التاريخ الإسلامي مليء بالشخصيات التي أثّرت وبشكل كبير على تاريخ البشرية ومستقبلها في مختلف المجالات والميادين، والذين استفادت منهم الدول الغربية الآن ومن إبداعاتهم وآثارهم لينهضوا بأنفسهم ويصلوا لأعلى درجات التقدم والتطور والازدهار. وبعض هذه الشخصيات لم ينالوا نصيبهم من التاريخ المكتوب وبقوا مجهولين لدى الكثيرين رغم الإسهام الذي قدموه والدور الذي لعبوه في زمانهم ويبن مجتمعهم. ومن هؤلاء الأشخاص الكردي المعروف ب “زرياب” الذي أبدع في مجال الموسيقى والفن وكذلك في مجالات أخرى عديدة ليساهم وبشكل واضح في تقدّم المجتمع وتطوره نحو الأفضل والأرقى.
من هو زرياب
هو أبو الحسن علي بن نافع، كان أحد موالي الخليفة العباسي المهدي، ولُقِبَ ب “الزرياب” حتى تغلّب لقبه هذا على اسمه واشتهر به، أما سبب اللقب فإن بعض المصادر التاريخية تعزو السبب إلى سواد لونه وفصاحة لسانه وعذوبة صوته مما دفع البعض بمناداته ب الزرياب تشبيهاً له بطائر الزرياب الأسود اللون والعذب الصوت، في حين إن بعض المصادر الأخرى تذكر إن معنى الزرياب في اللغة الفارسية تعني الذهب الأصفر وذلك لصوته وأصالته الذهبية.
اقرأ أيضاً: بالتفصيل: كيف تحصل على منحة مجانية للدراسة في تركيا ؟
أما بالنسبة لأصله ونسبه فهو أمرٌ يحوي على العديد من الالتباسات والآراء المتباينة المتناقضة، ولكن ووفقاً لبعض المصادر والمراجع العلمية للباحثين والمستشرقين الأجانب فيُعتَقد إنه ذو أصول كردية، وهذا ما تخبرنا به المستشرقة الألمانية الدكتورة زيغريد هونكه في كتابها المعروف (شمس العرب تسطع على الغرب) في الصفحة رقم 488 عندما تقول: (كان الفتى الكردي زرياب ألمع تلاميذ مدرسته).
أما بالنسبة لتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته فهما كذلك لا يخلوان من الالتباس والشك، ولكن أكثر التواريخ المتفقة عليها من قِبل أكبر عدد من العلماء والمؤرخين والمستشرقين هو إنه قد ولد سنة 777م وعاش حتى عام 852م ليتوفى دون أي ذكرٍ لمكان ولادته ووفاته.
هجرته
زرياب 1
تتلمذ هذا الفتى الموهوب البارع على يد إسحاق الموصلي (الذي كان من أشهر المغنيين والموسيقيين خلال العصر العباسي والذي بلغ أعظم المنازل وأعلى الرتب عند ستة من خلفائهم) وكَبُر في كنفه، والذي بدوره لم يبخل على زرياب بشيء يعرفه وبحكمة يملكها، فعلّمه ودرّبه وزوّده بالقيم والسلوكيات الحسنة ليجعل منه فناناً بارعاً قلّ أمثاله.
ولكن لم تستمر العلاقة بين المعلم وتلميذه بهذا الشكل الحَسَن، فذات مرةٍ عندما طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد من إسحاق الموصلي بأن يحضر له مغنٍّ جديد موهوب، لم يسبق له وأن استمع إليه فما كان من إسحاق إلا أن يخبره عن فتاه الذي تعِبَ عليه وخلق منه أحسن الفنانين زرياب. فطلب الخليفة من إسحاق إحضاره، فقَدُمَ زرياب مع معلمه إلى بلاط الخليفة وجلس في مجلسه وقام بعد أن أذن له الخليفة بالعزف على عوده الخاص الذي كان قد صنعه بنفسه وبدأ بإلقاء قصيدة ألّفها في مدح الخليفة، عندها سُرّ الخليفة كثيراً بعد أن أطرب زرياب مسمعه بصوته العذب وعزفه الراقي وأُعجب به، وأكرمه بالمال، الأمر الذي أثار الحسد والخوف لدى معلمه إسحق، الحسد من إعجاب الخليفة له ولمدحه، والخوف على مكانته ومقامه، مما دفعه بعد أن خرجا من عند الخليفة أن يطلب من زرياب بأن يقوم على الفور بمغادرة بغداد دون رجعة وإلا سيقوم بقتله والقضاء عليه نهائياً.
وهنا أدرك زرياب خطورة الأمر، وعرف إنه لن يتمكن من أن يحقق حلمه ويعرض فنه في هذه البلاد بعد كلام معلمه، فما كان عليه إلا أن يقبل بالأمر ويرحل عن بغداد مع عائلته تاركاً أقربائه وأصدقائه خلفه ليتوجه إلى المغرب العربي ومنها إلى الأندلس عاصمة الدولة الأموية آنذاك، حاملاً في جعبته العديد من العلوم والفنون الموسيقية، والكثير من العادات والقيم والتقاليد في مختلف المجالات العلمية والأدبية والاجتماعية لينقلها من المشرق إلى المغرب.
بداية رحلته نحو الشهرة والإبداع
بعد أن غادر زرياب بغداد مجبراً حلّ ضيفاً في المغرب العربي ولكنه لم يتمكن من البقاء هناك طويلاً فلم يجد أمامه سوى أندلس، عاصمة الدولة الأموية، عاصمة الحضارة والعلم والرقي، عاصمة العلماء والعباقرة والمبدعين فراسل الخليفة الأموي الحكم بن هشام في قرطبة، ليأتيه الرد سريعاً دون تأخير برغبة الخليفة في حضوره وتواجد مثل هكذا بلبل في بلاطه.
ولكن وما إن وطأ زرياب أرض الأندلس حتى وافاه الخبر بوفاة الخليفة وتولي ابنه عبد الرحمن الثاني الخلافة، مما أولد حزناً لدى زرياب الذي وجد إن الأبواب تنغلق في وجهه واحداً تلو الآخر إلا أنه تفاجأ في النهاية بإرسال الخليفة الجديد في طلبه وإبداء رغبته في حضوره للبلاط الأموي.
فَقَدُم زرياب القصر مع عائلته ليستقبلهم الخليفة أحسن استقبال، استقبال يليق برجل موهوب وعبقري في مجالات عديدة، وراح يستمع إلى صوته العذب وألحانه المتقنة وأخباره عن الدول والبلدان والأمراء وأفكاره في مختلف العلوم والمجالات ليُعجَبَ به أيُّما إعجاب مما دفعه لأن يخصص له راتباً شهرياً يُقَدَرْ بمئتي دينار، ولكل فردٍ من عائلته عشرين ديناراً، بالإضافة إلى عقارات وبساتين تُقَدر ب أربعين ألف دينار، إلى جانب القيمة والمكانة التي يستحقها، وهذا ما لم يكن يتوافر لكبار العلماء من قبله، وكل هذا فتح المجال لزرياب لأن يبدأ رحلته نحو الإبداع والعظمة، ليبدأ في تكوين أسمه وحفره على صفحات التاريخ، ليبدأ في تقديم ما لديه من أفكار للإنسانية.
زرياب متعدد المواهب والقدرات
لم يكن زرياب مجرد عبقري في المجال الموسيقي، ومجرد ملِّحنٍ ومغنٍّ بارعٍ فقط، فلقد كان شاعراً مُجيداً، وعالماً ملماً بمختلف ألوان العلوم والمعرفة والآداب حيث إنه كان فلكياً عارفاً بالنجوم ومطّلعاً على جغرافية الأرض والبلدان، ومتعمقاً في التاريخ وفي أخبار الملوك والأمراء، فكان موسوعة متنقلة، وهذا ساعده لأن يقدّم العديد من الإسهامات ويقوم بالكثير من التجديدات في مختلف المجالات والفروع.
زرياب 2
إسهامات زرياب في المجال الموسيقي
قدّم زرياب إسهامات عديدة وتجديدات عبقرية في المجال الفني مشكلاً بذلك أساس الفن الراقي والمبدع الذي أتى من بعده، والذي استمر فضله ودوره حتى يومنا هذا، ومنها فقد أدخل تحسينات عديدة على آلة العود، فجعلها أخَف وزناً، وأستخدم في صناعة أوتاره مواداً جديدة كالحرير ومصران شبل الأسد، وكذلك قام بإضافة الوتر الخامس إلى العود والذي رأى فيه زرياب ضرورةً استكمالاً لمجموعة النغمات والأصوات التي كانت تخرج من العود ولزيادة الحرية في أداء القطع الصوتية والألحان المختلفة، وجعله متوسطاً بين الأوتار الأربعة السابقة، بالإضافة إلى إنه قام بتغيير المضراب الخشبي الخشن والذي يؤذي الأوتار ويتسبب في اتلافها فيما بعد واستبدلها بمضرابٍ من قوادم (ريش) النسر الأكثر ليونة ونقاوةً وخفةً على الأصابع والذي يحافظ على سلامة الوتر لمدة أطول بكثير.
وقد نقل الزرياب كل ما سبق له معرفته من آلات موسيقية في بلاد المشرق إلى الأندلس، وأخذ يتفنن عليها ويبتكر فيها ليجتمع بذلك في الأندلس ثروة كبيرةً جداً من الآلات الموسيقية لم تجتمع في أي بلد قبله، ليصبح بذلك زرياب حلقة الوصل التي نقلت الفنون الموسيقية وآلاتها من الشرق إلى الغرب.
وبعد أن لاقى زرياب قبولاً وموضعاً في قلوب الناس وصارت له مكانته المرموقة وقيمته الاجتماعية العالية ودوره الفعّال في المجتمع الأندلسي قام بتأسيس مدرسةٍ للغناء والموسيقى، والتي تعدّ أول مدرسةٍ أُسست لتعليم علوم الموسيقا وفنون الغناء وقواعد اللحن والإيقاع والتي أصبحت في مدة قصيرة قبلة لعشاق الفن والموسيقى ليس من العالم الإسلامي فقط وإنما من مختلف بقاع عالم الأخرى كذلك، واتبع زرياب في مدرسته فلسفة تعليمية خاصة به تقوم على أسس علمية في الصوتيات والموسيقي، والتي كانت تبدأ بإجراء اختبار لأصوات المقبلين على المدرسة قبل البدء بتعليمهم، فبذلك يعد أول من وضع أسس وقواعد لفحص المبتدئين الراغبين في التعلم، والتي يتم اتباعها حتى يومنا هذا في مختلف المعاهد والمراكز الفنية.
ويعتبر زرياب كذلك أول من وضع قواعد علم الصول فيج وتربية الصوت والسمع والقراءة الموسيقية، وأول من افتتح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر والعزف، وكما أنه كان يتمتع بقدرة هائلة على حفظ الألحان والأغاني، فيُقال إنه كان حافظاً لعشرة آلاف مقطوعة بغنائها وألحانها.
إسهاماته في الحياة الاجتماعية
لم يكتفِ زرياب بالإبداع في المجال الفني والموسيقي فقط وإنما أبى إلا وأن يترك بصمته الواضحة في الحياة الاجتماعية والعادات اليومية للمجتمع من حوله كذلك، ليضع بذلك أساس المجتمع الراقي المتقدم والمتحضر، وأساس الإنسان المدني المهذب بفعله وسلوكه، فهو من علّم الناس أناقة الملبس وتنويعه بين أوقات اليوم صباحاً ومساءً وبين الفصول الأربعة وتقلبات الجو المختلفة، كلبس الثياب الخفيفة القاتمة الألوان في الربيع والملابس البيضاء في الصيف والمعاطف والقبعات التي من فرو في الشتاء.
اقرأ أيضاً: 7 وسائل تقنية مُذهلة مُستخدمة في التعليم الحديث
وهو الذي علّمهم فن التجميل والعناية بالبشرة ونظافة الجسد والبدن حيث يعد أوّل من استخدم مساحيق ومركبات لإزالة رائحة العرق. ويُعتقد أنه أول من أستخدم ما يشبه معجون الأسنان الآن في تنظيف أسنانه دون أن يتم إلى الآن معرفة محتوياتها.
وهو الذي قام بإدخال قصات وتسريحات شعر مختلفة لكلا الجنسين لم يكن يعرفها الأندلسيون من قبل، بعد أن قام في البداية بتطبيقها على نفسه وأهله ليعجب بها أهالي الأندلس فيما بعد لمّا رأوها أنيقة وتضفي على الشخص جمالاً.
وحتى الطعام وآداب الصفرة لم تسلم من لمساته السحرية والإبداعية، فهو من علم الناس إعداد مائدة أنيقة للطعام وتنظيمها واستخدام أكواب وصحون من الزجاج بدلاً من التي كانت تُصنع من المعادن لأنها أكثر أناقة وأسهل تنظيفاً، وهو أول من أبتكر نظام الأكل على وجبات كتقديم الشوربة والمقبلات أولاً وبعدها يأتي الدور على الوجبة الرئيسة كاللحم والسمك والطيور وغيرها ليليها في النهاية الحلوى والفواكه والمكسرات. وهو من أدخل أنواع عديدة من الفواكه والخضروات إلى الأندلس واسبانيا لتنتشر منها إلى باقي أنحاء أوروبا.
هذه كانت سيرة رجل عبقري في مجال الموسيقى، رجل يعدُّ المبتكر لما يسمى اليوم ب “الإتيكيت”، رجل ظلمه التاريخ الإسلامي ليهتم به التاريخ الغربي أكثر ويستفيدوا من تجربته وآثاره وما قدّمه للعالم أجمع. [1]