُورد على مدى عدة عقود، فجل عائلاتها قد جردت من الجنسية، وحرمت من استملاك واستثمار أراضيها التي استملكت تحت عناوين شتّى، فكان قدر أهلها الهجرة بحثاً عن لقمة العيش في دمشق والقامشلي وبقية المدن والمحافظات السورية، وبعد سنوات الحرب الأخيرة كانت هجرتهم الثانية إلى كُردستان وتركيا واوربا كبيرة، وكذلك لم تنجِ القرية من حملات التعريب التي اكتسحت عموم قرى الكُورد بغية تغيير هويتها وهوية قاطنيها، فعلى الرغم من أن اسم (علي بدران) هو اسم عربي صرف وبالرغم من القيمة الدينية والاجتماعية للقرية لدى عموم الناس واحترامهم لها ولمشايخها، فإن جرعة العنصرية في حملات التعريب الأعمى كانت عالية، وأبت إلا أن تنال من القرية وتُجردها من اسمها كما جُرد أبنائها من جنسيتهم وحُرمت العديد منهم من أسماءهم الكُردية، فسميت القرية ظلما وعدوانا ب (البدر) الاسم الذي ما زال متداولا في قيود الدولة. لأن غاية التعريب والقائمين عليها كان محو ذاكرة الناس وطمس حقائق التاريخ والجغرافية.[1]