تعتبر قضية تدوين التراث الكوردي ( بصيغه المتعددة، ومقاماته وأوزانه وإيقاعاته الثرية والمتمايزة ) قضية شائكة حقا. فالتدوين يتطلَّب إدراك كنه هذا التراث كما هو، بحالته الأصلية، و يتطلَّب التمكن من المقامات أداء ًً وعزفاً وتدويناً، ولعلَّ من اطلع على الجهود المضنية التي بذلتها الباحثة الكوردية المعروفة : جميلة جليل من خلال بحوثها وكتبها العديدة التي تضمنت عددا كبيرا من الموسيقى والأغاني الفولكلورية الكوردية - وهي جهود جديرة بالتقدير فعلا ً – يُدرك بأن تدوين التراث يتطلب المعرفة الأكيدة بالمقامات والإيقاعات والأوزان الكوردية قبل كل شيء.والمأخذ الكبير الذي يؤخذ على أعمال الباحثة هو عدم تمكنها من المقامات والأوزان الكوردية بالرغم من دراستها الموسيقية الأكاديمية وتخصصها في العزف على البيانو. وقد أدَّى هذا إلى استبعادها لمكونات الأبعاد الموسيقية التي تشكل المقامات الكوردية، كالكومات وأجزاء التون (أو ما اصطُلِح على تسميته اختصاراً ب الربع تون وهو اصطلاح غير دقيق بطبيعة الحال) كما أنها لم توفََّق في رصد الأوزان الكوردية بدقة. ومثلها في ذلك مثل من يتخذ الأبجدية العربية كما هي، بدون أي تغيير، في كتابة اللغة الكوردية وتأتي كتابته خالية من الحروف P, J , Ç, O, I, E ,V, G, Ê, .. وبطبيعة الحال تكون النتيجة نطقاً وقراءة بعيدين جداً عن النطق الكوردي والقراءة الكوردية. وعندما تشرفتُ بالالتقاء بالباحثة جليلة جليل للمرة الأولى منذ حوالي خمسة أعوام – في مركز الفنون الموسيقية بالقامشلي - ثم في المرات التالية في السليمانية، على هامش مهرجان الأغنية الكوردية، ثم في معهد التراث الموسيقي الكوردستاني بهولير، دار بيننا ، بمشاركة عدد من الموسيقيين والباحثين، نقاش مستفيض حول إشكاليات تدوين الفنون الشفاهية عموماُ،والموسيقى والأغاني الشعبية خصوصاً. وشارك في النقاشات، في لقاءات أخرى, الدكتور جليلي جليل، والدكتور أورديخان جليل، كلٌ من زاوية اهتمامه وتخصصه بطبيعة الحال، وكان موقف الباحثة جميلة جليل واضحا دوماً، و عبَّرتْ عنه في عدة جمل: درستُ الموسيقى والمناهج الأوروبية، ولم تسنح لي فرصة دراسة المقامات والأوزان الكوردية، ولم أعزف على آلة كوردية أو شرقية، و اتبعتُ المناهج الروسية في تدوين التراث. وكانت حصيلة هذه اللقاءات والنقاشات أنها أعطتنا ، في معهد التراث الموسيقي الكوردستاني بهولير، حق مراجعة وتنقيح ونشر ما نراه مناسبا من جميع الأعمال التي صدرت عنها.
وهذا موقف كريم في الحقيقة، وهي صفة الإنسان الباحث الذي يطمح إلى الكمال دوماً. وأشير هنا إلى أن أعمال الباحثة جميلة جليل منذ كتابها الأول Klamêd Cim‘eta Kurda الذي صدر في موسكو عام 1965 عن دار نشر Neşireta Mûzîka - Moskva قد أصبحت بالنسبة للجيل اللاحق من الموسيقيين والباحثين (وأنا من ضمنهم بطبيعة الحال) مصدر إلهام، وحافز، كي نخطو على خطاها. فقد مهَّدت للجميع الطريق للسعي نحو البحث العلمي الصحيح في مجال دراسة التراث الموسيقي الكوردي وجمعه وتدوينه. ومنذ ذلك الحين صدرت عشرات الكتب والمدونات التي احتوت صفحات جميلة من التراث الموسيقي الكوردي في كوردستان العراق، وسوريا وإيران، وتركيا، والسويد، وفرنسا...وكان آخر ما صدر هو العدد الأول من (چلاواز) عن معهد التراث الموسيقي الكوردستاني، وتضمن عددا كبيرا من الأغاني (نصوصا ونوتة موسيقية، وتحليل للأبعاد الموسيقية والمقامات والإيقاعات ) أنجزها الفنان والباحث المعروف وريا أحمد .
وفي العدد الثاني من (ﭽلاواز) – الصادرة عن معهد التراث الكردستاني بأربيل في كردستان العراق - الذي يتضمن أربعون أغنية تراثية وشائعة، نصوصاًً وتنويطاً، وبالأحرف العربية واللاتينية. قام بإعدادها الفنان كاميران إبراهيم الذي يجيد العزف على الطنبور و البزق، كما يجيد المقامات والأوزان الكوردية. و تعتبر هذه المجموعة هي تجربته الثانية في التدوين بعد مجموعته الأولى التي صدرت عام 2003 عن مركز الفنون الموسيقية بالقامشلي - سوريا باسم Awazên Keske Sorê وتضمنت تدويناُ لعشرين أغنية جميلة للفنان الشعبي المعروف سعيد يوسف، نصوصاً ونوتة،وبالأحرف اللاتينية. واحتوت المجموعة كذلك على كشف بمقامات وإيقاعات الأغاني التي دوَّنها. وقد ساعده على إتمام تدوين هذه الأغاني كونه يجيد عزفها وأداءها.
أما المجموعة الحالية التي هي بأيدينا الآن، فقد صادفته صعوبات جمَّة في تحقيقها، خاصة أنه اعتمد في تدوين نغمات الكلمات على تكنيك عزف البزق بالريشة أولا، وليس كلمات الأغنية نفسها، أو الأحرف الصوتية التي تضمنتها كلمات الأغاني، هذه الكلمات التي احتوت في كثير من الأحيان على مدِّ للأحرف الصوتية تؤدَّى بنقرات متتابعة من الريشة، مما قاده إلى تدوين مكتظ بالنغمات ذات الأزمنة القصيرة لا مبرر له. وبالنسبة للأوزان فقد كان اختياره لأوزان بعضها صعباً، كون بعض الأغاني تحتمل التدوين في أكثر من وزن. كذلك كان عليه الأمر بالنسبة لمقامات بعض الأغاني التي لا تتجاوز مساحتها الصوتية عدة نغمات( جنس واحد، أو عقد واحد) وبالتالي فإن الأغنية كان يمكن تنسيبها إلى أكثر من مقام ( خنبات أم نهاوند كوردي؟). إلا أن الأخ كاميران - بعد النقاشات المطولة بيني وبينه التي أدَّت به إلى إعادة تدوين الكثير من النوتات والأوزان - استطاع أن يتجاوز معظم هذه الإشكاليات، فكانت هذه المجموعة من التي نُشرت في مجلة (ﭽلاواز).
صادفتنا إشكالية أخرى تتعلق بكلمات الأغاني نفسها، وبكيفية تقسيم الأبيات إلى صدر وعجز، وبكيفية تجميع عدة أبيات مع بعضها لتشكل ثنائيات أو ثلاثيات أو رباعيات، إضافة إلى احتواء بعض الأغاني لدمج (أو إدغام) لأكثر من حرف معاً، وبالتالي كيفية كتابتها. وقد تركنا هذا الموضوع على حاله، واكتفينا باعتماد التأدية الشائعة لها، خاصة وأن عديداً من الأغاني الفولكلورية يؤديها العديد من المؤدَّين والمغنين الشعبيين، وكل واحد منهم يؤدي الأغنية بالشكل الذي يراه هو الأفضل، لا الأصح. وهكذا فإن اختيار الأداء الصحيح واعتماده في التدوين، هو أمر يبقى بحاجة إلى المزيد من التدقيق والتمحيص، وكذلك إلى الاجتهاد. ومن الطبيعي أننا في معهد التراث الموسيقي الكوردستاني نبقي الباب مفتوحا على مصراعيه لتقبل كل اجتهاد، وكل ملاحظة تردنا من القراء الأعزاء، ونحرص كذلك على اعتماد المزيد من التدقيق والتمحيص.
وبعد:
نأمل أن تكون هذه المجموعة قد أضافت لبنة أخرى تضاف إلى عشرات البحوث والكتابات والمدونات والدراسات التي تناولت المورث الموسيقي الكوردي، التي أنجزها العديد من الباحثين المتخصصين، أو المهتمين الجادين بهذا الميدان.
د. #محمد عزيز زازا#
رئيس قسم الدراسات والأبحاث في معهد التراث الكوردستاني
هولير – كوردستان العراق