#صباح كنجي#
القائدُ يترك الجبال بلا قتال..!!
في الأنفال مع اشتداد الطوق المحكم على الأنصار الشيوعيون، الذين كانوا يواجهون الموت في كل لحظة، انقسمت الكتل الكبيرة المطوقة إلى مجاميع اصغر، ومن ثم مع تواصل الهجوم وقلة الغذاء وانعدامه، انقسمت بدورها تلك المجاميع إلى الأصغر، وهكذا خلال مدة أقل من شهر كان هناك بين المقاتلين الشجعان من يواجه مصيره لوحده..
عليه أن يختار بين المواجهة والانتحار أو إيجاد وسيلة للخلاص من طوق الموت والنجاة بجلده، بعد أن أصبحت الكفة الراجحة لقوات السلطة التي أحرقت ودمرت كل شيء.. هاهي المجاميع الباقية من البشر تحشرُ في سيارات الجيش إلى مصالخ خلفية يتحكمُ بها الجندُ والمخابرات، لا يعرف ماذا سيكون مصيرهم بعد صدور بيان من قبل السلطة استخدم فيه تعبير العفو..
لكن من يصدق سلطة الأجرام التي استباحت الأرض والزرع والبشر؟.. ومن سيثق بوعود قادتها المتعطشين للدماء؟!!..
لم يكن هناك في تلك الأجواء المتعبة والقاسية أية فرصة لاستخدام العقل أو التفكير المنطقي.. لم يعد هناك مجال لاستخدام أي ميزان لقياس الصح من الخطأ، المشاعر الإنسانية تحولت إلى غرائز تحجم العقل وتشغله بكيفية الخلاص الفردي، لم يعد هناك قائد يفكر بجنده.. كان هناك قائد مهزوم يفكر بإنقاذ نفسه قبل الآخرين، وثمة من سمعه يهمسُ ويقول:
لا نستطيع إنقاذ المحاصرين من الناس وقوات البيشمركة والأنصار.. علينا أن نضحي بهم ونتركهم يقررون مصيرهم.. أمّا نحنُ فيجب أن نفكر بإنقاذ أنفسنا وستكون الأولوية للقيادة والكوادر.. سأكون أول المغادرين وسأختار من يرافقني للعبور من الطريق المؤمَن بواسطة التنظيم السري عبر بوابة مجمع دوكري في سنجار المحاذية للحدود الغربية، من محطة خليل أبو شوارب الذي نسق وضبط كل شيء من اجل تأمين العبور الآمن إلى سوريا...
هكذا غادر القائد متملصاً من مسئوليته مع شبكة الكادر التي رافقتهُ، وبقي بين شعاب الجبال من بقي من مقاتلين ومواطنين محاصرين يواجهون الجوع والموت بصبر وتأني من دون أفق أو حتى ملمح لوجود حل ينقذ الصابرين من براثن الموت بما فيه الموت من الجوع...
ومع وصول القائد إلى المنطقة الآمنة في القامشلي، انكشفت في تلك الأجواء فضيحة من نوع جديد.. لا علاقة لها بالبشر المحاصرين.. لا علاقة لها بقيم الرجولة وشهامة الشيوعي إنْ أؤتمن على مال وعرض.. كيف إذن بمصير الناس والبشر؟.. لقد تعالت في تلك الأجواء من زمن المحنة صرخات الاشتباك بين القائد والمجوعة العابرة للبحث عن البريد المرسل.. فقد اختفت لفائف الدولار وبقيت رزم الدينار العراقي لم تسرق!!..
بعد حين.. عندما مرّ في أروقة قلعة حلب ودهاليزها الشهيرة.. أثناء جولة سياحية لهم.. نصيرين ممن تجاوزوا طوابير الموت في محنة الأنفال .. التفتَ حامد الطويل للدكتور حجي لحظة عبورهم للممر السري الخاص بالملك.... وقال ساخراً:
هذا مَمرُ أبو سالار.
التحقيق الأمني..
حسن نمر أبو فلاح و بيبو علي- أبو ليلى بقيا محاصرين لعدة أيام في الجبال.. هدَهُمْ الجوع والتعب.. الأول كان من قرية سريجكا.. لديه نوادي للمشروبات في عدد من المدن الجنوبية.. كان وسيماً يهتمُ بنفسه وهندامه ويضعُ عدداً من الأقلام في جيبه.. لهذا اسماه البعض من الأنصار بحسن كشخجي.. امتحنته الظروف وكان متمسكاً بالحزب الشيوعي.. قاد التنظيمات المحلية في قرى الكند.. جرح في كمين للاستخبارات نفذه الرائد أحمد التكريتي مع مجموعة سفر إسماعيل كجل من دوغات في قرية بيبان، التي استشهدَ فيها الملازم سلام- حميد دخيل من بعشيقة..
أما أبو ليلى.. فكان فلاحاً شجاعاً ومناضلا معروفاً في المنطقة سبقَ لهُ وأن التحق في صفوف الأنصار في الستينات.. عند اشتداد الحملة الدموية لتصفية الشيوعيين في العراق عام 1978 بعد انفراط عقد التحالف مع السلطة وحزبها الإجرامي كان من أوائل الملتحقين بالجبل من بداية 1979 .. توجه نحو الحدود الإيرانية وساهم مع مجموعة أنصار الموصل في بناء أول قاعدة أنصارية في ناوزنك ومن ثم توجله ومحطة كاني بوق قبل أن يتوجه إلى بهدينان.. كانت بساطة مظهره وطيبته طاغية على ملامحه.. ولقب بالكجل أي الأقرع للتفرقة بينه وبين الآخرين من الأنصار الذين يحملون نفس التسمية واللقب أبو ليلى ..
أبو ليلى وحسن نمر بقيا محاصرين عدة أيام في الجبل بين القوش والشيخان.. كانا يسرحان بنظرهما بحذر للسهل الذي تجوب فيه شاحنات الجيش على طول الخط بين المدينتين مخترقاً عدة قرى باقية مطوقة بالجند هي الحد الفاصل بين قريتيها في الكند على بعد عشرة كيلومترات فقط .. لكنهم وفي لحظة حسم للمعاناة قررا التوجه إلى القوش ليسلما نفسيهما مستغلين ما أطلق عليه بالعفو في حينها..
وصل الاثنان معاً لدائرة الأمن قبل مجيء الضابط.. وبقيا ينتظران قدومه ليقرر مصيرهم..
حينما جاء وشاهدهم.. أستفسر من مفوض الأمن:
شنو ذولة .. لويش جايين؟..
سيدي شيوعيين كانوا بالجبل جاءا مستغلين العفو الصادر..
دخلي واحد منهم لنبدأ التحقيق..
اسمك؟..
حسن نمر..
شغلك؟..
بائع مشروبات.. لدي نوادي في الحلة و السماوة..
تحصيلك الدراسي؟..
متوسطة
أشوكت التحقت بالمخربين؟..
قبل ثلاث سنوات...
شنو رتبك وياهم؟..
ليست لدي رتبة.. فقط التحقت وياهم بسبب عداوات شخصية...
رتبتك ويا الشيوعيين شنهي .. عضو ..كادر.. قيادي؟.. يا زمال شايل أربع أقلام وما تريد أجاوب!!..
أنا لست شيوعياً ولم انتسب للحزب.. فقط كنت بيشمركة معهم..
أكيد أنت مو شيوعي لو تكذب؟.. تريد تنقذ نفسك..
أكيد سيدي.. أنا لست شيوعياً..
تعال وقع على أقوالك.. وروح ولي لِبَرّه.. وصاح :
ادخلوا الثاني..
اسمك ؟..
بيبو علي.. يسموني.. أبو ليلى.. أبو ليلى الكجل..
وضيفتك؟.. فلاح..
أشوكت التحقت ويا المخربين؟..
من البداية من قبل عشر سْنينْ ...
تحصيلك الدراسي؟..
أمي لم أذهب للمدرسة..
شنو رتبتك العسكرية؟..
أمر مفرزة سيدي...
رتبتك الحزبية؟ ..
عضو لجنة قضاء في الحزب الشيوعي..
أوف.. أوف..أوف... طلع هذا الجحش الأمي مسئول جبير.. عضو لجنة قضاء بالحزب الشيوعي... صيحو لي أبو أربع أقلام.. هالكواد.. يكول أنا جنت بيشمركة.. مو شيوعي!!.. أكيد راح يطلع عضو لجنة مركزية..
و... أعيدَ التحقيق مع أبو أربعْ أقلام من جديد..
للحكاية فصول لاحقة..[1]