مير عقراوي
مقدمة لابُد منها : كانت ومازالت الدول الجارة للكرد وكردستان تستخدم الدين في شتى محاورها ومقاصدها ومنافعها ؛ في تعزيز قومياتها وبلدانها وسياساتها العنصرية والجائرة ، وفي التوسّع الجغرافي ، وفي ضدية الكرد وكردستان وآنكارها لجميع حقوقهم المشروعة بشرائع الأرض والسماء .. وكل ذلك بآسم الدين وتعاليمه ، وتحت شعاره ، وبآسم الأخوة الدينية .. هكذا كانت مواقف الدول المتقاسمة لأجزاء كردستان في الماضي ، وهي مستمرة الى آمتدادات أيامنا هذه ..
فالدول التركية ، الإيرانية ، العراقية والسورية تفسر الإسلام بعقلياتها القومية ، وضمن مصالحها الوطنية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية وغيرها ، وهذا هو التوظيف السيءُ للغاية وغير المشروع للدين . إذ هم بذلك إستخدموا ويستخدمون الإسلام ضد الكرد وكردستان ، ولأجل الفتك بهم ولغوهم وتبرير محاربتهم وإخراجهم من مسار التاريخ . وبالمقابل لعدم إقدام الكرد على تفسير الإسلام وفهمه بالعقلية الكردية ، وضمن المصالح القومية والوطنية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية فقد خسر خسراناً مبياً وفادحاً من جميع النواحي والمحاور ، وربما لا يمكن تعويضه قط في أية مرحلة تاريخية آتية على الإطلاق ، عليه نتساءل : كيف للكرد بآمكانهم تعويض الخسائر العظمى المختلفة للحقبة التاريخية من الحرب العالمية الأولى [ 1914 – 1918 ] ، ولغاية عامنا هذا حيث [ 2020 ] مثلاً ، هذا ناهيك عن الحقب التاريخية قبلها ..؟
لقد آستخدمت حكومات العراق المتعاقبة المفاهيم الدينية والرموز الدينية في حقبة الستينيات الماضية من القرن العشرين المنصرم وما بعدها ضد الشعب الكردي المسلم بغالبيته في إقليم كردستان – العراق في عملياتها العسكرية الهجومية العدوانية الغاشمة ، مثل : [ توكلنا على الله ] ، و [ الله أكبر ] ، و [ لاإله إلاّ الله ] ، أو إستخدام إسم سورة قرآنية ، وهو سورة [ #الأنفال# ] خلال أعوام [ 1987 ، 1988 و1989 ] من القرن الماضي من قبل السلطة البعثية الصدامية السابقة . وبذلك أباحت وآستباحت السلطة العراقية المذكورة الدماء والأعراض والأموال المحرمة للشعب الكردي في إقليم كردستان – العراق .
علاوة على آستخدامها الأسلحة المحرمة دولياً كالغازات والقنابل الكيماوية الفاتكة بالبشر ضد المدن والمناطق الكردية ، حيث كانت أفظعها وأخطرها قصف مدينة حلبجة بالقنابل الكيماوية فذهبت ضحيتها أكثر من [ 8000 ] آلاف كردي من المدنيين الأطفال والنساء والرجال . أما هجمات الأنفال الوحشية والطَغَامِيَّة من جميع الوجوه فإن سلطة البعث الصدامية البعثية السابقة أبادت نحو [ 182000 ] ألف كردي من الأطفال والنساء والرجال والشباب الكرد المدنيين ، وذلك عبر القتل الجماعي ، أو دفنهم وهم أحياءٌ في مقابر جماعية في جنوب العراق وصحاري عرعر على الحدود العراقية – السعودية ، وقد بلغت السفالة والنذالة للحكومة العراقية البعثية الصدامية أوجها وذروتها في عمليات الأنفال الوحشية ، هي آختطاف البنات والنساء الكرديات وبيعهِنَّ لعرب الخليج ومصر كسبابا حرب ، مضافاً إبادتها للآلاف من الكرد الفيليين والبارزانيين في فترة الثمانينيات الماضية من القرن الماضي ! .
فالدول المجاورة لكردستان لم تفكر قط بمدى الظلم الصارخ والجريمة الكبرى والخطورة العظمى مما أقدموا عليه ؛ سواءً آستخدام الإسلام ضد الشعب الكردي ، أو محاولة آقتلاعه من الجذور وإبادته وآقتراف الجرائم الشنيعة بآسم الإسلام ضده . ولو كان لديهم أدنى قدرٍ من الإنسانية والإيمان ، أو وعيٍ صحيح ولو بالحد الأدنى بالإسلام لفهموا أنَّ ما أقدموا عليه ومايزال لا يجوز وهو ظلم وعدوان ٌبحق الإنسانية وحسب ، بل هو أيضاً جريمةٌ عظمى بحق الإسلام وكتابه العزيز ونبيه العظيم وسنته وسيرته الشريفة .
فما أقدموا عليه لم يكن بالحقيقة إلاّ تشويهاً وتعييباً للإسلام والمسلمين وتاريخهم للأسى البالغ في العالم ، بخاصة في هذه الحقبة الحساسة جداً من التاريخ ، ثم جاءت الضربات التشويهية الأخرى للإسلام والمسلمين من قِبَل التنظيمات التكفيرية الوهابية السلفية الإرهابية الغارقة في التخلُّف والتطرُّف والدموية والوحوشية ، مثل منظمة القاعدة وما تناسل منها من تنظيمات إجرامية كداعش وجبهة النصرة وطالبان بشِقَّيْها الأفغاني والباكستاني وبوكو حرام في نيجيريا واشباهها في سائر البلدان الذين آرتكبوا كبرى الجنايات والجرائم ضد الشعوب والبلدان لمزيد من الأسى والأسف ، وكل ذلك بآسم الإسلام وكتابه وتوحيده ونبيه ، وهم من هؤلاء المارقين المتخلِّفين ، حيث خوارج العصر والزمان براءٌ ، كل البراءة .
إن المعنى الحقيقي للفظ [ الأنفال ] ، هو الغنائم العسكرية في ساحات المعارك حصراً ، وذلك بعد آنتصار جيش على جيش آخر في ساحة المعركة الذي يغنم ويُصادر الأسلحة والأموال للجيش المغلوب والمنكسر . لذلك لا يجوز بأيِّ شكل من الأشكال إطلاق حملة عسكرية على المدنيين تحت مسمى الأنفال ، أو غيره من المفاهيم الدينية سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين . فذلك يتناقض مع الإسلام وتعاليمه الإنسانية . فالمدنيون في الإسلام لا يدخلون ضمن العمليات العسكرية ، أو في دائرة الإستهداف والإنتقام تحت أيَّ ظرف كان . أما إن السلطة البعثية العراقية الصدامية المنحلَّة لم تناقض الإسلام وحسب ، بل إنها أجرمت إجراماً لاحد له بحق الإسلام والمسلمين ، بخاصة إزاء الشعب الكردي المغدور تاريخياً .
تفسير الجزء الأول من سورة الأنفال :
النص ؛ { بسم الله الرحمن الرحيم * يسألونك عن الأنفال * قُلِ الأنفالُ لله والرسولِ فآتقوا الله وأصِلحوا ذات بينكم * وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين(1) إنما المؤمنونَ الذين اذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قلوبهم واذا تُلِيَتْ عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون(2) الذين يُقيمونَ الصلاة َومما رزقناهم يُنفقون(3) أولئك هُمُ المؤمنونَ حقاً * لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ(4) كما أخرجك َربُّكَ من بيتك َبالحق ِّوإن فريقاً من المؤمنينَ لكارهونَ(5) يُجادلونك َفي الحق ِّبعدما تبيَّنَ كأنما يُساقون َالى الموتِ وهم يَنظرون(َ6) وإذْ يَعِدُكَ اللهُ إحدى الطائفتينِ أنها لكم وتَودُّونَ أن غير ذاتِ الشوكةِ تكونُ لكم * ويريد ُاللهُ أن ُيِحقَّ الحقَّ بكلماته ِويقطعَ دابرَ الكافرين(َ7) لِيُحقَّ الحقَّ ويُبطلَ الباطل ولو كَرِهَ المجرمون(َ8) إذ تستغيثونَ رَبَّكم فآستجابَ لكم أنَّي مُمِدُّكم بألفٍ من الملائكةِ مُرْدِفِيْنَ(9) وما جعلهُ اللهُ إلاّ بُشرى ولِتطمئنَّ به قلوُبكم * وما النصرُ إلاّ من عند الله العزيزِ الحكيمِ(10) إذ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أمَنَةً ويُنَزِّلُ عليكم من السماء ماءً لِيُطَهِّرَكُم به ويَذهَبَ عنكم رِجْسَ الشياطينِ ولِيَرْبِطَ على قلوبكم ويُثَبِّتَ به الأقدام(11) إذ يُوحي رَبُّكَ الى الملائكة أني معكم فَثَبِّتوا الذين آمنوا * سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرُعْبَ فآضربوا فوقَ الأعناق وآضربوا منهم كلَّ بَنَانٍ(12) ذلك بأنهم شاقُّوا اللهَ ورسولَهُ * ومن يُشاقِقِ اللهَ ورسولَهُ فإن اللهَ شديدُ العقاب(13) ذلكم فذوقوه وأن للكافرينَ عذابَ النار(14) يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتُمُ الذين كفروا زحفاً فلا تُوِلُّوهُمُ الأدبارَ(15) ومن يُوَلِّهِمْ يومئذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتحرِّفاً لقتالٍ أو مُتحيِّزاً الى فئةٍ فقد باءَ بغضبٍ من الله ومأواهُ جهنَّمُ وبئسَ المصيرُ(16) فَلَمْ تَقتلوهُمْ ولكنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ * وما رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ ولكنَّ اللهَ رمى * وَلِيُبْلِيَ المؤمنينَ منهُ بَلاءً حسناً * إن اللهَ سميعٌ عليمٌ(17) ذلكم وأنَّ اللهَ موهِنُ كيدِ الكافرين(18) إن تستفتحوا فقد جاءكُمُ الفتحُ * وإن تنتهوا فهو خيرٌ لكم * وإن تعودوا نَعُدْ ولن تُغنِيَ عنكم فِئَتُكُمْ شيئاً ولو كَثُرَتْ * وأن اللهَ مع المؤمنين(19) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ ورسولَهُ ولا تَوِلَّوا عنه وأنتم تسمعون(20) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون(21) إنَّ شَرَّ الدَّوابِ ّعندَ اللهِ الصُمُّ البُكْمُ الذين لا يعقلون(22) ولو عَلِمَ اللهُ فيهم خيراً لأسمَعَهُمْ * ولو أسمعهم لَتَوَلَّوا وهم مُعرضون(23) يا أيها الذين آمنوا آستجيبوا لله والرسول اذا دعاكم لِمَا يُحْييكم * وآعلموا أن اللهَ يَحُولُ بين المرءِ وقلبهِ وأنَّهُ اليهِ تُحْشَرُونَ(24) وآتقوا فتنةً لا تُصيبَنَّ الذينَ ظلموا منكم خاصَّةً * وآعلموا أنَّ اللهَ شديدُ العقاب(25) وآذكروا إذ أنتم قليلٌ مُستضعفونَ في الأرضِ تَخافونَ أن يَتخطَّفَكُمُ الناسُ فآواكم وأيَّدكم بنصرهِ ورزقكم من الطَّيِّباتِ لعلَّكم تشكرونَ(26) يا أيها الذينَ آمنوا لا تخونوا اللهَ والرسولَ وتَخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون(27) وآعلموا أنما أموالُكُمْ وأولادُكُمْ فتنةٌ * وأن اللهَ عندهُ أجرٌ عظيمٌ(28) يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا اللهَ يجعلْ لكم فرقاناً ويُكَفِّرْ عنكم سَيِّئاتكم ويَغْفِرْ لكم * واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ(29) وإذ يَمْكُرُ بك الذين كفروا لِيُثْبِتُوكَ أو يَقْتُلُوكَ أو يُخْرِجُوكَ * ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ(30) واذا تُتْلَى عليهم آياتُنا قالوا قد سمعنا لو نشاءُ لقُلنا مثلَ هذا * إن هذا إلاّ أساطيرُ الأوَّلِيْنَ(31) وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقُّ من عِنْدِكَ فأمطر علينا حجارةً من السماءِ أَوِ آتنا بعذابٍ أليمٍ(32) وما كان اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنتَ فيهم * وما كان اللهُ مُعَذِّبّهُمْ وهم يستغفرونَ(33) وما لهم ألاّ يُعَذِبَهُمُ اللهُ وهم يَصُدُّونَ عن المسجدِ الحرام وما كانوا أولياءَهُ * إن أولِيَاءَهُ إلاّ المُتَّقونَ * ولكنَّ أكثَرهم لا يعلمون(َ34) وما كان صلاتُهُمْ عند البيت إلاّ مُكاءً وتَصْدِيَةً * فذوقوا العذابَ بما كنتم تكفٌرونَ(35) إن الذين كفروا يُنفقونَ أموالَهُمْ لِيَصُدُّوا عن سبيلِ اللهِ * فيَيُنْفِقُونَها ثمَّ تكونُ عليهم حسرةً ثم يُغلبونَ * والذين كفروا الى جهنمَ يُحشرونَ(36) لِيَمِيْزَ اللهُ الخبيثَ من الطَّيِّبِ ويجعلَ الخبيثَ بعضَهُ على بعضٍ فَيَرْكُمَهُ جميعاً فيجعلهُ في جهنم * أولئكَ هُمُ الخاسرونَ(37) قل للذين كفروا إن يَنتهوا يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَفَ * وإن يعودوا فقد مضت سُنَّةُ الأولين(38) وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدينُ كُلُّهُ للهِ * فإِنِ آنتهَوْا فإن اللهَ بما يعملونَ بصيرٌ(39) وإن تَوَلَّوا فآعلموا أن اللهَ مولاكم * ِنعْمَ المولى وِنعْمَ النصيرُ(40) }
معاني الألفاظ :
1-/ الأنفال ، هي جمع نفلِ بمعنى الزيادة ، والمعنى الغنائم العسكرية والحربية كالأسلحة والأموال وغيرها في ساحة المعركة ، حيث يُصادرها الجيش المنتصر لصالحه .
2-/ وَجِلَتْ : خافت
3-/ الشَوْكَةُ : القوة
4-/ تستغيثون : تدعون ، تتضرَّعون
5-/ مردفين : متتابعين
6-/ يُغَشِّيْكُمُ النعاس : يُلقي أو ألقى النوم ( عليهم )
7-/ أَمَنَةَ : الأمان والإطمئنان
8-/ بَنَان : أطراف الأصابع
9-/ يُشاقق : المُكابرة ، المُعاندة
10-/ الدَّوابِّ : المخلوقات
11-/ الصُمُّ : الذي لا يسمع ، أي الأطرش
12-/ البُكْمُ : الذي لا يتكلم ، أي الأخرس
13-/ أساطير / الأساطير : الخرافات ، الأكاذيب
14-/ مُكاءً وتصديةً : التصفير والتصفيف ، أي إيجاد الفوضى والإزعاجات أمام المسلمين من قبل المشركين عند البيت الحرام كي يُشوِّشوا عليهم صلاتهم .
15-/ سُنَّةُ الأوَّلِيْن : سنة أو سنن الله تعالى وقوانيه في إهلاك الظالمين .
16-/ المكر : الدهاء وقوة التدبير
محتوى السورة : سورة الأنفال تدور حول القضايا والمواضيع التالية :
1-/ الغنائم التي يتركها الجيش المهزوم في ساحات المعارك وكيفية تقسيمها .
2-/ صفات المؤمنين .
3-/ الإشارة الى معجزتي قتال الملائكة بجانب المسلمين ونزول المطر خلال المعركة ونعاسهم ، وذلك كمعجزات ربانية على صدق نبوة نبي الله محمد – عليه الصلاة والسلام – .
4-/ الثَبات خلال المعارك وحرمة الفرار منها إلاّ لآستثناءات محدودة .
5-/ إطاعة الله عزوجل ورسوله في كل الظروف والأحوال وتجنب التنازعات والخصامات والخلافات المؤدية الى الضعف وذهاب القوة وخسارتها .
6-/ التذكير بفرعون وغيره من الظالمين الذين كذَّبوا بآيات الله تعالى .
7-/ الإشارة الى المعاهدات التي آنعقدت بين رسول الله محمد والمشركين ، أو غيرهم أيضاً كاليهود يومها .
8-/ الإشارة الى المنافقين ، أو الطابور الخامس كما المصطلح العصري وما كان لهم من أدوار خبيثة وسلبية في صفوف المسلمين يومذاك .
9-/ ضرورة الإعداد للقوة من جميع النواحي .
10-/ الإشارة الى الجُنُوح للسلام ووقف القتال إن ناشد الطرف الخصم ذلك .
11-/ الحديث عن أسرى الحرب ومعاملتهم .
التفسير : سورة الأنفال هي مدنية والثامنة من حيث ترتيب سور القرآن الكريم وتتألف من خمس وسبعين آية . تفتتح سورة الأنفال بالأنفال ، وهي الغنائم التي يستولي عليها الجيش المنتصر في ساحة المعركة ، مثل الأسلحة والأموال وما شابه وكيفية تقسيمها بين المحاربين ، ولهذا سُمِّيتِ هذه السورة بالأنفال . كما يبدو من سورة الأنفال ، بخاصة الآية الأولى منها التي تصدَّرتها بأنه وقع آختلاف بين الصحابة حول غنائم المعركة ، أي معركة بدر في كيفية تقسيمها ، فنزلت الآيات لبيان الحكم فيها ، وهو حكم الله تعالى ورسوله ، حيث يقسمها بينهم كما أمره ربه سبحانه لأجل حفظ النظام والإنتظام وحسن الترابط في جماعة المسلمين وصفوفهم ، في ذلك على المؤمنين إطاعة الله ورسوله إن كانوا حقاً مؤمنين . فالإيمان ينبغي ، أو من المفترض أن يكون مترسخاً في الأعماق ، وأن يكون بعيداً عن الفوضى والعدوان والتجاوزات ، والإيمان كذلك ليس مُجرَّد أُمنيات . في هذا الصدد قال رسول الله محمد – عليه الصلاة والسلام – : { الإيمانُ ليس بالتمنِّي ، ولا بالتحلِّي ولكن هو ما وَقَرَ في القلب وصدَّقهُ العمل } . لهذا دوماً قرن القرآن الإيمان بالعمل الصالح وإلاّ فالإيمان المُجرَّدُ عن العمل الصالح والفعل الخيِّر لا قيمة ولا وزن له عند الله تبارك وتعالى .
فالمؤمن الصحيح الإيمان اذا ما ذُكِرَ الله تعالى خاف قلبه وتجنَّبَ كلَّ عمل مناقض للإيمان الذي يجلب سخطه سبحانه عليه ، واذا ما تُلِيَتْ عليه آياته زادت المؤمن إيماناً ، وهو والمؤمنون عموماً على ربهم يتوكَّلون ، فهُمُ الذين يقيمون الصلاة ويُحافظون عليها ويُنفقون مما رزقهم ربهم في سبيله ، حيث هؤلاء هُمُ المؤمنون حقاً لهم مراتبٌ ودرجاتٌ عُليا عند ربهم يوم القيامة ، مع المغفرة الربانية ورزقهُ الكريم .
بعدها تنتقل الآية الى معركة بدر وفيها تشابه آختلاف بين المؤمنين كما قرأنا في موضوع الغنائم ، فبعضهم كَرِهَ الخروج لقتال مشركي مكة . كان على هؤلاء البعض عدم الإختلاف والتذرُّع أمام نبي الله محمد في عدم الخروج للحرب ، بخاصة بعدما تبيَّن لهم الحق وكأنهم في ذلك ينساقون للموت ويُشاهدونه بأُمِّ أعينهم . لقد كانت الذرائع لهؤلاء البعض من الصحابة لعدم القتال مع مشركي مكة ، هو عدم آستعدادهم وقلة عددهم وأسلحتهم ، وبالمقابل قوة قويشٍ وآقتدارها . ذلك يدل على ما كانت عليه قريش في مكة من سلطة قوية وسطوة في المجتمع العربي يومذاك في الجزيرة العربية ، بخاصة في مكة العاصمة السياسية والدينية والتجارية والإعلامية للعرب قبل الإسلام .
ثم تمضي الآية بعدها لتُذكِّرَ المؤمنين أن أحد النصرين ، أو الغنيمتين سيكون لهم بعد المعركة مع سلطة قريش في مكة ؛ إما الأموال لقريش وتجارتهم التي رجعت من الشام ، أو النصر العسكري على مشركي مكة وقطع دابرهم ، وبذلك النصر يُحِقُّ الله تعالى الحق ويُبطل الباطل والظلم الإجتماعي لقادة مشركي مكة الطغاة المجرمين ، وثانية يُذكِّرهُمُ الله تعالى بتضرُّع نبي الله محمد ودعاءه لله عزوجل طالباً منه العون والمدد لأتباعه الفئة المؤمنة القليلة العَددِ والعُدَّة ، فآستجاب الله له وأمَدَّهم بألفٍ من الملائكة متتابعين يُقاتلون الى جانب المؤمنين بقيادة نبي الله ، وما كان ذلك إلاّ بشارة لهم ولتطمئن قلوبهم وما النصر بالحقيقة إلاّ من عند الله العزيز الحكيم . ثم تُذكِّر الآية الأخرى المعجزة الربانية الأخرى ، وهي غشيان الجميع النوم بُرهة خلال بداية المعركة بأمر الله تعالى بآستثناء رسول الله محمد وهطول مطر الرحمة عليهم ، فكان ذلك راحة وسكينة لهم وثقة نفسية عالية وفائدة كبيرة بعد أنِ آستيقظوا من نُعاس النوم ، وبنزول المطر على المؤمنين بعد أنِ آستولى المشركون على الماء في بدر ، وبماء المطر تمكن المؤمنون من رفع آحتياجاتهم والتطهير من وساوس الشيطان، وليكون كذلك طمأنينة لهم وتثبيتاً لأقدامهم في المعركة ، فكان ذلك مدداً ربانياً آخر ومعجزة ربانية أخرى للمؤمنين الذين كان المشركون ثلاثة أضعافهم وزيادة ! .
وخلال المعركة أوحى الله تعالى الى الملائكة بأنه سبحانه معهم وعليهم تثبيت الذين آمنوا وتعزيزهم ، فهو سيُلقي في قلوب المشركين الرعب . لهذا عليهم ضرب أعناقهم وقطع أطراف أصابعهم في المعركة ، لأنهم عاندوا الله ونبيه وتمادوا في الظلم والطغيان على الناس ، ومن يُعاندهما فإن الله لهم شديد العقاب ، فذلكم الإنكسار والهزيمة في المعركة كان جزاءً لمشركي مكة ولهم بعدها في الآخرة عذاب النار لأجل شركهم وظلمهم وفسادهم في الأرض .
بعدها يُخاطب الله تعالى المؤمنين بعدم الهزيمة أمام المشركين في المعركة لأيِّ عذر وسبب كان ، ومن يفعل ذلك فقد جلب غضب الله تعالى على نفسه وسيكون مكانه في الآخرة جهنم وبئس المصير ، وقد آستثنى الله تعالى حالة التكتيك العسكري خلال المعركة ، أو حالات إستثنائية قليلة أخرى . ثم أضافت الآية بأن من أعان المؤمنين يوم بدرٍ وكان سبباً حاسماً في نصرهم على طغاة مكة وجيشها ، هو الله تعالى الذي أضعف كيدهم . بعدها تمضي الآية على سبيل السُخرية من مشركي مكة بأنه اذا ما أرادوا النصر والفتح فإنه قد جاءهم في بدرٍ ، وإن ينتهوا عمَّا هم عليه من الشرك والضلال والظلم فهو – بلا شك – خيرٌ لهم في الدنيا والآخرة . بعدها يتوجه خطاب الآية الى المؤمنين فيأمرهم بطاعة الله ورسوله ولا يخالف أمره وهم يسمعون القرآن يُتلى عليهم ، حيث حينها يكونوا كالذين قالوا سمعنا ، وهم لا يسمعون ، وإن شَرَّ المخلوقات عند الله تعالى هم الصُمُّ البُكْمُ الذين لا يعقلون ولا يتفكرون ، ولو أن الله علم فيهم الخير لأسمعهم ، ولو أسمعهم لعارضوا عناداً ، فيا أيها المؤمنون آستجيبوا وأطيعوا الله ونبيه المرسل اليكم ، حيث في آستجابة الله تعالى ورسوله حياة ٌ للنفوس وآعلموا بأن الله هو المُتصرِّف بالقلوب ، وبشؤون الكون كله ، وأن مرجعكم اليه يوم القيامة وإليه سبحانه تُحشرون .
فيما تم الإشارة اليه على المؤمنين الحذر من الفتنة والأوضاع الإجتماعية – السياسية القائمة غير المؤسسة على العدالة ، فهي قد لا تُصيب الذين يُمارسون الظلم وحدهم وإنما المجتمع بأسره ، وذلك بالسكوت على سلوك الظالم . في هذا الموضوع جاء في الحديث النبوي : { إن الناس اذا رأوا الظالم ، فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يَعُمَّهُمُ اللهُ تعالى بعقاب } . فذلك بالمقام الأول من مسؤولية العلماء وأهل العلم والمثقفين في المجتمع .
بعدها يُذكِّر القرآن المؤمنين في المدينة بماضيهم في مكة حينما كانوا ضعفاء ومستضعفين ، وكانوا قلة يتعرضون للإضطهاد ويَخْشَوْنَ الإختطاف ، لكن الله تعالى مَنَّ عليهم ومَكَّن لهم ونصرهم ورزقهم من الطيبات لعلهم يحمدوه ويشكروه سبحانه على أفضاله ونعمه عليهم .
بعدها ينتقل الموضوع الى قضية الخيانة الداخلية للمؤمنين يومها ، حيث يعظهم الله تعالى بألاّ يخونوا دينهم ونبيهم وآجتماعهم ، مثل إطلاع جبهة الشرك والكفر على معلومات وأسرار ، ثم يعظهم الله سبحانه على عدم الخيانة في الأمانات التي آتمنهم الناس عليها من أموال وغيرها ، وهم بلا ريب يعلمون عاقبة الخيانة . المفسِّرون القدامى يذكرون بأن الآية نزلت في الصحابي أبي لبابة ، وذلك بعد محاصرة نبي الله محمد ليهود بني قريظة بسبب نقضهم للإتفاقية بينهم والنبي ودعمهم لقريش ، فطلبوا الصلح وأمرهم النبي أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وقال اليهود نريد أبو لبابة ، فبعثه النبي اليهم ، فقالوا : يا أبا لبابة ماذا ترى ، أننزلُ على حكم سعد ..؟ ، حينها أشار أبو لبابة الى حلقه ، يعني الذبح والقتل ! . يقول أبو لبابة بأنه وقتها عرف أنه قد خان الله ونبيه ، ثم قال بأنه لا يذوق طعاماً ولا يشرب شراباً حتى يموت ، أو يتوب الله عليه مما فعله ، فنزلت توبته وتاب الله عليه وسامحه رسول الله محمد – عليه الصلاة والسلام – على ما بدر منه .
وعلى المؤمنين أن يعلموا بأن أموالهم وأولادهم ، هم بمثابة آمتحان وآختبار لهم وعند الله تعالى الأجر العظيم والثواب العميم والنوال الجزيل ، لهذا إن يتقوا الله حق تُقاته يجعل لهم نوراً وهداية في قلوبهم يُميِّزون بها بين الحق والباطل ، بين الهدى والضلال ، والله تعالى سوف يغفر لهم على ما بدر منهم من أخطاء وخطايا وهفوات ، وهو سبحانه ذو الأفضال العظيمة ومصدرها .
ثم يأتي بعدها حديث سورة الأنفال الى موضوع مؤامرة طغاة مكة وقادتها ضد نبي الله محمد ، حيث تأمروا على آعتقال النبي وتقييده وحبسه ، أو طرده من مكة ، أو قتله وآغتياله ، وفي ذلك مكروا ، لكن الله تعالى ردَّ مكرهم اليهم ونجَّى نبيه منهم ، حيث هو سبحانه بيده التدبير والتصريف في كل شيءٍ .
الآية التالية تتحدث عن المكابرة والدعوى الكاذبة لطغاة مكة حينما كانوا يستمعون الى ما كان يتلو عليهم النبي من القرآن ، فكان البعض منهم يزعم بأنه قد سمعوا مثله ولو أرادوا لقالوا مثله أيضاً ، وما هو إلاّ خرافات قديمة لا أساس لها من الصحة . ولو كان الأمر كما تخرَّصوا ، فلماذا عجزوا ، كل العجز من الإتيان بمثل القرآن ، أو سورة كسُوَرِها والقرآن تحدَّاهم عشر سنين في مكة ..؟ . إذن ، واضحٌ أن ما زعموه لم يكن إلاّ من باب المغالطة والتشويش والمكابرة . بعدها قالوا تهكُّماً وسخرية : اللهم إن كان هذا القرآن هو من عندك حقاً منزلاً ، فنحن لا نؤمن به ولا نتبعه فأنزل علينا العذاب وأمطرنا بالحجارة من السماء ، أو غيره من العذاب الأليم ، لكن كيف يُعذِّبهم الله تعالى ونبيه محمد فيهم ، ومقيمٌ بينهم ، ثم قد يأتي من أصلابهم لاحقاً ممن يحملون نور الهداية والإصلاح ، أو كيف لا يُعاقبهم بطريقة من الطرق وهم على ماهم عليه من الظلم والطغيان في الأرض ، ومن الضلال ومحاربة الإسلام ومنع الناس مِنِ آعتناقه ، ومنع الناس المسلمين من الحج لبيت الله الحرام ..؟ . كان يقول طغاة مكة المشركين ويزعمون بأنهم هم الولاّة لبيت الله الحرام ، فيصُدُّون عنه من يشاؤون ، ويُدخلون فيه من يشاؤون ، فرد الله تعالى عليهم ؛ إن ولاّة البيت الحرام هم أولياؤه من المؤمنين المتقين .
وتستمر الآيات من سورة الأنفال في فضح طغاة مكة ، فيقول عن صَلاتهم ودعائهم عند البيت الحرام ، أو طوافهم حول الكعبة المشرَّفة إلاّ تصفيفاً ومزاحمة وتشويشاً على المسلمين في صلاتهم وطوافهم للبيت الحرام إذن ، فهؤلاء يستحقون ما دارت عليهم الأيام مِنِ آنتصار المسلمين عليهم بقيادة النبي محمد – عليه الصلاة والسلام – ، وذلك جرَّاء كفرهم وشركهم وظلمهم للناس وآستعبادهم في مكة وخارجها من الأصقاع في الجزيرة العربية يومذاك . ومهما أنفق طغاة مكة المشركين من أموال لصدِّ الناس ومنعهم مِنِ آعتناق الإسلام فإنهم في نهاية المطاف سوف يخسرون في مساعيهم ويتحسَّرون عليهاويندمون ، بل إنهم سوف يُغلبون ويَسقطون والذين من هؤلاء الطغاة الظلمة الكفار مصيرهم الحشر في جهنم ، وذلك ليميز الله تعالى الخبيث من الطيب ، فيجمع الخبيث كله فوق بعض الى سوء المنقلب في جهنم ، حيث الخسارة العظمى لهم .
ثم يأمر الله تعالى نبيه محمد بأن يقول لطغاة مكة ويُبلِّغهم إن ينتهوا عما هم عليه من الشرك والظلم والإستعباد لعباد الله فإنه سبحانه سوف يُسامحهم ويتجاوز عنهم ويغفر لهم لِمَا فاتَ منهم وسلف ، وإن يستمروا عليه فقد مضت سنن الله عزوجل في إهلاك الظلمة والطغاة ، وهي تجري عليهم بلا شك .
وبما أن طغاة مكة المشركين لم ينتهوا مما هم عليه من الظلم والعدوان على الناس فقد أمر الله سبحانه بقتالهم الذين لا عهد لهم ولا ذِمَّة حتى يكون الدين الخالص كله لله ، وإنِ آستمروا في الإعراض والإستكبار ومحاربة المؤمنين فإن الله سوف ينصرهم عليهم ، حيث هو جلَّ في عُلاهُ نعم المولى ونعم النصير . [1]