بيار روباري
في هذه الدراسة الموجزة التي سنخصصها لدراسة تاريخ وهوية مدينة “رقه” العريقة، التي تقع في إقليم غرب كردستان، وذلك لعدة أسباب منها: الجدل الدائر حول هويتها القومية، ثانيآ إدعاء المستوطنين والمحتلين العرب القاطنين فيها والتيار القومجي، أنها مدينة عربية، ثالثآ قولهم ليس من حق الشعب الكردي وقواته العسكرية (قوات الحماية الذاتية) الدخول إليها وحكمها، وسنتناول في هذه الدراسة النقاط والمحاور الرئيسية التالية:
1- مقدمة.
2- جغرافية مدين#ة الرقة#.
3- أثار مدينة الرقة.
4- تاريخ مدينة الرقة.
5- أصل تسمية الرقة ومعناها.
6- الوجود الكردي في الرقة والمنطقة المحيطة بها.
7- الحياة الإقتصادية في مدينة الرقة.
8- الخلاصة.
9- المصادر والمراجع.
أولآ، مقدمة:
خلال قرأتي للكثير من الكتب والبحوث والدراسات التاريخية، التي تعود للكتاب العرب المستعربة والسريان والفرس والأتراك أثناء بحثي عن المعلومات المتعلقة بالمدن التاريخية التي كتبت عنها دراسات تاريخية، إكتشفت العديد من الإمور التي تتنافى وتتناقض كليآ مع معايير البحث والأمانة العلمية والموضوعية، في تلك الكتب والبحوث والدراسات، حيث لاحظت كيف أن أصحاب هذه المؤلفات، سعوا وجاهدوا للتحايل على التاريخ ولوي ذراعه وتسويق الأكاذيب والأضاليل، بهدف واحد هو التعمية على الوجود الكردي وتضليل القارئ من خلال تحريف الوقائع التاريخية، وليقولوا في النهاية: منطقة الشرق الأوسط والتي تضم الكيانات اللقيطة الحالية التالية (تركيا، ايران، العراق، سوريا ولبنان، الكويت، ..) مناطق عربية، وفارسية، وسريانية وتركية. أي ألغوا الوجود الكردي نهائيآ من هذه المنطقة لا بل من الكون بأسره، مع العلم أن كل هذه الأراضي أراضي كردية، والشعب الكردي صاحب هذه البلاد منذ أكثر من (20.000) عشرين الف عام قبل الميلاد.
ولتوضيح الموضوع أو الصورة، سوف أورد بعض الأمثلة على ذلك وشرحها لأجل فهمٍ الأمر فهمآ صحيحآ، ويكون القارئ الكريم على بينة من حقيقة، ولا شيئ أخر.
المثال الأول:
تراهم يتحدثون عن فترة زمنية سبقت الميلاد بنحو 6000 أو 10.000 أو 15.000 أو 20.000 الف سنة، ويستخدمون مصطلح “شمال سوريا أو بلاد الشام”، والأخر يستخدم تسمية “بلاد فارس”، والثالث خلال كتابته يستخدم تسمية “تركيا” والرايع يسميها بلاد أشور والخامس العراق والسادس بلاد الرافدين، والسابع يسميها بلاد الفينقيين والأخر بلاد الكنعانيين، وبلاد الأموريين، …. إلخ
إذا أخذنا كتب التاريخ، الشواهد التاريخية، الأثار، النقوش، المنحوتات، الفخاريات، الجداريات، لأكتشفنا أنا قبل (6000) ستة الاف سنة فقط، لم يكن يعيش في هذه المنطقة كلها سوى الشعب “الخوري” وهو سلف الشعب الكردي الحالي. وكل هذه التسميات التي جئنا على ذكرها، مجرد تسميات مصطنعة وكاذبة وعارية عن الصحة وظهرت متأخرآ. لماذا؟
لأنه لا يوجد شعب في التاريخ إسمة “أشور”، فتسمية أشور في الأصل تسمية كردية وهي مقتبسة عن اللفظة الكردية “خور” وتعني إله الشمس، و الملك أشور سرق رمز الديانة الخورية اليزدانية (الرجل المجنح)، وإستخدمه عندما وضع مجسمه مكان الرمز الكردي، ولقب الإمبراطورية التي أسسها بإسمه، وهكذا ولدت الإمبراطورية الأشورية الدموية، وكانت تضم مزيجآ من الأقوام، ولكن العنصر الرئيسي في الإمبراطورية كانوا من الكرد، كونهم كانوا أصحاب الأرض. تمامآ كما فعل ابن سعود الذي أطلق إسم عائلته على النجديين والحجازيين وبقية القبائل العربية مثل المناذرة والغساسنة. فإذا كان هناك شعب سعودي في التاريخ، عندها يمكن تصديق وجود شعب إسمه (أشور).
أما الأموريين هم عبارة عن قبيلة عربية قدمت من الجزيرة للمنطقة وسكنت غرب الكرد السومريين في البادية، أي جنوب بلاد الخوريين، فأطلق عليهم السومريين تسمية الأموريين، وهي تعني بلغتهم الخورية (الغربيين). وهم ليسوا بشعب ويكذب من يدعي غير ذلك. والفينيق هي أيضآ تسمية يونانية أطلقت على الكنعانيين بسبب بيعهم للمحار الأحمر في اليونان، وكلمة الفينيق باليونانية تعني اللون البرتقالي. وبالنسبة
للأرامية أو السريانية هي فقط لغات لا أكثر وهم في الأصل لغة واحدة، التسمية السريانية حديثة.
والكنعانيين قدموا للمنطقة من عدة أمكان هما: اليمن والصومال وجيبوتي، هذا ما أكده في كتاباته أبو التاريخ المؤرخ اليوناني السيد “هيرودت”، وبالتالي هم ليسوا من المنطقة ومجرد محتلين مثلهم مثل شعوب البحر الذين إحتلوا الدولة الحثية – الكردية، والمحتلين العرب المسلمين والفرس والرومان، البيزنطيين والعثمانيين والأتراك وغيرهم.
أما بالنسبة إلى مسمى (العرب)، للأسف الكثيرين من الكرد وحتى من يسمون أنفسهم عربآ، لا يعلمون أن مصطلح “العرب” حديث العهد، ولا يعني بأي شكلٍ من الأشكال قومآ معينآ أو عرقآ بذاته. وأصل هذا المصطلح يعود للفظة الأرامية (أرابيا)، وتعني سكان الصحراء. الأصح أو الأدق كان يجب إطلاق تسمية الصحراويين عليهم بدل العرب، وهم مجموعات بشرية مختلفة، فمثلآ الذين يسكنون جنوب الصحراء أي اليمن مختلفين عن الذين كانوا يسكنون شمال وغرب الصحراء، وهذا أمر طبيعي. ولو كانوا إمة أو قوم لكان لديهم لغة مشتركة، والجميع يعلم نحن الكرد من وضعنا “نحو” اللغة العربية الحالية، أي القواعد والذي وضعها هو العالم اللغوي الكردي “سيباويه”. وحتى أول مجمع للغة العربية أسسها العالم الكردي “محمد كرد علي” في دمشق. وحتى قرأنهم ودينهم أخذوه هم واليهود عن الديانتين الكرديتين اليزدانية والزاردشتية. ومستشار محمد السيد “سلمان” كان كاهنآ زاردشتين كرديآ وليس فارسيآ، كما يدعي الكذابين والمدلسين العرب. ومن العيب والعار أن يتطاول هؤلاء الوحوش البشرية على الشعب الكردي وتاريخه وثقافته.
المثال الثاني:
يكتبون في كتبهم عن الخوريين بإستحياء ونادر للغاية، ويسمونهم (الحوريين السوريين) أو السوريين القدماء!، ونفس الشيئ بخصوص الميتانيين والحثيين، ولا يأتون على ذكر إسم الشعب الكردي إطلاقآ، بكلام أخر ينكرون وجود الشعب الكردي نهائيآ، وبكل وقاحة وصلافة ينسبون إلى أنفسهم كل من: الخوريين، السومريين، الإيلاميين، الكاشيين، الهكسوس، الميتانيين والحثيين، هذا ما يفعله العرب المستعربة، ومن يسمون أنفسهم أشوريين وسريان.
لكن الحقائق التاريخية تقول شيئآ أخر، تؤكد بصريح العبارة وبشكل لا لبس فيه، أن هذه الأقوام لا علاقة لها بالعرب لا من قريب ولا من بعيد، ولا حتى الأكديين. كل هذه الأقوام شعوب زاگروسية وهم أسلاف الشعب الكردي الحالي: عرقآ، لغة، ثقافة، أرضآ، تاريخآ، ديانة وأعيادآ، ونمط الحياة والبناء وحتى في ممارستهم طقوسهم الدينية ودفن الموتى.
المثال الثالث:
هو تغير أسماء المدن والمناطق وحتى الأنهر والجبال أي تعريبها، تفريسها أو تتريكها وهكذا، ومن ثم الإدعاء أن تلك المدن والمناطق عربية، فارسية، تركية، أشورية، وهكذا إلى نهاية هذه السلسلة من الأكاذيب والخزعبلات. وإليكم أسماء بعض المدن والمناطق والأنهر الخورية – السومرية – الكاشية – الحثية الكردية، التي تم تغير أسمائها ومنها على سبيل المثال:
1- مدينة بغدا (بغداد):
هي مدينة كاشية – كردية، حيث أن الكرد الكاشيين هم الذين قاموا ببناء هذه المدينة. وكلمة بغدا لفظة كردية مركبة مؤلفة من مفردتين: الأولى (باغ) وتعني الحديقة، والثانية (دا) وتعني الإله، وبالتالي تسمية بغدا تعني “حديقة الله”. العرب بعد إحتلالهم لأرض الكرد (سومر وإيلام والكاشيين)، أضافوا إليها حرف (الدال) فقط. ولليوم الكرد يلفظون إسم المدينة كما كان يلفظ في عهد الكرد الكاشيين (بغدا). وتسمع اليوم المحتلين والقتلة العرب، يدعون وبكل وقاحة أن المدينة عربية!!!!!
2- مدينة آمد (ديار بكر):
بعد إحتلال المحتلين العرب المسلمين الأشرار، أراضي كردستان ومن ضمها مدينة آمد، قاموا بتعريب إسمها وأطلقوا عليها تسمية (ديار بكر) كون العرب الوافدين إليها مع الإحتلال وسكنوا المدينة كانوا من قبيلة بني بكر. واليوم هؤلاء المحتلين الأوغاد يدعون بأن المدينة عربية!!!!!
3- مدينة گرگوم (مارش):
المحتلين العثمانيين – الأتراك، بعد إحتلالهم لأكثر من نصف مساحة كردستان، قاموا بتتريك أسماء
العديد من المدن الكردية ومنها مدينة گرگوم (مارش) وديلوك (عنتاب)، وديرسم (تونجلي).
4- منطقة أو إقليم الأنبار:
هي منطقة كردية واسعة بجنوب كردستان لأن الكيان العراقي اللقيط كله أراضي كردية. وكلمة الأنبار كلمة كردية رصينة وتعني المخزن بالعربي أو العنبر، وكلا المفردتين أي (مخزن، عنبر) أخذها العرب من اللغة الكردية وإدعوا كذبآ أنها مفردات عربية. المحتلين والمستوطنين العرب في العراق غيروا في نطق التسمية لإخفاء هوية الإقليم.
5- نهر تيگريس (دجلة):
هذا النهر والفرات والزاب (الكبير والصغير)، الخابور كلها أنهر كردية خالصة من المنبع في جبال كردستان وحتى خليج إيلام الكردي. المحتلين والمستوطنين العرب عربوا إسم النهر وسموه دجلة.
والفرس فرسوا تسمية الخليج وسموه (الخليج الفارسي).
المثال الرابع:
قيامهم ببناء المدن والبلدات والقرى أي المستوطنات ضمن الأراضي الكردية في عموم كردستان، ومن ثم الإدعاء إنها مدن أشورية، بابلية، فارسية، فينيقية، أمورية، رومانية، بيزنطية، عربية، تركية …. إلخ.
سأضرب مثلين على ذلك للتوضيح ومن ثم نتوسع في هذه النقطة:
المثال الأول، مدينة الإسكندرية بمصر:
جمعينا يعلم أن “إسكندر المقدوني” هو من أمر ببناء هذه المدينة الساحيلة على البحر المتوسط، ولم يقم المصريين بتغير إسم المدينة. تأسست الإسكندرية في عام 331 قبل الميلاد كمدينة على الطراز اليوناني. وأصبحت الإسكندرية في عام 250 قبل الميلاد، أكبر مدينة في حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي وضع مخططها المهندس الإغريقي “دينوقراطيس”، بتكليف من الإسكندر وحملت اسمه.
السؤال هنا: هل الإسكندرية مدينة يونانية أم مدينة مصرية؟
أولآ، الذين بنوا المدينة هم العمال المصرين وبذنودهم بُنيت هذه المدينة الساحلية، وإن كان الذين خططوا لها هم اليونانيين أو المقدونيين وبنيت على الطراز اليوناني. ثانيآ، المدينة بنيت بأحجار مصرية وعلى أرض مصرية، فهي بالتالي مدينة مصرية من بابها لمحرابها وإن كانت بلمسة يونانية.
هناك مدن أخرى كثيرة مثل هذا النموذ، مثل مدينة إسكندرونة وأنطاكيا واللاذقية في إقليم ألالاخ بغرب كردستان على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ومدينة غرناطة في أسبانيا، ومدينة الجزائر في الجزائر ومدن كثيرة في جنوب كردستان مثل السماوة.
هناك فرق كبير بين بناء صرح عمراني أو مدينة بنموذج معماري معين (فرعوني، حثي، روماني، أو بروكي، … إلخ)، وبين البلد الذي بني فيه ذاك الصرح أو المدينة. سأضرب لكم مثلآ على ذلك وهي مدينة “بيترو سبورغ” الروسية، حيث بُنيت على الطراز الأوروبي من أولها إلى أخرها، والذين وضعوا مخططها هم المهندسين الغربيين، ومع ذلك تبقى مدينة روسية وإن كان بروح معمارية غربية واضحة للعيان.
المثال الخامس:
هو سعي أكثرية الكتاب المؤرخين العرب، الفرس، الأتراك، الأشوريين الحثيث، الفصل التام بين الشعب
الكردي وأسلافه من: (الخوريين، الإيلاميين، الكاشيين، الحثيين، الميتانيين، الهكسوس، السوباريين، الأورارتيين، اللوريين، الكوتيين، الكرمانج)، والقول أن الكرد لا أصل لهم، وهم في الأصل فرس أو غير معروفة أصولهم أو هم عربآ كردوا أي طردوا من ديارهم، أو أتراك الجبال.
وفي السنوات الأخيرة غدوا أكثر عنصرية وشراسة وأخذوا يتصرفون كالمبتوريين، بعد بروز القضية الكردية سواءً في جنوب كردستان أو في غربها، وبروز جيل جديد من الكتاب والمؤرخين والباحثين الكرد المسلحين بالعلم والمعرفة والجادين، ولهم مصداقية بحثية ولا يعملون بحسب أهوائهم، وإنما ينتهجون المعايير البحثية والعلمية في أبحاثهم ودراستهم المتنوعة، ولم يعد بإمكان هؤلاء أن يسرحوا ويمرحوا كما كانوا يفعلون في الماضي ويسوقون الأكاذيب، عندما أهمل أجدادنا كتابة التاريخ.
ثانيآ، جغرافية مدينة رقه:
مدينة رقه تقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات، ويبلغ مساحتها كمحافظة حوالي (19.620) كم2 مربع وبغ عدد سكانها إلى ما قبل الثورة حوالي (300.000) ألف نسمة كمدينة، وكمحافظة بلغ عدد سكانها حوالي (1.000.000) مليون نسمة تقريباً. وتشكل مدينة الرقة والمنطقة المحيطة به نقطة وصل بين منطقة قامشلو والحسكة وشنكال في الشرق، ومدينة كوباني، وگرگاميش، والباب والسپيرة ومدينة هلچ (حلب) ومنطقة الشهباء. وتبعد مدينة الرقة عن حلب بحوالي (200) كم، وعن مدينة دير الزور نحو (135) كم، وعن الحسكة نحو (230) كم.
خريطة سوريا وموقع مدينة الرقة
تمتاز مدينة الرقة والمنطقة المحية بها بتنوعها المناخي ومقوماتها الطبيعية والسياحية، إضافة لثرائها بالمواقع الأثرية الكثيرة والموغلة في القدم، مثل: سور الرافقة الأثري، باب بغداد، الجامع العتيق، قلعة جعبر، مدينة الرصافة، سورا، هرقلة، زالبا، حصن مسلمة، تل الخويرة، وعشرات من التلال الأثرية
المتموضعة على ضفاف نهري الفرات والبليخ، ومن أهمها “تل المريبط” المغمور تحت مياه بحيرة سد الطبقة، والذي شهد أول استيطان بشري في العالم، ويعود إلى الألف التاسع قبل الميلاد، وتل أبو هريرة، وعناب السفينة ،والشيخ حسن، وغيرهم من المناطق والتلال. ويتبع مدينة الرقة العديد من المدن والبلدت من أهمها:
1- مدينة الطبقة: التي تضم سد الفرات وبحيرة الفرات، ويتبعها ناحية المنصورة، وناحية الجرنية حسب التقسيم الإداري الحالي.
2- مدينة گريه سپي: ويتبعها ناحية سلوك، وناحية عين عيسى، حسب التقسيم المتبع حاليآ.
أما مدينة الرقة نفسها فيتبعها النواحي التالية: ناحية الكرامة، ناحية معدان، وناحية السبخة.
ويتوفر في محافظة الرقة مخزون مائي كبير ويتعبر هو الأوفر إذ يجري نهر الفرات في أراضيها قاطعاً مسافة تتجاوز (180) كم، ويشكل سد الفرات وبحيرته البالغة مساحتها (674)كم2 ومخزونها
المائي (14) مليون متر مكعب، هذا إضافة إلى بحيرة سد البعث بمساحة قدرها (27)كم2. وإلى جانب كل ذلك هناك نهري البليخ والجلاب، وبحيرة “العلي باجلية” القريبة من مدينة گريه سپي، والدلحة التي تقع إلى الشرق من مدينة الرقة.
والمناخ في منطقة الرقة، يمكن القول شبه قاري بخلاف الحال ما هو عليه في المناطق الساحلية كون الرقة منطقة داخلية وبعيدة عن الجبال، وتقع على حدود البادية. لذا تتمتع المنطقة بمناخ حار وجاف. يقتصر هطول الأمطار في المنطقة على أشهر الشتاء فقط. ويمكن أن تصل درجات الحرارة في الشتاء إلى مادون الصفر (0)، وفي الصيف تصل درجات الحرارة إلى ما فوق الأربعين (40) درجة مئوية.
والخاصية الثانية التي يتمتع بها جو مدينة الرقة، هو أنه في الليل يجمع بين الرطوبة والنسمات الباردة التي يميزها، وهذا على ما يبدو جعل ملوك بني العباس أخذها مصيفآ لهم، والامير الاموي هشام بن عبد الملك. وتذكر كتب التاريخ أنه في عهد “هارون الرشيد”، الطريق من الرقة وحتى مدينة بغداد كانت الأشجار طريق موكب هذا الأخير، كي لا تصل الشمس إلى عربته التي كانت تجرها الخيول، ويقال أنه قال لحاشيته بعد تركه بغداد: “نِعمَ الدار هي لكنني أريد المناخ”، ذلك لأن مناخ الرقة، وبصورة خاصة في الصيف، كان يوافق صحة الرشيد ومزاجه العكر.
ثالثآ، أثار مدينة الرقة:
قبل الحديث عن أثار المدينة، لا بد من التنويه أننا عندما نتحدث عن مدينة الرقة نتحدث عمليآ عن ثلاثة مدن وهي: مدينة “رقه” الخورية وهي الأصل، ولكن تاريخها غير معروف بسبب تدميرها. والثانية هي مدينة “كالينيكوس” نسبة إلى سلوقس الأول مؤسس المدينة عام 244 أو 242 قبل الميلاد، التي بناها المحتلين الرومان على أنقاض المدينة الخورية، وفي العصر البيزنطي كانت المدينة مركزاً اقتصادياً وعسكرياً مهمآ، نظرآ لموقعها الجغرافي والمائي على نهر الفرات. والمدينة الثالثة هي مدينة “الرافقة”، التي بناها الخليفة العباسي منصور عام (772) ميلادي. وملاحظة هنا هي أخرى أن النسبة الكبرى من المدن والقرى الخورية – الميتانية – الحثية الكردية، تم تعريب أسمائها ومنحت إسماء عربية بغيضة، كي تكونوا في الصورة ولا تتفاجئوا.
مدينة الرقة تحتوي على الكثير من الأثار التاريخية، والتي تعود لمراحل تاريخية مختلفة. وما هو موجود اليوم، في أكثريتها تعود لحقبة الإحتلال الروماني – البيزنطي لوطن الخوريين، وحقبة الإحتلال العربي الإسلامي وتحديدآ الفترة العباسية. وللأسف فإن الأثار التي سبقت هاتين الحقبتين، والتي تعود للحقبة الخورية والميتانية، دمرت كليآ ولم يبقى منها شيئ حتى للدراسة، وهذا أمر محزن من الناحية البحثية التاريخية، ومن حيث الإرث الإنساني وخاصة للشعب الكردي صاحب العلاقة.
الرقة عبارة عن متحف كبير، فأينما اتجهت في جهاتها الأربع تسير على طرق سهلية تنتشر إلى يمينك ويسارك تلال، وفي علم الآثار كل تل لابد أن حياة دبت فيه قبل قرون أو آلاف السنين. وتتنوع الآثار في الرقة بتوزعها زمنياً على العصر الخوري، الميتاني، الآشوري، الروماني، البيزنطي وصولاً إلى العهد الإسلامي حتى العصر العباسي.
ولا شك أن نهر الفرات العظيم سبب وجودها وإستمراها لليوم، وهو الملمح الجمالي الأبرز في المدينة وظلت قرون طويلة بلدة كبيرة، وفقط في العقود الثلاثة الماضية تحولت من بلدةة كبيرة إلى مدينة. وشهدت المدينة في عهد “هارون الرشيد” إزدهارآ في مسار المدن المشعة، وبعد مجموعة الغزوات والزلازل الطبيعية دخلت مدينة الرقة في سبات طويل.
المدينة الواقعة دخل السور، هي مدينة الرقة الأساسية والتاريخية، التي بناها البيزنطيين على أنقاض المدينة الخورية الأصلية والتي كانت تحمل إسم “رقه”، وسنتحدث عن معنى هذه التسمية واللغة تنتمي إليها في فقرة خاصة لاحقآ، ومجمل الأثار الموجودة داخل السور تعود للحقبة الرومانية – البيزنطية،
كون المدينة كانت مركزآ للأسقفية في عام (432) ميلادية. وتم إحاطة المدينة بسور ضخم في عهد الامبراطور”جوستنيان الأول” الذي عاش بين الأعوام (527 -565) ميلادية، ويمتد طول السور نحو (560) مترآ، وعرض نحو (430) مترآ، أي هذا بني على شكل نعل الفرس أي شبه مسطيل ومساحة هذا المستطيل بلغت نحو (23) هكتاراً، ومن هذه الأثار:
الكاتدرائية الكبرى الواقعة في الجزء الجنوبي الشرقي من المدينة القديمة، وهي برأي الخبراء أجمل الأبنية، وقد استخدم قسمها الشمالي كجامع في القرن الثالث عشر الميلادي. والكنيسة الكبرى (كنيسة الشهداء) الواقعة جنوبي الباب الشمالي للمدينة بنحو 100م. ومبنى المارتيريوم (مبنى الشهيد) بالقرب من الباب الشمالي. وكنائس أخرى، ومبان سكنية، وخزانات مياه ومستودعات.
وما يقع خارج السور من أثار، هي في مجملها تعود للحقبة العباسية العربية الإسلامية. وفي الحقيقة هي مدينة جديدة تقع خارج مدينة الرقة، وإسمها “الرافقة” وبناها الخليفة العباسي “المنصور” عام (772) ميلادي كمقر ثاني وإستخدمه لاحقآ “هارون الرشيد” كمقر صيفي له بدلآ من بغداد، كون جوها حار في الصيف، هذا بعد أن إحتلها الغزاة العرب المسلمين سنة (638) ميلادية. ومن أهم معالم مدينة “الرافقة” التي سلمت من التدمير المغولي في سنة (1371) ميلادي هي: سور المدينة المتخذ شكل نعل الفرس الذي ما يزال نصفه الشرقي قائما حتى الآن، من باب بغداد حتى الباب الشمالي. وفي داخل السور ما يزال يوجد قصر البنات الشهير، ومسجد الرافقة الذي أعيد ترميمه حديثاً.
هذا بالإضافة إلى العديد من المواقع التاريخية في منطقة الرقة مثل: “موقع صفين، وموقع النخيلة على الجانب الأيمن من الفرات، موقع البيعة، موقع هرقلة على الجانب الأيسر من الفرات” والتلال الأثرية والخرائب القديمة. ومن المعالم الأخرى التي تشكل مقصداً للسواح والمتنزهين: عين عروس بالقرب من (گريه سپي) والتي تشكل منبع نهر البليخ، وبحيرة الطبقة الضخمة التي تشكلت خلف سد الفرات المنجز سنة 1973، بمساحة تقارب من (630كم2) .
أشهر آثار مدينة الرقة ومعالمها:
سنتوقف عند أهم المواقع الأثرية في منطقة الرقة، ونتحدث عنها بإقتضاب، لأن كل موقع أثري من هذه المواقع، في الواقع بحاجة إلى بحث ودراسة كاملة ووضع عدة كتب عنها، وكما أوردنا في هذه الدراسة سوف نركز على هوية مدينة الرقة وتاريخها.
1/ سور المدينة:
صور المدينة الحديثة أي الرافقة، واحد من أهم الأثار التي ما زالت جزءً منه في حالة مقبولة، وإن لم يكن كل السور. وقد شيد هذا السور بالأجر، وهو عبارة عن سورين ويفصل بينهما قناة مائية تأتي من بالماء من نهر الفرات وتعود إليه ثانية أي القناة. ويحيط بالسور الخارجي، خندق عند الضلع الجنوبي منه والذي كان محاذياً للنهر. يبلغ طول السور حوالي (5) كم، ويضم بين جنباته مساحة تقدر بحوالي (5.1) مليون متر مربع أي ما يعادل (1.47) كم2. والسور مُدعم بالأبراج على طول إمتداده. وفي عام 1975 أعيد إنشاء الأبراج من قبل مديرية الآثار في المدينة، وبشكل خاص تلك التي تدعم السورين الشرقي والجنوبي تحديدآ. يبلغ سمك السور الداخلي حوالي (8.5) متر، وللأسوار بابان كبيران، باب في الزاوية الجنوبية الغربية ويسمى “باب الجنان”، وباب في الزاوية الجنوبية الشرقية يسمى “باب بغداد”، إلى جانب ذلك هناك بابان صغيران هما: الباب الجنوبي والباب الغربي.
ويصل قطر السور المحيط بمدينة الرافقة إلى (1300)م، كما يصل طول كتلته السميكة إلى 5 آلاف متر. مخطط المدينة هو على شكل حدوة حصان، وهو نسخة عن مخطط مدينة بغدا (بغداد) التي بناها
الكاشيين – الكرد. تم تحصين محيط المدينة بعدة طبقات دفاعية بما فيها خندق بعرض (15.9) متر، وجدار خارجي وداخلي سميك على قاعدة حجرية. تم إنشاء الجدار الداخلي من الآجر النيئ في الوسط مع طبقة من الآجر في كل جهة، وتم تدعيمه بي (132) برجاً مستديراً موزعآ بانتظام على كامل محيطه، تفصل بينهما مسافة تتراوح بين 25 و28 متر. يصل محيط كل برج من هذه الأبراج إلى حوالي (15-16) متر، وعمقه يصل إلى نحو (5.35) متر.
جزء من سور الرافقة
2/ باب بغداد:
يقع باب بغداد في الزاوية الجنوبية الشرقية على السور الخارجي للمدينة. وليس معروفآ بالضبط متى تم إنشاء “بوابة بغداد”. لكن طريقة بنائها على شكل أقواس مدببة، وأسلوب الزخرفة باستخدام الآجر التي أخذوها عن العمارة الكردية الساسانية في القرن الحادي عشر كأبراج خراقان. نظن أنها بنيت بعد القرن العاشر بناءً على تلك الشواهد والمعالم المعمارية.
تقسم واجهة بوابة بغداد إلى قسمين:
القسم السفلي: الذي يحوي الممر المسقوف بقبوة وشكل فتحتين مغلقتين.
القسم العلوي: يصل ارتفاعه إلى حوالي (4.4) متر، وهو مزخرف بمجموعة من الكوى ثلاثية الفصوص والإطارات، وذات دعائم كثيفة وأقواس مقلوبة. وترتكز جميعاها على عمدان مضمومة في الجدار. ومن الكوى الإحدى عشر، ما زال ثمانية كوى منها في حالة جيدة.
وتدل الخواص الفنية للبوابة، وعدم وجود أية عناصر دفاعية فيها، وموقعها ضمن السور الخارجي الضعيف، على أنها لم تنشأ للدفاع عن المدينة، وإنما بنيت كتحفة معمارية للتباهي أمام الأخرين خلال الاحتفالات الكبيرة.
باب بغداد بمدينة الرافقة
وعرض واجهة البوابة تصل لحوالي (7.57) متر، وإرتفاعها حوالي (5.20) متر، وهي محاذية لبرج متصل بالسور، وفتحة البوابة حوالي (2.5) متر، ويعلوها قنطرة ذات قوس مكسور. وعلى جانبي الباب حنيتان زخرفيتان ويعلو هذه الواجهة، أفريز عريض مؤلف من صفين من الحنيات السفلى تتلوها أقواس نصف دائرية والحنيات السفلى تعلوها أقواس مفصصة ثلاثية، ويحيط بالأفريز إطار بارز. وينفتح الباب من الداخل إلى “درگاه” ضمن صيوان بعمق متر كانت تعلوه قبة. ولمن لا يتقن اللغة الكردية مصطلح “درگاه” تسمية كردية وتعني البوابة، وهي مأخوذة عن كلمة “دري” وتعني الباب. وسوف نشرح المصطلح باللغة الكردية أيضآ لنؤكد صحة ما قلناه.
Der: خارج
-geh: (paşgîn e): لاحقة
Dergeh: بوابة
Der —– der + geh —– dergeh: بوابة
Dergevan: البواب
Derî: الباب
3/ قصر البنات:
قصر البنات بُني على أنقاض مدينة “الرافقة” التي تشكل الآن جزءً من مدينة الرقة، وبعد ترميم معظم أجزاء القصر قبل إندلاع الثورة، عادت ملامح القصر إلى عهدها السابق، وباتت تفاصيلها أكثر وضوحآ بعد ترميم معظم أجزائه.
والقصر يقع في الجهة الشرقية الجنوبية من مدينة الرقة الحالية، وضمن أسوارها لم يبق منه إلا الأطلال الضخمة، يعود إلى القرن (12) الثاني عشر الميلادي. وعندما زار العالم “هرزفيلد” عام (1907م) أعد مخططا للقصر، وفي ذاك الوقت كانت أطلال القصر أكثر إرتفاعا بما يقرب من عشرة أمتار.
التنقيبات:
أعمال التنقيب والترميم في هذا القصر تمت ضمن نطاق المشروع الاستثنائي للآثار في الرقة التي قامت به الهيئة العامة للآثار في سوريا. ومنذ عام 1977 م تأكد من خلال دراسة الخزف والأواني التي عثر عليها في الموقع أنه يعود إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر أي إلى العصر الأيوبي، وهذا يؤكد ما جاء على لسان المؤرخين أن هذا القصر لم يسكن بعد العصر الأيوبي، ومن المؤكد أنه هجر بعد حريق هائل شب فيه.
يتألف قصر البنات من باحة مركزية تطل عليها أربعة “أواوين”، ولها مدخل رئيسي مرتفع في الناحية الجنوبية، يقابله في أقصى الشمال، صالة خلفها حجرة وإلى جانبيها حجرتان، وتطل الصالة على باحة ورواقين، ويمتد القصر شرقآ وغربآ لمسافة تحت الشوارع القائمة، ولهذا لم تكتمل عمليات الكشف في المكان بسبب ذلك. بعد أن أعيدت الجدران والفتحات والأروقة إلى وضعها الأصلي بفضل عمليات الترميم، أصبح القصر واضح المعالم. ووجب التنويه، أن كلمة “أيوان” كلمة كردية معربة وتعني غرفة الضيوف أو المعيشة.
قصر البنات من الجهة الشمالية الغربية
4/ قلعة دو– سر (جعبر):
بداية مصطلح القلعة، تسمية كردية معربة، وهي مأخوذة عن الكلمة الكرية (كالوت) وتعني المدينة.
قلعة “دو- سر” (جعبر) صرحٌ قديم ومبني فوق الماء، ويعود تاريخ القعلة إلى ما قبل الميلاد بمئات الأعوام، أي قبل الغزو والإحتلال العربي الإسلامي لبلاد الكرد كردستان. اسمها الأصلي قلعة “دوسر”، كون لها رأسين رأس في الماء وأخر على اليابسة. وليس صحيحآ ما إدعاه الكتاب العرب المستعربة زورآ، بأنها تعود لي “النعان بن المنذر” ملك الحيرة. وعرفت القلعة بإسم (جعبر) في عهد السلاجقة
عندما تملكها الأمير جعبر بن مالك المتوفي سنة (470ه). تقع القلعة شمال غرب مدينة الطبقة بنحو (10) كم، وتشرف على بحيرة الطبقة من الشمال، وينتصب فوق القلعة منارة عالية مستديرة الشكل، وتبعد عن مدينة الرقة الحالية حوالي (53) كيلو متر.
وتقوم القلعة على هضبة كلسية بيضاوية الشكل، وترتفع عما حولها زهاء (50) مترآ. وهي ذات سورين يضمان عددآ من الأبراج تزيد عن خمسة وثلاثين برجآ، بعضها مضلع والبعض الأخر نصف دائري، وأكثرها مهدم أو زائل. وأبعاد القلعة هي (320م×170م) ويحيط بها سوران ضخمان يحيطان بمنشأت القلعة، وفي وسط القلعة تم تشييد مسجد لاحقآ وذلك في الحقبة الإسلامية، وفي أقصى الجنوب هناك أحد الأبراج، ورمم بشكل جيد وحول إلى متحف لآثار القلعة، وأصبح يضم الاكتشافات التي تمت في القلعة.
مكونات القلعة:
أولآ، سوران:
يحيط بالقلعة سوران مبنيان من الآجر، يفصل بينهما ممر صغير، ضمن هذين السورين يوجد (35) برجاً مختلفة الأشكال مهمتها حماية القلعة. وللتوضيح كلمة (برج) مصطلح كردي معرب وهو مأخوذ عن المفردة الكردية (برگ)، وتعني العالي أو المرتفع، ومنها إشتقت كلمة البرجوازية.
ثانيآ، البوابة:
البوابة تقع في الجزء الغربي من القلعة، وتم تشييدها من الآجر. وهذه البوابة تفضي إلى الباحة، وتؤدي إلى برج عالي مخصص للدفاع، الذي يبعد عن البوابة بحوالي (100) متر.
ثالثآ، الباحة:
باحة القلعة كبيرة نسبيآ، إذا ما قورنت بمساحة القلعة.
رابعآ، النفق:
النفق موجود على يسار الباحة، وقد حفِر بالصخر، وينتهي إلى سطح القلعة ويبلغ طوله حوالي (50) م.
خامسآ، المسجد:
المسجد حديث بالنسبة لتاريخ بناء القلعة، ويقع في وسطها، له مئذنة قائمة إلى تاريخ اليوم، وتطل على كل ما يحيط بها.
سادسآ، البيوت:
تقع البيوت في جنوب غرب القلعة، وكانت مخصصة للأمراء والحاشية، وهي اليوم مغطاة بالرمال.
سابعآ، المدافن:
المدافن محفورة بالصخر، وتعود أغلبها إلى العهد البيزنطي.
قلعة دو- سر (جعبر) على بحيرة الطبقة.[1]