في فترة تسنّمه منصبَ سفير الدولة العثمانية، لدى السويد 1898 1908، كان شريف باشا محطّ اهتمام الصحافة السويدية، سواء بمتابعة أخباره، ونشاطاته، أو باجراء المقابلات معه. فقد كان الرجل واحداً من تلك الكوكبة، المحدودة، ذات الشهرة، ضمن أوساط السلك الديبلوماسي في ستوكهولم، بما عُرف عنه من أناقة، ومن شخصية جذّابة، بشواربه الكثّة، وطربوشه القاني اللون، وزيّه المرصّع بالنياشين والأوسمة.
شريف باشا، المولود في الأستانة، عام 1865، هو سليل رجالات الأسرة البابانية الشهيرة، الذين حكموا جنوب كردستان، انطلاقاً من مدينة السليمانية/عاصمتهم. كان والده سعيد باشا 1834 1907 من كبار شخصيات الدولة العلّية، حيث تقلّد مناصبَ رفيعة، تارة كوزير للخارجية، وأخرى كمستشار للسلطان عبدالحميد الثاني.
دَرَس شريف باشا، في مدرسة غلطة سراي المخصصة لأولاد الذوات، ثم تابع تحصيله العلمي والعسكري في أكاديمية سان سير الفرنسية، وعلى إثر انهائه للدراسة العليا، يعود شريف باشا إلى مسقط رأسه، فلا يلبث السلطان أن يعهدَ إليه بوظيفة استشارية في البلاط. ثم صدر الأمر باعادته إلى فرنسا، كملحق عسكري في سفارة بلاده. انتقل شريف باشا بعدئذ إلى بروكسل للعمل في السفارة العثمانية هناك، قبل أن يحلَّ في العاصمة السويدية، كسفير للدولة العثمانية لمدة عشر سنوات متتالية.
ما عتَم سفيرنا الكردي، أن أفصحَ عن شخصيته الراديكالية، المعادية للاستبداد، فما كان أحد يجهل آنذاك حال السلطنة العثمانية في ظل سلطة عبدالحميد المطلقة، وأجهزته السرية المخيفة، وفي المقابل ماكان بوسع المعارضة مواصلة نشاطاتها ضمن أسوار الإمبراطورية، بسبب جو الارهاب الحميديّ؛ مما أجبر رموزها على الالتجاء إلى أوربا، وتأسيس الجمعيات والصحف المناوئة للدولة، وكان من أبرز تلك التنظيمات، جمعية الاتحاد والترقي ، التي تأسستْ في الأستانة عام 1889، ثم نقلت فعالياتها إلى العواصم الغربية، خاصة لندن وبرلين وباريس، وفي هذه الأخيرة، كانت للجمعية جرائدها ومجلاتها التي لاتلبث نسخ منها أن تتسللَ إلى أراضي السلطنة، فتُوزع سراً. لقد دأبت الصحافة الفرنسية على اطلاق تسمية جون ترك/الشبيبة التركية على نُشطاء هذه الجمعية، بالرغم من أن الكثير منهم، كانوا ينتمون إلى قوميات أخرى، غير التركية، مثل الكرديين عبدالله جودت وإسحق سكوتي.
هكذا انخرط شريف باشا، خلال تواجده الرسمي في ستوكهولم، في النشاط المعادي للسلطان، مؤيداً الجمعية الاتحادية، وقد بعثت هذه بأحد أعضائها، المدعو أحمد رضا، في مهمة سرية، تهدف إلى تنسيق التعاون مع شريف باشا، حتى إذا كشف جواسيس السلطان أمر تلك الاتصالات السرية، فأوعزت الأستانة إلى الحكومة السويدية، باعتبار سفيرها لديها شخصاً غير مرغوب به، مما أجبره على ترك منصبه، والمغادرة إلى باريس.
حدث ذلك في نفس العام 1908، الذي شهد فيه حركة عسكرية بقيادة حزب تركيا الفتاة الاتحاديين، فأجبرت السلطان على إقرار الدستور، مع وصول أقطاب هذا الحزب إلى الوزارة، وتحكمهم بمجلس المبعوثان التمثيلي، لكن سرعان ماكشف هؤلاء عن وجههم الحقيقي العنصري، بتخليهم عن وعود الحرية والمساواة والإخاء لكافة الشعوب العثمانية. لاغرو، إذاً، أن يعود رجلٌ حرٌ من طراز شريف باشا إلى المعارضة، رافضاً التعاون مع هؤلاء المتسلطين الجدد، وأن يؤثر العيش في المنفى، حتى أواخر عمره المديد.
مع بقاء شريف باشا في أوربا، واصل النضال ضد حكومة بلاده، جنباً إلى جنب مع كافة القِوى الديمقراطية، ثم مالبث أن أسهمَ في تأسيس الحزب الراديكالي العثماني، جاعلاً من صحيفته المشروطية، صوتاً عالياً، يفضح سياسة الاتحاديين القمعية الشوفينية. وإزاء الخطر الذي شكّله شخصُ شريف باشا على حكّام الأستانة الجدد، فانهم لم يتورعوا في عام 1914 عن الايعاز لمجموعة من القَتَلَة المحترفين بالتخلص منه؛ جرت محاولة الاغتيال في منزل شريف باشا الباريسي، حيث قادها شخصياً قائد شرطة العاصمة العثمانية، وفي فشل تلك المحاولة، افتضحت على النطاق الدولي، لاأخلاقية السياسة الاتحادية المعتمدة على الارهاب والقمع. هذا الأمر زاد في حنق الأستانة على عدوّها الكردي، فأصدرت بحقه غيابياً حكمين متتاليين بالإعدام، مضيفة حكماً آخر جائراً، وذلك بالنفي لمدة خمس سنوات على شريكة حياته الأميرة أمينة، وهي حفيدة محمد علي باشا، مؤسس السلالة الملكية المصرية، كذلك أوعزت السلطة إلى وسائل الإعلام بشنِّ حملة عاتية خلل الصحف، تستهدف تشويه سمعة شريف باشا، خاصة مايتعلق بموقفه من القضية الأرمنية. فقد عرى من على منبر جريدته خطط إبادة الجنس الأرمني التي ينفّذها الأتراك، تحت جنح ظلام الحرب العظمى، بحق هذا الشعب الجار العريق.
مع الانهيار المتواتر للإمبراطورية العثمانية، اثر انتهاء الحرب، صار ممكناً الاستهلال في المناقشات الجدية حول مصير أملاكها الأوربية والآسيوية على حد سواء. هكذا بدأت مباحثات باريس الدولية، التي شهدت الحضور القوي للجنرال شريف باشا، كممثل لشعبه الكردي، وحائز على دعم حركتها الأبرز آنذاك جمعية إحياء كردستان، كما أنه ظهر في تلك المباحثات، كمدافع مستميت عن الحقوق المشروعة للشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه، وفي المفاوضات اللاحقة، الجارية في سيفر الفرنسية، صاغ الممثل الكردي الشرعي المطالبَ الكردية في بنود محددة، مرفقاً إياها بخريطة ل كردستان العثمانية، مع مستندات تاريخية وجغرافية. كذلك خاض شريف باشا مجادلات عديدة مع ممثلي الدولة التركية على صفحات الجرائد الفرنسية، فضلاً عن اسهامه فيها بالمقالات واللقاءات، وتوجيه الرسائل إلى بعض المقامات الأوربية المتنفذة.
لقد تكللت جهود الممثل الكردي بالنجاح، فكانت الثمرة: معاهدة سيفر التاريخية، في 10 آب 1920، التي اعترفت بالحقوق القومية للأكراد، وهي المرة الأولى التي تُثبّت فيها وثيقة دولية المطالب الكردية المشروعة. لقد منحت بنود المعاهدة، المرقمة 64، 63، 62 لهذا الشعب حقه في تأسيس كيان قومي مستقل عن الدولة التركية الحديثة، مشترطة استفتاءً للسكان بهذا الشأن. وكان من الطبيعي أن ترفضَ تركيا الكمالية هذه المعاهدة، وأن تجنّدَ وسائلها الإعلامية، في حملة هستيرية على الجنرال شريف باشا، متهمة إياه بالخيانة الوطنية. وفي هذا الخصوص، أغرقت السفارات والممثليات الأوربية في استانبول، بسيل من البرقيات المفبركة من قبل الحكومة، على أساس أنها مرسلة من الوجاهات الكردية التركية، مستنكرة ذلك التفاهمَ الكردي الأرمني، الرائع، والذي تجلّى في اتفاق سيفر.
على أن تغيّر موازين القِوى في المنطقة لغير صالح الشعب الكردي، جعل الدول الحليفة، تتخلى عن الأكراد، وتدعهم لمصيرهم المجهول القاتم، وبالتالي، تمّ وأد تلك المعاهدة التاريخية في رمال المصالح الدولية، ولاننسى أيضاً الخلافات الكردية الأزلية، بين مختلف الأجنحة والوجاهات السياسية والعائلية، والتي جعلت موقف مندوبهم الدولي حرجاً أثناء المفاوضات، ومابعدها.
هكذا، انسحب جنرالنا الكردي إلى دياجير وحدته، بعد رحلة مثيرة في دروب الحياة المغامرة. لنراه بعدئذ متنقلاً بين روما، وموناكو، وفي هذه الأخيرة، تزوّج للمرة الثانية من امرأة فرنسية.
وفي ليلة باردة، من ليالي كانون الأول 1951، أغمض الجنرال شريف باشا عينيه أبداً، تحت سماءٍ إيطاليةٍ، ثم نُقل جثمانه إلى القاهرة، ليُدفنَ، حسب وصيته، في مقبرة الروضة ، بجانب زوجته الأولى، الأميرة أمينة .