ولد جلادت في السادس والعشرين من شهر أيار عام 1893م في مدينة استانبول من والده: أمين عالي بدرخان ووالدته "سنيحة" شرکسية الأصل.وقد کان لوالده زوجة ثانية. فنشأ جلادت وترعرع في بيئة ميسورة غنية مرهفة الإحساس والذوق فعرف طيبات الحياة، إنَّ جلادت وهو سليل الأمراء وقد اعتاد على حياة البذخ والرفاهية والأمان يرفل في ثوب الرخاء والثراء تبدلت أحوله وأحوال عائلته بعد المنفى، فعاش في ضنک من العيش وعوز وفاقة ويذوق علقم الاغتراب، وهکذا انعکست آلام العائلة وهمومها على طفولة جلادت ومزّقتها شر ممزّق. هذه الطفولة التي قاست مشقة الأسفار من بلد الى بلد ومن أرض الى أرض. شب وترعرع، تملأ نفسه أحلام آبائه وأجداده في حياة حرة کريمة فوق أرض أسلافه الغابرين. فکان في هذا وذاک الأثر الکبير في تکوين شخصيته. فإذا هو يحمل بين جنباته کل الهم الکردي ويضع نصب عينيه السعي وراء الحلم الکبير وتحقيقه... لقد نشأ جلادت واخوته واخواته في کنف أولئک الأسلاف العظماء وساروا على نهجهم فکانوا خير خلف لخير سلف.
کان العثمانيون في ريب من أمر البدرخانيين لذلک کانوا يکلفونهم بالوظائف الحکومية والأعمال الرسمية وکانوا ينقلونهم من مکان الى آخر. وکان جلادت –في رفقة والده- يتنقل من مدينة الى أخرى بين النفي واستلام منصب وظيفي مثل: استانبول، اسبارطة، وأدرنه، وقونيه، ونابلس، وعکا، وسالونيک... ويتجول بينها، وهکذا أمضى أيام طفولته البريئة في حل وترحال. وهکذا کان الأمر بشأن رواتبهم المهنية تدفع حيناً وتقطع حيناً وقد استمرت الحالة تتأرجح بين الغضب والرضي لا تعرف الاستقرار فکان السلطان يرضى عنهم يوماً ويغضب يوماً.
عندما بلغ جلادت من العمر ثمانية عشر عاماً انتسب الى الکلية الحربية وتابع فيها دراسته ولما تخرّج منها بصفة ضابط التحق بالجيش العثماني في حرب القفقاس وحروب البلقان.
کتب جلادت بدرخان في مجلته "روناهي" العدد/25/ الصادر عام 1944م أنه کان في عام 1917م قد التحق بإحدى الوحدات العسکرية العثمانية التي ترابط قريباً من بحيرة "أورميا" برتبة ضابط.
بدأ جلادت وأخوه کاميران بالکتابة في سن مبکرة، وهذا ما نلاحظه من خلال التاريخ الذي نشر فيه کتاب "حقيقة سقوط أدرنة" عام (1913)م. هذا يعني أنهما عندما أعدا هذا الکتاب لم يکونا قد تجاوزا عشرين سنة من عمرهما.
في عام 1919 توجه جلادت عالي بدرخان و أخوه کاميران و أکرم جميل باشا وفائق توفيق الى کردستان والى جانبهم الضابط السياسي الانکليزي الذائع الصيت: "الميجر ادوارد نوئيل". للوقوف على مطالب الشعب الکردي. وما إذا کان الأکراد قادرين على حمل مسؤولياتهم قبل أن تعقد جلسة معاهدة (سيفر) بين الحلفاء والحکومة العثمانية. في البدء ذهبوا الى "ملاطية" والتقوا بالزعماء ورؤساء العشائر وکبار القوم ولکن کمال باشا کان أکثر دهاء فقطع عليهم الطريق إذ اتصل بأولئک الزعماء والرؤساء ووعدهم مواعيد کاذبة بمنحهم المناصب والأموال ونجح في خداعهم. وفي الوقت نفسه أرسل جنوده على ظهور الخيول الى المنطقة لردع کل من يحاول انتفاضة أو تمرداً، فلم تثمر جهود الأمير واضطر الى التقهقر بعد ما لقي من غدر العثمانيين وخذلان العشائر له شيئاً کثيراً.
في هذه المرحلة تحديداً تکونت لديه فکرة تأليف ألف باء بالأحرف اللاتينية و لمعرفة کيفية اعداده للألفباء الکردية، لابد من العودة الى کتابه المطبوع في دمشق،(صفحات من الألفباء) ضمن سلسلة مطبوعات"هاوار" عدد(2) عام 1932م يقول في مقدمته: "في عام 1919م توغلنا في عمق جبال "ملاطية" ودخلنا بين عشيرة "رشوان" وکان الميجر نوئيل الانکليزي يصطحبنا وهو الذي کان ملماً باللـەجات الکردية-(الصورانية) ويرغب في تعلم اللـەجة الشمالية (الکرمانجية). وکنا نصغي الى الناس وننقل عنهم الأمثال والطرائف والقصص وندونها ثم يعود کل منا الى قراءة ما کتبناه وتنقيحه وتهذيبه إن کان بحاجة الى ذلک. ولفت نظري أن الميجر الانکليزي کان يقرأ ما دوّنه بلکنة أجنبية ولکنه کان يقرأ کتابته بسهولة واضحة. أما أنا فکنت أجد مشقة کبيرة في لفظ الأحرف الصوتية وتمييز الحرف (î) من الحرف (ê) وحرف الـ(o) من حرف الـ (û) الخ. إلا إنني کنت أحرر کتاباتي بالأحرف العربية. وهذا الرجل الانکليزي يستخدم الحروف اللاتينية. وعندئذ أدرکت السبب وقررت بيني وبين نفسي أن أضع أبجدية بالحروف اللاتينية واستخدامها في الکتابة الکردية.
کان من نتائج الحرب الکونية الأولى سقوط الإمبراطورية العثمانية، ثم نهوض الشعوب التي کانت تحت هيمنتها وظهور الحرکات الثورية الداعية إلى إطلاق الحريات. وفي هذه الظروف نشط جلادت في الاتصال بالعشائر الکردية وحضها على التوحد وجمع الصفوف ساعياً إلى رفع الجور عن الأکراد. ولکن العنصريين الأتراک في حزب "الاتحاد الترکي" في کافة أرجاء الأناضول ازدادوا شراسة وعدوانية بعد تردي الإمبراطورية العثمانية وجرت على أيديهم مجازر ومذابح جماعية للأرمن والأکراد. وفي هذه الفترة أصدر العنصريون أحکاماً جائرة لتبديد الأسرة البدرخانية وتشتيتها، ولهذا رأينا جلادت بدرخان وأخاه کاميران يسيران على طريق منفى جديد، ومستقبل غامض ومجهول.
بعد أن احتل الکماليون مدينة استانبول وأخضعوها لنفوذهم وسلطانهم عام 1922م قرروا القضاء على القوميين الأکراد وفي اللائحة اسم جلادت بدرخان. وفي هذه الأثناء لجأ الأمير وشقيقه کاميران الى ألمانيا وهناک بيّن جلادت سبب فرارهما للمستشرق "کارل سوسهايم" الذي اصدر کتاباً فيما بعد ذکر فيه: ان جلادت کان يقوم بالدور الإعلامي للتحرر الکردي وکان هو وکافة البدرخانيين يحتلون المراکز القيادية في کل الحرکات الثورية. وقد ذکر لي أن أفراداً من العائلة البدرخانية عبروا الحدود الإمبراطورية العثمانية عن طريق الموصل وشارکوا في انتفاضة في ذلک الإقليم. وأنّ محکمة "سيواس" کانت قد أصدرت قراراً بإعدامه. يستأنف المستشرق "سوسهايم" القول: إن العثمانيين والأتراک کانوا يتجنبون جلادت ويتهربون من مخالطته بسبب ذاک الحکم الصادر عن محکمة "سيواس". في تلک الأعوام الثلاثة اهتم باللغة الألمانية وانکب على دراستها. ولاسيما الجوانب الأدبية والترکيبية. وعندما ذهب الى سورية واستقر هناک في دمشق ألّف بعض الکتب مثل "ألف باء" و "النحو والقواعد الإملائية" بناءً على أسس علمية وبحوث دقيقة اکتسبها في ألمانيا. يقول جلادت في مجلة "هاوار": "إنّ وحدة الشعوب تبدأ بوحدة اللغة کان "بسمارک" قد وجد توحيد اللغة الألمانية شرطاً لاتحاد ألمانيا". وتمت هذه الوحدة على يد "لوثر" وترسخت. ولا تتم وحدة الأکراد إلا بوحدة لغتهم... ولا تتوحد اللغة إلا بتوحيد حروف الکتابة أي أن الخطوة الأولى نحو توحيد اللغة هي وحدة الحروف وبها يبدأ هذا التوحيد.
عندما تفجرّت ثورة الشيخ سعيد "بيران" عام 1925م تخلى جلادت عن کل مهامه وأعماله وترک کل شيء رغبة في الالتحاق بالثورة، ولکن- واأسفاه- عندما وصل الى کردستان کانت الثورة قد أخفقت وانطفأ أوارها. فعاد سراً الى ألمانيا. وبالتزامن مع هذا الحدث توفي شقيقه: صفدار في ألمانيا بعد معاناة المرض. أما أخوه اڵاخر: توفيق فقد قضى على نفسه بعد أن وثق بالکماليين واستسلم لهم فغدروا به وقتلوه. أما کاميران فأنهى دراسته القانون وحصل على شهادة الدکتوراه في الحقوق، ولکن جلادت لم يجد الفرصة سانحة لمتابعة الدراسة ونيل "الدکتوراه" لأن والده کان مريضاً في القاهرة فسافر اليها لعيادة والده المريض الذي توفي عام 1926م. وبعد وفاة والده توجه الى بيروت وحل ضيفاً على دار عمه: خليل رامي بدرخان. وفي تلک الأيام کان کثيرون من المثقفين والمتنورين الأکراد قد تجمعوا في مدينة بيروت فاختلط بهم وشارکهم في اجتماعاتهم، کما اختلط بالأکراد في سورية.
في الخامس من أيلول عام 1927م. عُقد في مدينة "بحمدون" اللبنانية اجتماع لتأسيس جمعية "خويبون" التي من کان أهدافها مناصرة ودعم ثورة آرارات من أراضي الجزيرة (السورية) والاشتراک في العمليات العسکرية. ولکنّ الثورة لم تفلح فلجأ الى ايران وفيها حاول شاه ايران: محمد بهلوي تنحيته وإبعاده عن المسائل القومية، فأغراه بإسناد منصب "قنصل" إليه في إحدى الدول التي يرغب فيها من العالم. ولکنه لم يلبِّ طلب الشاه ولم يحقق رغبته وأُخرِجَ من الأراضي الإيرانية. فعاد الى کردستان الجنوبية ومکث فيها أمداً ثم سافر الى العراق وأقام فيها مدة ولکن الانکليز کرهوا إقامته في بغداد فلم يسلم من مضايقاتهم. وغادر الى بيروت وأقام هناک وفي 16-04-1929م انتسب الى نقابة المحامين وحصل على إجازة في ممارسة مهنة "المحاماة". ويبدو أنه باشر کتابة مذکراته بتاريخ 16-08-1929م وهو في بيروت.
من أجل العمل السياسي وتوسيع دائرة النضال عاد الى سورية، حيث أنضم الى أعضاء من عائلة جميل باشا وحمزة بک مکسي وحاجو آغا وأسسوا جمعية باسم "الجمعية الکردية لمساعدة بؤساء الکرد" ومقرها في الحسکة، وکانت الغاية من إنشاء هذه الجمعية هي إغاثة أولئک الأکراد الملهوفين النازحين من الشمال. وکانت سورية في ذلک العهد تحت الوصاية الفرنسية، وکانت العلاقات بين فرنسا والکماليين طيبة ووطيدة. وبسبب الضغوط الترکية المتکررة لم تکن الحکومة الفرنسية ترغب في السماح له بالمکوث في المناطق الحدودية.
في 25 شهر آب من عام 1930م أذنت حکومة الانتداب له مع لفيف من المثقفين الأکراد بالإقامة في دمشق بعد بذل جهود مضنية وحثيثة. کانت الحرکات السياسية العقيمة التي لم تثمر يوماً والدول المحدقة بکردستان قد غيرت وجهة سير جلادت بدرخان. وکانت أوضاع المنطقة لا تأذن للأکراد بالتحالف مع دول ذات نفوذ، کما لم تأذن لهم بالإعداد لقيام ثورة أو انتفاضة قومية، إضافة الى أسباب أخرى.و عندما استقر جلادت في سوريا لم يکن له أيّ مورد مالي، وقد کانت الدولة العثمانية قد توقفت عن دفع التعويض له عن ممتلکات العائلة منذ تسلم اتاتورک الحکم. واستبدل التعويض ببدل هزيل عن الملکية نفسها. فعرضت عليه دولة فرنسا المنتدبة نفقة خاصة فرفضها ليبقي حياته حرة من کل قيد مکرسة تکريساً کلياً للقضية الکردية.
تأکَّد لـ جلادت وهو في دمشق أن الأکراد- بشکل عام- تنقصهم المعرفة وبحاجة الى القراءة والکتابة وتلقيِّ العلوم، ورأى أن تحرير کردستان لن يکون متاحاً قبل يقظة الشعب الکردي کله والالتفات الى قضيته الوطنية والقومية فکان يقول: "لو أن الشعب الکردي تعلم القراءة والکتابة لاستطاع رؤية أحواله البائسة وتذوق مرارة عيشه، ومتى وصل الى هذه الدرجة من الوعي والفطنة سَهُل عليه الاحتيال لذلک، وتغيير أحواله تغييراً جذرياً. وقد کان يشعر دوماً ان سلالته المجيدة تضع على عاتقه مسؤولية خاصة ويرى انه لا يمکن له ان يسعد في الحياة بينما أکثرية أبناء قومه يعانون الحرمان والظلم حتى أنهم لا تتاح لهم الحرية في استعمال لغتهم.
إن جلادت يدرک جيداً أن البلوغ بالأکراد الى هذه الدرجة من الوعي واليقظة يحتاج الى عمل دؤوب وبذل جهود کبيرة وتحمل المشقة، وهذا الوعي لا يتأتى ولا يتسنى إلا عن طريق تعلم لغة الشعب الکردي. وأن الشعب الکردي يمکن أن يکون متماسکاً وموحداً متى تعلم لغته الکردية... لغته القومية، وعندئذ سوف يشعر بوجوده القومي المستقل، ولکي نستطيع توحيد اللغة الکردية فإننا نفتقر الى أبجدية واحدة تکون حجر أساس في هيکل اللغة الکردية.
وبناءً على هذه الرؤية وضع جلادت أبجدية بالأحرف اللاتينية التي تلائم اللغة الکردية عام 1919م ولتعميم هذه الحروف وترسيخ الکتابة بها أصدر مجلة "هاوار" عام 1932م.
يقول جلادت بدرخان في مجلة "هاوار" بعد أن أرسى قواعد الالفباء اللاتينية متحدثاً عن الأبجدية التي صاغها: ولما کانت الحکومة السورية في دمشق قد منعتنا من التحرک، تفرغت للعمل الثقافي وانکفأت- ليلاً نهاراً- على البحث في قواعد اللغة وأبجديتها.
کان الأمير جلادت في تلک الفترة يقيم في غرفة ضيقة رطبة في طابق أرضي کائن في حي الشهداء، طريق الصالحية، فيستعمل تلک الغرفة مکتبة وقاعة استقبال وغرفة نوم وداراً للتحرير في آن واحد. وکان يکتب جميع المقالات ويوقعها بأسماء مستعارة مختلفة ثم ينضدها بنفسه ويحملها الى المطبعة ويقوم بعد ذلک بتوزيع المجلة بنفسه. وکانت حياته الخاصة حياة حرمان دائم فلم يکن له من مورد سوى العطايا اليسيرة التي کان يجود بها الأکراد وفقاً لتقاليد العشائر إزاء أمرائها في کل عام اعترافاً منها بفضلهم وإظهارا لاحترامهم.
کان جلادت يحاول حث الأکراد على کتابة قصائدهم وقصصهم وحکاياتهم وآدابهم الشعبية والتعبير عن آلامهم وأحلامهم وآمالهم وتاريخهم بلغتهم القومية وليس باللغات الأخرى.
في اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الأول عام 1931 حصل جلادت بدرخان على رخصة وامتياز لإصدار مجلة "هاوار" من وزارة الداخلية في سورية تحت الرقم /6224/. وفي الخامس عشر من شهر أيار عام 1932م قدم العدد الأول من المجلة الى مطبعة الترقي بدمشق واستمر صدورها حتى تاريخ اليوم الخامس عشر من شهر آب عام 1943م وفي هذه الأعوام بلغت الأعداد الصادر من "هاوار" سبعة وخمسين عدداً. والجدير بالذکر أن "هاوار" کانت مجلة اجتماعية- أدبية- ثقافية. يقول عنها جلادت بدرخان: "إن مجلة "هاوار" هي صوت المعرفة.. معرفة الذات... معرفة الذات هي سبيلنا الى الخلاص والفلاح، طريقنا الى الرفاهية والرخاء".
کانت الغاية من صدور هذه المجلة من اسمى الغايات وهي إغناء الأدب الکردي والثقافة الکردية، والدعوة الى تبني هذه الحروف الجديدة والکتابة. واضافة الى جريدة "هاوار" أصدر جلادت بدرخان مجلة "روناهي". دام صدورها منذ اليوم الأول من شهر نيسان عام 1942م حتى عام 1945م وبلغت اعدادها ثمانية وعشرين عدداً. کانت مجلة "روناهي" صحيفة شهرية تصدر باللغة الکردية اللـەجة الکرمانجية والحروف اللاتينية، وکانت تنشر على صدر صفحاتها أنباء الحرب وأحداثها بإسهاب وکثافة، وتندد بالفاشيستية والنازية. وکان جلادت بدرخان يحاول بث أفکار عن الديمقراطية في صحيفته ونشرها في أذهان الناس.
کانت هاتان الصحيفتان سلاحاً لنشر الوعي والعودة الى الذات والتعريف بالهوية الکردية... وکانتا رکنين من أرکان لغة الأدب الکردي. ومنذ ذلک العهد بدأت بحوث ودراسات جادة في اللغة وقواعدها وکل ما يمت إليها بصلة. وقصارى القول فإن اللغة الکردية مدينة لجلادت بدرخان في قواعدها وأبجديتها اللاتينية.
في عام 1935م تزوج جلادت من السيدة الفاضلة "روشن بدرخان" التي کانت تدرّس وتعلّم في مدارس دمشق، عندئذ تحسنت أحواله المادية فتغلب على البؤس وانتقل الى بيت رحب في حي الشمسية بدمشق. وبعد ثلاثة أعوام –في 21 آذارمن عام 1938م، رزقا ابنة أطلقا عليها اسم: "سينم"، وفي 9 تشرين الثاني عام 1939م رُزقا ولدهما "جمشيد". وقد کان لزوجته الأميرة روشن من زوجها الأول(عمر مالک حمدي) ابنة تدعى اسيمة ولدت في 15 تشرين الثاني 1930م.
کان الأمير جلادت في جميع الظروف والأحوال مثال الشفقة والحنان يستقبل الفقير والثرى على حد سواء ويخدم ذا الفاقة مثلما يخدم ضيفاً کريماً، وکان على قوة جسده وعلى الرغم من رباطة جأشه الدائمة ومما لاقاه في الحياة من صدمات وخيبات متکررة مرهف الحس رقيق العاطفة وقد أغدق عليه هذا المزيج من القوة والعاطفة والحکمة مسحة من الکمال کانت تؤثر في کل من اقترب منه تأثيراً عميقاً. ومما زاد شخصيته رونقاً هو حبه للمطالعة وشغفه بالحياة الفکرية وشغفه بالحرب. وکان على الرغم من الظروف المضنية التي مرت به وعلى الرغم من شظف العيش والحرمان اللذين عرفهما مراراً، مغرماً ببعض مراتع الحياة غراماً مقيماً. وقد کان لَه ۆلَعٌ بالصيد خاصة حتى انه عندما اضطر الى الاکتفاء بتلک الغرفة الصغيرة التي کانت مکتبته وغرفة استقباله ونومه ومطبخه کان يحتفظ بخادم مغن کردي يدعى (أحمد فرمان)، وبکلب صيد وکان يمارس الصيد بولع لا يعرف الملل.
في هذه المرحلة الأخيرة کانت زوجته لا تألو جهداً في تقديم کل ما تستطيع من دعم له لإصدار مجلة "هاوار". فکانت تصفف الحروف وتنضدها. لقد کانت خير معين له في نضاله وکفاحه في معترک الحياة اليومية.
کان جلادت يدرس اللغة الفرنسية في مدرسة الصنائع بدمشق منذ نهاية عام1934ولغاية 1936م ثم أصبح في 1939م محامي شرکة الريجي ورئيس مفتشيها، وقنع بحياة عائلية هادئة. ويُذکر أنه کان يجيد اللغة الترکية والعربية والفارسية واليونانية والروسية والفرنسية والألمانية وکان ملماً بالانکليزية.
عرض على الثوار العرب في فلسطين خلال عام 1936م مساعدتهم بتقديم الرجال والسلاح فضاع اقتراحه بين الأخذ والرد. وفي عام 1948 اقترح على الحکومة السورية ان يؤلف فرقة من الأکراد تعين العرب على صد هجمات خارجية فلم تأخذ الحکومة السورية باقتراحه.
بعد اندلاع نار الحرب العالمية الثانية بدأت الضغوط مرة أخرى تنهال على المثقفين الأکراد المقيمين في دمشق وفي ما بين أعوام 1943م و 1946م ألزمته السلطات الفرنسية بالإقامة الجبرية ومنعته من مغادرة دمشق. وعندما رفعتها عنه عام 1947م دعي الأمير الى ترشيح نفسه للنيابة عن الجزيرة المأهولة بالأکراد، فلبى الطلب وذهب الى الجزيرة بموافقة السلطات السورية للقيام بحملته الانتخابية، لکنه ما کاد يطؤها ويقضي 24 ساعة فيها حتى اعادته السلطات السورية الى دمشق مخفوراً.
ومهما يکن من شيء فلا ينبغي للمرء أن ينسى أنّ جلادت بدرخان، بالإضافة الى نضاله القومي، کان ضليعاً في اللغة وقواعدها وخبيراً بدقائقها، وکان کاتباً مُجيداً وشاعراً ومترجماً فذاً... ينشر شعره وقصائده باسمه الصريح وأحياناً وأطوارا باسم مستعار. ومازالت أعماله الرائعة يعاد نشرها ويقبل القراء على قراءتها بشوق کبير... وکأنها کتبت اليوم رغم مرور أکثر من خمسة وسبعين عاماً عليها.
هذا القدر الذي هيمن على أيام الأمير الأخيرة کان القدر نفسه الذي رافقه منذ ولادته ووجه حياته توجيهاً لم يکن في يد احد ان يبدل شيئاً فيه. فعندما ولد الأمير جلادت کانت ولادته صعبة وأمه تأبى وترفض دعوة الطبيب إلا أنه استدعى على کرهٍ منها فحکم ان الطفل قد مات قبل الولادة، واستخدم الکلابة لينتزعه وسلمه للخادمة لتضعه جانباً، بينما يؤدي الإسعافات اللازمة للام. فبقي الطفل مهملا منسياً فترة من الزمن حتى صرخ على حين غرة فتجمع الأهل والأصحاب حوله يهللون من شدة التأثر والفرح، وقد بقي اثر الکلابة في رأس الأمير حتى آخر أيامه.
لم يکن جلادت قد تعاطي الزراعة أو التجارة يوماً في حياته ولم يکن يعتقد احد من معارفه انه خلق ليکون مزارعاً او تاجراً، غير ان للأقدار مشيئة غير مشيئة البشر. ففي سنة 1950 طغت حمى القطن على البلاد السورية وأخذ المزارعون وغير المزارعين يسعون الى زراعته ويحلمون ببناء ثروات عجلى بفضل تصديره فاتصل "حسين بک ايبش" الذي يملک أراض واسعة في قرية الهيجانة على بعد 35 کيلو متراً من دمشق بصديقه الأمير جلادت وعرض عليه ان يشاطره استغلال تلک الأراضي، فقبل الأمير، رغم ممانعة زوجته. واقتضى المشروع حفر بئر کبيرة بلغ عمقها نحو 25 متراً ونصبت اڵالات عليها لسحب المياه وخزنها في برکة قريبة من البئر، وکان الأمير يذهب کل يوم الى الهيجانة ليراقب الأعمال. والغريب انه منذ شهر شباط 1951م ما کان ينظر مرة الى هذه البئر تتسع وتتعمق إلا شعر بانقباض عميق حتى دعا البئر بالبئر (المقدّرة) قبل خمسة أشهرمن وفاته. وکان يعنون رسائله من الهيجانة الى قرينته وأولاده بذلک الاسم. وکان يتوجس ان تحمل له هذه البئر شؤماً مقدراً.
وفي الساعة التاسعة من صباح يوم 15/تموز/1951م بينما کان جلادت جالساً على حافة برکة الماء المجاورة للبئر إذا بانفجار عنيف مفاجئ يحصل في برکة الماء نتيجة للضغط فتتدفق المياه بغزارة وتهدم الجدار الذي کان جلادت واقفاً عليه وتجرفه مع الحجارة والتراب الى البئر فلا يعي جلادت إلا وهو في قبضة (البئر المقدرة) التي کان قلبه يحذره منها منذ أشهر.
بقي الأمير في قعر البئر فترة من الزمن قبل ان وصول النجدة فنقل الى المستشفى الفرنسي بدمشق وکانت صورة بئر المقدرة ماثلة أمامه مع انه لم يکن يعلم ان حالته تؤذن بالخطر الداهم. على انه لم يمکث في المستشفى أکثر من بضع ساعات حتى فارقته الروح. وعندما وصلت زوجته بناء على مخابرة هاتفية وجدته جثة هامدة.
وقد قوبل النبأ المفجع في مختلف أوساط البلاد بالحزن العميق والأسى البالغ لما کان يتمتع به الفقيد من صفات علمية واسعة أحلته محل الاحترام من نفوس معارفه واصحابه، ومزايا خلقية رفيعة أنزلته أسمى منازل المحبة والود من قلوب أصدقائه. وقد احتفل بتشييع جثمانه بعد ظهر يوم الأثنين الواقع في 16/تموز/1951م بموکب مهيب تقدمته عشرات أکاليل الزهر، ومشى فيه بعض الوزراء والوزراء السابقون وکبار ضباط الجيش ورجال السياسة وعلماء الدين ووجهاء المدينة وشبابها وطلابها.
وفي تمام الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الاثنين الواقع في 16/تموز/1951م وبعد ان صلى على جثمانه في مسجد الشيخ محي الدين واصل الموکب سيره في حي الأکراد حتى مقبرة الشيخ خالد النقشبندي حيث أودع مقره الأخير. دفن في المقبرة التي دفن فيها جده الأمير الکبير: بدرخان.
وعلى شاهدة قبره نقشت أبيات من شعر صديقه الشاعر قدري جان.
أمير الأکراد وابن کردستان البار
حفيد بدرخان صاحب العزائم
جلادت... ذو التضحيات
وان کان جسمه مدفوناً هنا
إلا ان روحه صعدت الى السماء
في سبيل الوطن
صاحب العهد والميثاق
جعل روحه قرباناً
لم يمت هو خالد واسمه ابدي.
من أعماله:
ما عدا عن مجلتيه القيمتين(هاوار و روناهي).يذکر الباحث مالميسانز في کتابه "البدرخانيون في جزيرة بوطان" الصفحة181 لائحة بأسماء کتب ومؤلفات هي لثريا وکاميران وجلادت بدرخان منها المترجمة ومنها المؤلفة، لا نعرف فيما إذا کانت قد نشرت أم لا؟." 1-الى أخوة الدين: يشرح الکارثة الواقعة في روملي بلغة واضحة ألفه جلادت وکاميران بدرخان. 2-سلطنة الأدب: عبارة عن أربعة أجزاء يتضمن الجزء الأول القصائد والجزء الثاني النثر والجزء الثالث المقاطع- الرباعيات والجزء الرابع الأبيات. 3- الزفاف: يتألف من جزئين، يتضمن الجزء الأول القصائد والجزء الثاني الشعر النثري وهو للشاعر کاميران بدرخان. 4- الوظائف الاجتماعية للمرأة: تأليف آنا لامبربر، ترجمة: ثريا بدرخان. 5-الانفعالات أمام الکوارث: مبدع ومترجم أنها صرخات أدبية ووطنية للمؤلفين کاميران وجلادت بدرخان. 6-حکومة العزيزي الکردية: ثريا بدرخان و کاميران بدرخان. 7-شرارات المحاصرة: انها شرارات من النار الحقيقية لمؤلفه جلادت بدرخان بک. 8-مجرمو السيارة في محاکمة سان (sen) في باريس –لثريا بدرخان بک".
-حقيقة سقوط أدرنة، عام 1913م، بالتعاون مع أخيه کاميران بدرخان.
-قواعد الألفباء الکردية: طبع هذا الکتيب ضمن سلسلة (مکتبة هاوار)-1- عام 1932، في دمشق، تحت اسمه المستعار (هراکول آزيزان).
-صفحات من الألفباء: طبع هذا الکتيب ضمن سلسلة (مکتبة هاوار)-2- عام 1932، دمشق.
-المولد النبوي: کتب الأمير جلادت مقدمة لهذا الکتاب، ونشرها عام 1933 في دمشق.
-صلوات اليزيديين: کتب الأمير جلادت مقدمة لهذا الکتاب، ونشرها عام 1933-دمشق.
-رسالة الى حضرة الغازي مصطفى کمال باشا: ألفها جلادت بالترکية، وطبعها عام 1933 تحت سلسلة (مکتبة هاوار) العدد(6). ترجمة الى العربية: روشن بدرخان. الناشر: دلاور زنکي.
-حول المسألة الکردية: ألفها جلادت بالفرنسية، ونشرها عام 1934 تحت سلسلة (مکتبة هاوار) رقم(8) ترجمها ونشرها: دلاور زنکي.
-القواعد الکردية: أعدها ونشرها جلادت بالفرنسية عام 1943.
-قواعد اللغة الکردية: تأليف:جلادت بدرخان وروجر ليسکو، طبعة عام 1970 في باريس. ترجمها ونشرها: دلاور زنکي عام 1990م في دمشق.
-القاموس الکردي – الفرنسي: موجود في المعهد الکردي في باريس-غير مطبوع.
-القاموس الکردي- الکردي: مخطوط. موجود اڵان لدى ابنته (سينم خان بدرخان).
-أعرف نفسک: حول هذا الکتاب، انظر مجلة (هاوار) العدد/18/.
-کتاب سينم خان: هذا الکتاب يبحث في قواعد اللغة الکردية، وخاصة انه اعد لأجل الأطفال راجع مجلة (روناهي) العدد/19/.
-هفند: مسرحية، وهي مخطوط، وقد نشرت في مجلة (هاوار) العدد/20/.
-جوني وجيمينا: قصة انکليزية ترجمها:جلادت بدرخان، الى الکردية وطبعها عام 1943 بدمشق.
الأسماء التي کتب بها الأمير جلادت بدرخان وهي:
-هراکول آزيزان.-والد جمشيد.-والد جمشيد وسينم خان.-أمير بوطان.-C.A.B -هاوار.-صاحب هاوار. روناهي.-صاحب روناهي.-القاموسي.-نيرفان.- صياد هاوار.-خبر کوهيز.-جيروک بيز.-ستران فان.- طاووس باريز.- نفيسانوکا هاوار.- نفيسانوک. سيداي کروک.
على الأغلب هناک أسماء وألقاب أخرى. ويرجع سبب اتخاذه الألقاب المذکورة الى قلة الکتاب والأدباء في ذلک العهد وکان لقلمه النصيب الأوفر في مجلتي (هاوار) و (روناهي) لهذا کان يتستر تحت أسماء مستعارة.
المصادر:
- ذکرى الأمير جلادت بدرخان (1897-1951)، منصور شليطا ويوسف ملک.
- مالميسانز: (البدرخانيون في جزيرة بوطان)، وثائق جمعية العائلة البدرخانية. ترجمة: کولبهار بدرخان ودلاور زنکي، بيروت –لبنان، 1998.
- روشن بدرخان في لقاءاتي العديدة معها شخصياً.
- مجلة هاوار. النسخ الأساسية.
- إصدارات سلسلة (مکتبة هاوار).
- مذکرات جلادت بدرخان (1893-1951)م، جمع واعداد: دلاور زنکي، مطبعة: آميرال. بيروت –لبنان،1997.
دلاور زنکي