=KTML_Bold=الثورة البلشفية.. “ليلة القدر” الكردية – التركية=KTML_End=
حسين جمو / المركز الكردي للدراسات
تختلف هزيمة الدولة العثمانية في حرب البلقان عام 1913 عن سابقاتها من الهزائم، حيث فقدت المجتمعات المسلمة المحكومة من قبل العثمانيين الثقة في صمود هذه الدولة أما الزوال النهائي. وتصاعدت التحركات القومية على أطراف الامبراطورية للنجاة من الانهيار المحتوم، من بينها التحركات العربية المدعومة بريطانياً.
نشبت حرب البلقان بين الدولة العثمانية ودول اتحاد البلقان وهي بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود، اندلعت الحرب في أكتوبر 1912 وانتهت في 30-05-1913 بتوقيع معاهدة لندن. وأدت إلى خسارة الدولة العثمانية لغالبية أراضيها في أوروبا، كما أدت الأحداث التي تلتها إلى قيام دولة ألبانيا.
بالنسبة لمواطني منطقة كردستان، كانت حرب البلقان مقدمة لسيناريو شبيه يتخوفون منه طالما أن معظم الجغرافيا المتنازع عليها بين الأرمن والكرد تحمل اسمين لأرض واحدة؛ كردستان وأرمنستان. يفيد كتاب دوغان جتينكايا “الاتحاد والترقي وحركة المقاطعة” في الاطلاع على الجو الاجتماعي السائد خلال هذه الفترة، وما الذي كان يتخوف منه عامة الناس.
لوحظ تكرار اسم “Donanma Cemiyeti” (الجمعية البحرية) كإحدى المنظمات الفاعلة في دياربكر ضمن حركة المقاطعة ضد بضائع الدول الأوروبية، وتحولت سريعاً إلى مقاطعة بضائع المسيحيين داخل الدولة العثمانية. وقد تأسست هذه الجمعية عام 1909 بهدف جمع تبرعات للقوات البحرية العثمانية المتأخرة عن البحرية اليونانية. كانت أخبار هزائم الدولة العثمانية تتوالى على السكان في ظل إدارة فاسدة للغاية لنظام الضرائب، فكان الجميع في محنة أخلاقية؛ هل عليهم التعجيل في إنهاء النظام الفاسد؟ وإذا فعلوا ذلك، هل سيصبحون رعايا تحت سيادة المسيحيين الأرمن واليونانيين؟ لا يمكن فهم واستيعاب مسار الحركة القومية الكردية في تلك الفترة إذا تم التقليل من شأن هذين السؤالين.
=KTML_Bold=لما صمت الكرد ليلة لوزان؟=KTML_End=
والواقع فإن الأحداث العامة ساهمت بقوة في رسم ملامح الحركة الكردية في الربع الأول من القرن العشرين (1900 – 1925)، والخلاصة التي نناقشها في هذه الورقة أنه حتى عشية التوقيع على معاهدة لوزان، لم يكن التناقض الكردي – التركي هو الرئيسي بعد. وهذا الادعاء يدعمه أن الكرد كان بإمكانهم إعلان الانتفاضة في اليوم التالي لتوقيع المعاهدة، إلا أن عاملين أساسيين حالا دون ذلك؛ الأول أن سياسات ومخاطر وتهديدات الحرب العالمية الأولى (تأسيس دولة أرمنية تشمل الولايات الست وتهجير الكرد منها) كانت ما تزال قائمة في الذهنية السياسية الكردية، والثانية أن الكرد لم يقرؤوا أبعاد ومخاطر لوزان على مستقبلهم في تركيا الجديدة. العامل الأول يفسر صمت الكرد على لوزان في الشهور الأولى من التوقيع، وحين استوعب الكرد ما هي لوزان وإلى أي مدى شرعنت إلغاء الكرد من الحياة السياسية لمستقبل الجمهورية الجديدة أعلنوا الثورة في 14-02-1925.
هناك وقائع محدودة تعود لفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، تظهر محاولات كردية لقراءة التناقض الأساسي على أنه بين الكرد والترك. وهما محاولتان أدارها على قائد واحد هو عبدالرزاق بدرخان الذي كان مدفوعاً بالتحرك ضد تخلي الدولة العثمانية عن الكرد وليس على أساس العداء المطلق لهذه الدولة وتفضيل الأرمن والروس عليهم. بمعنى أن الدولة العثمانية لم تكن تقوم بواجباتها في نظر هؤلاء.
مجموعة متطوعين من الكرد والترك في اسطنبول للقتال في حرب البلقان/ الأرشيف البريطاني
كما أوردنا في مقدمة هذه السلسلة عن لوزان، في خريف عام 1913، وجه الأمير الكردي عبدالرزاق بدرخان، رسالة للكرد حذر فيها من مخطط دولي واسع يجبر الدولة العثمانية على التنازل عن قسم كبير من أراضيها في شمال أفريقيا والأناضول بعد الهزيمة الساحقة لها في حروب البلقان. كان المتداول حينها أن القوى الكبرى وضعت أركان تأسيس دولة أرمنية في حدود الولايات الست المذكورة التي يشكل الكرد نسبة 80% من سكانها بحسب رسالة بدرخان. ويشير عبدالرزاق بدرخان إلى أنه “إذا امتنعت الحكومة العثمانية عن التفريط بالكرد، ستفقد القسطنطينية وآسيا الصغرى” (هوكر طاهر توفيق – #الكرد والمسألة الأرمنية 1877 - 1920# – ص 758، 760).
في تلك الحقبة، أي بين انقلاب الاتحاد والترقي وحتى إعلان الجمهورية التركية، كانت قوات الفرسان (المعروفة باسم الحميدية) الحامي الأكبر للكرد، أو هكذا كانت في نظرهم. ولتوضيح الأمر لا بد من العودة بضع سنوات إلى الوراء.
في آذار/ مارس 1909، حدث تمردٌ في إسطنبول ضد جماعة الاتحاد والترقّي، سرعان ما تم قمعه بالقوة، وهو الحديث الذي كان محور مرافعات للشيخ سعيد النورسي الكردي، الذي كان من المتهمين بدعم الجمعية المحمدية للتمرّد الفاشل في تجمع حضره 100 ألف في آيا صوفيا.
يذكر الباحث والمؤرخ الكردي جليلي جليل في كتابه “الحركة الكردية في العصر الحديث”، حادثة طريفة عن إرسال الزعماء الكرد في ولاية آمد/ دياربكر، مركز الثقل الأول في السياسات الكردية، رسالة تهنئة للسلطان عبدالحميد الثاني، على التخلص من الانقلابيين بعد حادثة الجمعية المحمدية في اسطنبول. لم يكن قد بلغ هؤلاء الزعماء حينها أن الاتحاديين قد خلعوا السلطان عن عرشه، ومن المرجح أن البرقية وصلت إلى وجهتها.. أي إلى الاتحاديين.
=KTML_Bold=الألوية الحميدية والطاشناق=KTML_End=
لم يكن الانقسام الكردي حول المشروطية الثانية (إعادة العمل بالدستور) مجرد وجهات نظر، فالقوة المسلّحة الكبرى بقيت في أيدي الزعماء العشائريين في الأفواج الحميدية، وعلى رأسهم في ذلك الحين، الزعيم التاريخي لقبيلة حيدران الكردية، كور حسين باشا، الذي لم ترهبه مذبحة الاتحاديين ضد الأفواج الحميدية في سهل ماردين، وملاحقتهم إبراهيم باشا الملي الذي توفي خلال ذلك بالقرب من الحسكة. فقاد كور حسين باشا المقاومة ضد الاتحاد والترقي، ونجح في إجبار المجموعة الانقلابية على التخلي عن حل الأفواج الحميدية، مكتفية بتغيير اسمها، وتقليص تسليحها. لكن بقي حل هذه القوات المطلب الرئيسي لحزب الطاشناق الأرمني من الحكومة والدول الأوروبية.
في ظل هذا التضييق على سلاح الخيّالة الكردي، الوحيد، والأقوى، التفّ باشا حيدران على الاتحاديين والزعماء الكرد المؤيدين للإطاحة بالسلطان، وغادر إلى الأراضي الكردية في إيران، مصطحباً معه آلاف المسلحين ممن تبقى من قوة الطبقة التقليدية الكردية المناهضة للتغيير. وعلى رأي جليلي جليل، لم يبقَ عملياً وجود لسلاح الخيّالة الكردي في كردستان، مع نقل كور حسين باشا لقواته إلى إيران.
حاول زعماء الكرد جاهدين إحباط محاولات الحكومة العثمانية المقربة من الأرمن بين عامي 1908 – 1911، تجريد هذه القوات من السلاح. وقد أشار عبدالرزاق بدرخان إلى هذه المساعي ليس كاستهداف لفرسان عشائريين منفلتين كما جرى تصوير هذه القوات لاحقاً في التاريخ المعاصر من قبل معظم الكتاب والأكاديميين الكرد، بل إنه حذر من “تجريد الكرد من السلاح” (هوكر طاهر توفيق – ص 761).
نجح عبدالرزاق بدرخان، قبيل الحرب العالمية الأولى، في استمالة مجموعة من شيوخ النقشبندية بزعامة ملا سليم البدليسي، لقبول العمل ضد السياسة البريطانية المتحكمة بالقرار العثماني، والانحياز لروسيا في أي حرب كبيرة تلوح في الأفق. وهو تحول كبير لا يعرف مدى شموله بقية شيوخ النقشبندية الكردية. فقد تم اتخاذ موقف راديكالي للمرة الأولى تجاه السلطنة التي بات يُنظر إليها على نحو واسع منذ الانقلاب على السلطان عبدالحميد عام 1908 بأنها منسلخة عن الإسلام ويتحكم في قراراتها الأرمن والبريطانيون.
استثمر عبدالرزاق بدرخان في الاستياء النقشبندي من مجيء الاتحاديين إلى الحكم، للقيام بتجربة مختلفة والقيام بما يشبه المستحيل.
فقبل أعوام قليلة، كان احتمال تحالف نقشبندية بارزان بزعامة عبدالسلام البارزاني، مع مشيخة نهري وحلفائها، معدوماً في نظر الأتراك. لكن هذا ما حدث. فقد دفن الطرفان خلافاتهما واتحدا مع عبد الرزاق بدرخان، وضمنياً مع الروس. وجاء تحرك مشيخة بارزان في توقيت ثورة ملا سليم البدليسي. فرّ الشيخ عبدالسلام إلى أورمية وإلى تفليس(جورجيا) لفترة وجيزة. وفي طريقه لمقابلة سمكو آغا، قرب برادوست، نصب له كمين حيث سُلّم للعثمانيين وأعدم في نهاية العام 1914.
شكّل عبدالرزاق بدرخان “لجنة الإرشاد” بعد مؤتمر سرّي عقده القادة الكرد في أرضروم بتاريخ أيار/مايو 1913. وكان الأعضاء منقسمون في الولاء بين بريطانيا وروسيا.
ويورد هوكر طاهر توفيق في كتابه “الكرد والمسألة الأرمنية” تصنيفاً يكون فيه كل من عبدالرزاق بدرخان وملا سليم البديليسي وسيد علي والشيخ شهاب الدين (وهما من أحفاد الشيخ النقشبندي جلال الدين من بلدة خيزان) وزعيم قبيلة حيدران الكردية القوية، حسين باشا، من الساعين إلى الدعم الروسي والعمل ضد الدولة العثمانية.
لم يتوضح موقف السليل البارز في المشيخة النهرية النقشبندية، عبدالقادر النهري وابنه عبدالله المقيمان في اسطنبول. فيما بقي حسين بدرخان لوحده موالياً للخط البريطاني، ورغم ذلك انتخب رئيساً ل”لجنة الإرشاد” التي رفعت شعار استقلال كردستان. لكن سرعان ما اغتيل حسين بدرخان في حزيران/يونيو 1913 في ظروف غامضة اتهم فيها قادة الكرد جماعة الاتحاد والترقي بالمسؤولية عن اغتياله، ونشرت مجلة “Rojî Kurd” في عددها الثالث، نعياً مع صورته على غلاف العدد.
هذه الحادثة أخلت الطريق أمام الساعين إلى عقد صفقة مع روسيا والذين طرحوا برنامجاً سخياً للغاية تجاه الأرمن لكسب الروس، على عكس حسين بدرخان الذي ركز تحركه على إزاحة الأرمن الموالين للاتحاد والترقي. فلم يفقد الأمل في إصلاح “الانحراف” في السياسات العثمانية، بينما كان الفريق الآخر بقيادة عبدالرزاق بدرخان يرى ضرورة طرد العثمانيين من كردستان قبل كل شيء، من أجل منعها من القدرة على تطبيق بند التنازل عن الولايات الست (وان، بدليس، أرضروم، سيواس، خربوط ودياربكر). بمعنى أن الطرفين مدفوعان بالخوف من تأسيس دولة قومية أرمنية، وكل طرف اختار طريقاً لإحباط هذا المخطط. فقد كتب عبدالرزاق بدرخان بأسى أن الدولة العثمانية مجبرة على التخلي عن الولايات الست في سبيل الحفاظ على العاصمة القسطنطينية.
=KTML_Bold=أبواب روسيا المغلقة=KTML_End=
أدت عودة الاتحاديين إلى الحكم عام 1913 إلى بلورة الاتجاه الكردي الساعي إلى تلقي الدعم من روسيا. وكانت للشيخ عبدالسلام بارزاني، جهود سرية تكللت باجتماع في جورجيا مع بعض القادة الروس قبيل ثورة بدليس.
استلم ملا سليم البدليسي، الذي كان أشهر الشخصيات الدينية النقشبندية قي شمال كردستان، قيادة الحركة العسكرية، واقتحم بدليس في نيسان/ أبريل 1914، فانقلب عليه الأرمن في المدينة رغم وجود اتفاق سابق بالتزامهم الحياد. ذلك أن نتائج حرب البلقان قد غيرت برنامج السياسات الأرمنية، وباتوا يتطلعون إلى دولة كاملة الأركان، فيما سرت شائعات بين الكرد أن وجهاء الأرمن قد قسموا على الورق الأراضي الكردية فيما بينهم استعداداً لإجلاء الكرد عنها.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تعززت الفوضى في كردستان. وانخرط قسم من الكرد الغاضبين إلى القوات العثمانية لمعاقبة الأرمن والنساطرة المنحازين للروس. وقد عبّر مؤلف كاتب “تاريخ الأكراد الحديث”، ديفيد مكدول، عن شدة الحرب في كردستان بالقول: “لقد أصبح التطهير العرقي مكوّناً أساسياً في الصراع”.
طيلة سنوات الحرب (1914–1918) لم يكن للكرد قضية سياسية خاصة بهم بقاتلون من أجلها. فقد كانت سياسات “اللعبة الدولية الكبرى” قد أحالتهم إلى التقاعد منذ سنوات طويلة. وبقي شيء واحد يقاتلون من أجله؛ وهو الدفاع عن وجودهم الفيزيائي، بدون أن يكون ذلك محمولاً على برنامج سياسي قومي في تلك الحرب التي كان من المستحيل الوقوف على الحياد خلالها بالنسبة لكل الأطراف القومية والدينية. فكان الموقف أشبه ب”مصيدة دموية”؛ المشاركة في الحرب إلى جانب العثمانيين تصب في النهاية لصالح تسليط الأتراك على الكرد، أما التخلي عن العثمانيين يضع كردستان تحت الاحتلال الروسي الأرمني.
ساريكاميش.. أبواب الجحيم
في وقائع الحرب العالمية الأولى، مازالت العديد من الوقائع بحاجة إلى تقصي وتحقيق تاريخي، منها مثلاً وقائع الكرد بعد هزيمة القوات العثمانية في معركة “ساريكاميش” بقيادة أنور باشا مطلع العام 1915.
كان الجنرال الألماني، ليمان فون ساندرز، يعمل مستشاراً للقيادة العثمانية العسكرية، وعلى خلاف مع القائد العثماني الأبرز على الجبهات، أنور باشا. بالنسبة لساندرز، كان أنور مجرد “مهرج في الشؤون العسكرية” (ديفيد فرومكين – نهاية الدولة العثمانية – ص 116)، فاستمتع أنور بيقينه في النجاح بشن هجوم في ذروة الشتاء، وقال إنه وبعد تحطيم الروس سيمضي زاحفاً عبر أفغانستان لفتح الهند (فرومكين – ص117).
انتقل القتال إلى مرحلة الدفاع الذاتي للكرد عن طريق قوات محلية وعشائرية بادرت إلى شن الهجمات على القوات الروسية المتقدمة في عمق كردستان. بعض هذه القوات المحلية كانت بقيادة زعماء عشائر من قادة الألوية الحميدية سابقاً، مثل حسين باشا حيدران، وموسى بك موتكي. أو بقيادة زعماء دينيين، مثل الشيخ سعيد بيران والشيخ سعيد النورسي. والمعلومات المتوفرة عن نشاط القادة الكرد قليلة من حيث الوثائق، وانتقلت بعض تحركات هؤلاء شفهياً عن طريق الأدب الغنائي الشعبي وبعض مذكرات الشخصيات الكردية المعاصرة للمنخرطين في قيادة القتال ضد القوات الروسية، وفي حالة وحيدة هي حالة الشيخ سعيد النورسي، فقد روى بنفسه شذرات قليلة من سيرة مشاركته في قيادة القوات المحلية ضد القوات الروسية على جبهتي بدليس وشمال وان.
حين وصل مصطفى كمال إلى بدليس في ربيع عام 1916 واجه صعوبة كبيرة في إعادة تجميع فلول القوات العثمانية (الجيش الثاني والثالث والتاسع والحادي عشر) وصعوبة في تمويل حملة الهجوم المضاد الذي فشل في النهاية وسقطت كامل المنطقة من وان إلى بدليس وموش وأرضروم في أيدي القوات الروسية . خلال هذه الفترة، وقع الشيخ سعيد النورسي في الأسر، وتعرضت قوات الدفاع الذاتي الكردي إلى انتكاسة، فحدثت هجرة جماعية كردية من المناطق المحتلة، وتقدمت القوات الأرمنية المرافقة للقوات الروسية في مناطق جديدة تحت قيادة الجنرال الأرمني الشهير أنترانيك أوزانيان.
مقاتلون أرمن على جبهة وان عام 1915 / الأرشيف البريطاني
تظهر خريطة العام 1917 فشل كافة الهجمات العثمانية المضادة، واستنزفت الحرب المجتمعين الكردي والأرمني في خطوط الحرب، فكانت الحملات العسكرية تُموّل ذاتياً من موارد الفلاحين وقراهم على الطرفين، وكانت كردستان قد أصبحت أرمنستان حسب خريطة السيطرة، وكاد الشعب الكردي أن يختفي من الوجود شرق الدولة العثمانية، بينما كان الوجود التركي يواجه تحدياً وجودياً أكبر غربي الأناضول.
تحرير بلا قتال
لم تكن الهجمات المضادة للقوات العثمانية، ولا المقاومة الشعبية الكردية، هي التي عدّلت الوضع وأزالت الخطر الوجودي، بل كانت الثورة البلشفية بأكتوبر 1917 في روسيا هي التي أنقذت الكرد والترك معاً وكانت بمثابة ليلة القدر على الشعبين، وجحيماً على الأرمن. فقد تفكك الجيش الروسي المتقدم حتى بدليس، وانسحبت روسيا من الحرب، وشكل بعض الجنرالات الروس قوات أرمنية وجورجية للدفاع عن المناطق التي انسحب منها الروس، فاستعادت القوات العثمانية المبادرة واستعادت السيطرة على كل مكاسب الجيش الروسي على جبهة القوقاز منذ اندلاع الحرب في تشرين الثاني/ نوفمبر 1914. خلال الانسحاب الروسي، غادرت آلاف العائلات الأرمنية مناطقها التاريخية في وان وأرضروم وجوارهما، واستكمل بذلك الفصل الثاني من الإبادة ضد الأرمن بعد حملة 1915. في المقابل، عاد قسم من عشرات الآلاف من الكرد إلى موطنهم، ففي منطقة “ألباك” (باش قلعة) أحصى الضابط البريطاني الميجر نوئيل الذي كان يقوم بجولة في كردستان عقب الحرب عام 1919 عدد القرى المأهولة في هذه المنطقة التي كانت كثيفة السكان قبل الحرب، فوجد أن سبع قرى فقط مسكونة من أصل 180 قرية قبل الحرب. (هوكر طاهر توفيق – الكرد والمسألة الأرمنية – ص 540). وخلال سنوات الحرب اضطر كور حسين باشا، زعيم قبيلة حيدران، إلى قيادة 12 ألفاً من أفراد قبيلته والعبور بهم نحو إيران لحماية من تبقى من رعيته من الهجوم الروسي. وحسين باشا كان من الموالين لروسيا قبل اندلاع الحرب، وقد ألقت السلطات العثمانية القبض عليه منتصف عام 1915 وذلك لعلاقاته الإيجابية بالأرمن.
بالتالي، أنهت الصدامات والتجاوزات المنسوبة إلى القوات الأرمنية منذ الأيام الأولى للحرب، محاولات القادة الكرد الموالين لروسيا تأسيس مقاربة جديدة بعيداً عن الدولة العثمانية، وفي مقدمتهم عبدالرزاق بدرخان الذي أرسل تقريراً عن مشاهداته واطلاعه على هذه الانتهاكات إلى قيادة القوات الروسية في تبليسي (هوكر طاهر توفيق – 561).
=KTML_Bold=إما إسطنبول أو كردستان؟=KTML_End=
في نهاية الحرب العالمية الأولى، كان مسار العلاقات الكردية التركية معقداً للغاية. لقد نجت “شمال كردستان” من الاختفاء إلى الأبد بفضل الثورة البلشفية، بينما وقعت إسطنبول وغرب الأناضول بالكامل تحت الاحتلال الأوروبي، وكأن نبوءة عبدالرزاق بدرخان قد تحققت بشكل معاكس، فقد توقع تخلي الحكومة العثمانية عن كردستان مقابل الاحتفاظ باسطنبول، فحدث العكس حيث احتل الحلفاء إسطنبول، وانسحبت روسيا من كردستان ومعظم الأراضي الأرمنية. لكن الأوضاع كانت في غاية السوء في كل أركان الدولة، المحتلة والمحررة.
لقد أدى استحضار الرجال من الأرياف للتجنيد الإجباري الذي أصدره أنور باشا، إلى “إفساد موسم حصاد 1914 الذي كان وفيراً، مما شكل وضعاً مريعاً، فعلى مدى سنين الحرب تسبب تجنيد الرجال وحيوانات الجر والركوب، في مجاعة امتدت على سنوات” (ديفيد فرومكين – نهاية الدولة العثمانية – ص 119).
لاجئات أرمنيات يبدأن حياة جديدة في يريفان عام 1917 بعد حملة الإبادة والتهجير / صحيفة ذي غرافيك
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، عام 1918، حصدت المجاعة والإبادات معظم السكان في كردستان وأرمنستان. وكان قد دخلت إلى كردستان ثلاثة جيوش كبرى: روسيا القيصرية وبريطانيا وتركيا. خلّف الروس خلال فترة توغلهم القصير في راوندوز وخانقين بكردستان الجنوبية خراباً هائلاً جعل من غالبية السكان، بكافة شرائحهم، يحلمون مجدداً بالسيطرة التركية.
في تشرين الثاني 1918 أظهر إحصاء سكاني انخفاض عدد سكان السليمانية من 20 ألف نسمة قبل الحرب إلى 2500 نسمة بعد الحرب (ديفيد مكدول – تاريخ الأكراد الحديث – ص 186، 187). كانت الجثث تجمع في السوق كل صباح، وفي بعض الحالات كان الناس يأكلون جثث صغارهم الموتى. لقد بقيت في نهري، بلدة شيوخ النقشبندية، عشرة منازل فقط من أصل 250. وفي راوندوز 60 منزلاً من أصل 2000. وبقيت ثلاث قرى من أصل 100 قرية من قرى قبيلة “بالك” لم تسوّ بالأرض. ومن أصل ألف عائلة تقريبا من قبيلة برادوست عند بداية الحرب، بقيت 157 عائلة فقط على قيد الحياة.[1]