الأميرة ميان خاتون، والسلطة
عيدو بابا شيخ
في تاريخ الشعب الكردي، كجميع الشعوب الأخرى، كثيراً ما استطاعت المرأة أن تسبق الأحداث وتجد لها مكانة وتثبت نفسها في المجتمع وأن تفوز على الرجال في لعبة السلطة، وتكذّب الجميع قائلة: بأن المرأة لا تهوى العمل السياسي، لانه عمل رجولي لا يناسب الشعور والنفسية الرقيقة للمرأة. وأحياناً يسوقون حجة نقص عقل المرأة بمقارنتها مع الرجل لابعادها عن العمل السياسي والسلطة وصنع القرار.
ميان خاتون الأيزيدية أيضاً واحدة من تلكم النساء، حيث إستطاعت أن تلعب دورها في إدارة شؤون أقليتها الدينية، ولم تكن أقل شأناً من الأمراء الذين سبقوها، بل بالعكس، كانت أذكى من الآخرين، إذن من هي ميان خاتون هذه؟
إنها ميان بنت عبدي بك بن علي بك بن حسن بك بن جول بك، وأمها خمي بنت جاسم بك بن صالح بك بن علي بك، أي هي من جهة أبيها وأمها تنتمي إلى سلالة أمراء الأيزيدية.
ولدت في قرية باعذرة التابعة لقضاء الشيخان بمحافظة نينوى في العراق، لم يسجل تاريخ ولادتها في أي مصدر، لكن المرحوم شاكر فتاح كتب يقول عنها: (عندما شاهدتها كانت في الخامسة والسبعين من العمر) وفي موضع آخر من الكتاب ذاته يقول: (وصلت قضاء الشيخان بتاريخ 13/11/1948)(3) وبحساب بسيط يكون عام 1873 عام ميلادها، وهو برأينا تاريخ مقارب جداً.
تربت ميان خاتون في أحضان عائلة الامارة في باعذرة، وتلقت عفوياً مبادىء الديانة الأيزيدية ومن ثم تقاليد الامارة، ثم تزوجت من ابن عمها الأمير علي بك بن حسين بك، وكان زوجها يسشيرها في كثير من الأمور في بداية حياتهما الزوجية.
عندما ضغط قائد الجيش العثماني الفريق عمر وهبي على الأمير (علي بك) ليعتنق الاسلام عام 1894م رفض الأمير وقال: لو قتلتموني لا أحيد عن ديني قيد شعرة، فتم نفيه الى مدينة (سيواس) واصطحبت ميان خاتون زوجها الى سيواس، وبقيت معه لمدة ثلاث سنوات تواسيه وتشد من أزره، ثم رجعا مرفوعي الرأس الى بلدهما، ولازالت الأيزيدية تمجدهما وخاصة الأميرة ميان حيث كان السفر بالنسبة للمرأة في ذلك الوقت مهمة عسيرة.
بعد ذلك ساهمت ميان خاتون بصورة أنشط في إدارة شؤون الامارة مع زوجها، وقد زارت الكاتبة البريطانية (كرترود بيل) الأمير علي بك وزوجته ميان خاتون في أيار 1909م في قرية باعذرة، حيث استقبلها الأمير علي بك في مقره، ثم أخذها الى دار الحريم للتعرف على زوجته، حيث وجدتها جميلة وقد إرتدت فستاناً من القطن الأرجواني وعلى رأسها غطاء مخملي أسود على حجاب حرير ملتف على رأسها وتحت ذقنها، دون أن يخفي وجهها، وفي معصمها أساور ذهب ثقيلة مرصعة بالفيروز. لم تكن تتكلم غير الكردية .فحيتها المس بيل بواسطة سكرتير البك الكلداني (من قرية ألقوش)
لم يكن العبء على كاهل ميان خاتون كبيراً، حيث كان زوجها موجوداً، ولكن زوجها أغتيل عام 1913م(*) وخلف وراءه إبنه (سعيد بك) البالغ من العمر آنذاك عاماً فقط، من الطبيعي أن هذا العمر لا يناسب الامارة من جهة، ومن جهة أخرى كان تنصيب الأمير ينبغي أن يكون برضى غالبية وجهاء ومتنفذي الأيزيدية، وفي الوقت نفسه أراد عدد من أفراد عائلة الامارة أن يحلوا محله، لكن ميان خاتون بفطنتها وعلاقاتها استطاعت أن تقنع كلاً من الحكومة العراقية وكذلك وجهاء ومتنفذي الأيزيديين بتنصيب إبنها (سعيد بك) كأمير للأيزيديين، وأن تفشّل خطط ومآرب المنافسين والخصوم، وقد أصبحت هي الوصية على إبنها الأمير، وقبضت السلطة الفعلية، وتمكنت من إدارة الأمور بكل قدرة ودراية وبشهادة الأيزيديين والغرباء، ولكن يفاعة سعيد بك وعدم اعجاب الناس بتصرفاته وأفعاله جعلت الفرصة سانحة للطامعين في منصب الأمير. إثنان منهم كانا من أقرباء الأمير وهما (سيدو بك) و(إسماعيل بك) وثالثهما من خارج العائلة، وهو من متنفذي منطقة سنجار والمدعو (حمو شرو). هؤلاء خلقوا متاعب كثيرة لسعيد بك، لكن ميان خاتون استطاعت مرة أخرى بذكائها وحلاوة لسانها وعلاقاتها المتينة السيطرة على الجميع، وحصر الامارة في يد إبنها، وبقي الحال كذلك الى أواخر شهر تموز من عام 1944م حيث توفي الأمير سعيد بك وخلف خمسة أبناء وثلاث بنات(6).. إختارت ميان خاتون هذه المرة حفيدها (تحسين) للامارة لأن أمه أيضاً من سلالة الأمراء، رغم أنه آنذاك لم يكن يتجاوز الثالثة عشر من العمر، وكان له أخوان يكبرانه عمراً، تمكنت ميان خاتون مرة أخرى أن تحوز على رضا الوجهاء والمتنفذين من جهة، واصطحبت حفيدها الى بغداد لتحصل على موافقة ملك العراق من جهة أخرى، وصارت وصية على حفيدها أيضاً الى أن بلغ سن الرشد أي كانت هي الحاكمة الفعلية لتلك الفترة أيضاً رغم أن رأيها كان المقرر حتى في حالة بلوغ الابن والحفيد.(
لم يقتصر تقدير وإحترام ميان خاتون على الأيزيديين فقط، بل تعدى ذلك الى وجهاء المنطقة عامة وكذلك السلطة، فقد بعثت ميان خاتون رسالة الى المرحوم شاكر فتاح بتاريخ #06-06-1950# نقتطف منها هذه الأسطر: عزيزي: إن كنت لا تحب أن تفارقنا أي تفارق قضاء الشيخان العزيز، أنا مستعدة من الآن للتوجه الى الموصل مرة أخرى لكي تبقى هنا. نستشف من هذه الأسطر مقدرة الأميرة ميان خاتون على نقل أو إبقاء قائمقام في السلطة أو غيره من كبار الموظفين. من جهة أخرى رفضت ميان خاتون إدخال بني جلدتها في قتال ضار أي القتال ضد ثورة بارزان عام 1945 بل بالعكس ومثل كثير من وجهاء المنطقة سعت الى الاتصال بالمرحوم البارزاني وكلفت الشهيد (أنور المايي) بالتوجه الى البارزاني للعمل على دوام الصلة بينهما حيث كانت هي لا تستطيع الاتصال به مباشر،ة لكبر سنها من جهة ولكونها إمرأة من جهة أخرى، كان عمرها آنذاك يتجاوز السبعين وكان صعباً لإمرأة مثلها القيام بمثل تلك الأنشطة، وفي تلك الأيام بالذات ليس بين الأيزيديين فقط، بل في المنطقة كلها، وقد عينت شخصاً موثوقاً به لذلك الغرض كما أن المرحوم المايي يؤكد ويتوسل من البارزاني على عدم إضاعة هذه الفرصة، نظراً لمتانة مركزها وتأثيرها الديني والدنيوي الكبيرين على أبناء ديانتها من الكرد الأيزيديين حيث يبلغ عددهم نحو (600000 )نسمة في مشارق الأرض ومغاربها، والتي لا تستطيع مخالفتها بوجه من الأوجه. (وردت هذه المعلومات في رسالة (أنور المايي) الى البارزاني في 22/6/1945).
عاصر الدملوجي الأميرة ميان خاتون، ورآها عن كثب وترقب تصرفاتها بدقة، وربما قسى عليها في بعض أحكامه فكتب يقول: تبلغ ميان خاتون من العمر خمسة وسبعين سنة، وقد أدركتها في مقتبل أيام حياتها وهي على جانب من الحسن والجمال. وهي ذات عقل راجح وفكر صائب ونظر بعيد من الأمور، يحترمها الشعب ويخافها، وتتمتع بنفوذ عظيم ولا يجرؤ أحد أن يخالف لها أمراً، الكل يرهبونها في الحضور ويغتابونها في الغياب... إذا حضرت مجلسها ترى آثار العظمة والنبل تلوح عليها، وهي كثيرة التشاؤم لا تثق بأحد، شديدة الامساك، لا يفلت من يدها فلس، على رغم كثرة مواردها، فيها مكر وخداع، لا يؤمن لها جانب، وقد تقسو على من يقف في سبيلها الى أن تنزله القبر.
أما المرحوم شاكر فتاح فقد وصفها كما يلي: تعتبر ميان خاتون من النساء العظيمات في سلالة الامارة، امرأة نشيطة وواعية وعاقلة، كان الأيزيديون يتهيبون منها ويحترمونها كثيراً. كانت علائم النبوغ والذكاء وبعد الأفق شاخصة فيها، كانت الزعامة تليق بها وكانت مدبرّة في معظم الأمور. كانت تحتفظ بعقل راجح وذاكرة قوية الى آخر أيامها، لكنها لم تحتفظ بجمالها وصحتها.
وكتب (مير بصري) بأنها تولت الأمور بعد مقتل زوجها علي بك سنة 1913م وكانت امرأة عاقلة حسنة التدبير.
كانت الأميرة ميا خاتون إذا حضرت مجلساً، نهض الجميع أمامها إحتراماً، وكانت تتقدم الآخرين لاستقبال ضيوف الأمير من رؤساء العشائر الكرد والعرب أو من رجال السلطة كالوزراء والمسؤولين، تجالسهم وتناقشهم، لكنها كانت لا تناول الزاد معهم، لكي يأخذوا راحتهم في الأكل. كانت تدخن، ولكنها لا تحمل السلاح، كذلك كانت تهوى سماع الأغنية الكردية في مجلسها وخاصة المطارحات الغنائية، لكنها كانت ترفض أن يمتدحها أحد بالغناء، وكانت كريمة تساعد الفقراء والمعدمين، فكانت تأمر بشراء عشرات أطوال القماش من الموصل في أيام الغلاء لتوزيعها على الفقراء والمساكين، ويقال أنها أمرت مرة باعداد زاد الغداء لعدد من أفواج المشاة في العهد الملكي، حيث كانت قد قدمت الى منطقة الشيخان لغرض التدريب والفرضيات، وكثيراً ما كانت تقدم هدايا الى ضيوفها كل حسب مكانته ومنزلته الاجتماعية، وهذه الأسطر تفند رأي الدملوجي القائل بأنها شديدة الامساك لا يفلت من يدها فلس، لكن ميان خاتون كانت تعرف من أين تؤكل الكتف، حتى في كرمها واهدائها تحسب ألف حساب، فعلى سبيل المثال تقديمها هدايا لمتصرف الموصل عبدالعزيز في سبيل قطع راتب إسماعيل بك.
رغم أن ميان خاتون كانت لا تجيد القراءة والكتابة، لكنها كانت تحب المدنية ولهذا لم تقضي أيامها قابعة في المنزل، بل كانت تتردد على المدن والقصبات وتستقبل الوجهاء والمسؤولين، وحاولت أن تجد معلماً خاصاً لحفيدها (تحسين بك) ليتولى تثقيفه وتعليمه، وبالعكس من الكثير من رجال ذلك الوقت، عبرت عن رضائها وقبولها بمد التيار الكهربائي الى مرقد لالش، وسعت الى شمول منطقة الشيخان بالتيار الكهربائي ولم تمانع في فتح المدارس في المنطقة.
كانت ميان خاتون تحرص على سماع تراتيل وأدعية الديانة الأيزيدية، بل أحياناً كانت تبعث في طلب رجال الدين لذلك الغرض، وقد فعلت ذلك قبل وفاتها المفاجئ في أحد أيام الشتاء من عام 1956 في باعذرة.فحضر جمهور غفير في تشييعها، ودفن جثمانها في مقبرة الامارة بباعذرة، وكان في مقدمة المعزين من موظفي الدولة متصرف الموصل آنذاك الذي حضر مرتين جالباً معه في المرة الثانية برقية ملك العراق الى الأمير تحسين بك يعزيه بوفاة جدته ميان خاتون.
وبهذا أسدل الستار على حياة امرأة قضت أكثر من أربعين عاماً من حياتها، وهي تصارع الرجال، وعلى مختلف الجبهات، بل طرحت العاطفة جانباً ومنهم من كان أقرب الناس اليها وهو شقيقها اسماعيل بك، وأفشلت معظم خططه باعترافه شخصياً وبذلك أثبتت أن المرأة ليست كتلة من العاطفة بل أيضاً لها عقل وإرادة وتخطيط وغيرها من صفات القيادة. [1]