دجوار أحمد آغا_
عندما كانت النساء تسير مسافة خمسة أمتار، أو أكثر خلف الرجل ومغطاة من رأسها حتى قدميها بالثياب، وعندما كان خروج المرأة وحدها من منزل أهلها، من الأمور التي يعاقب المجتمع الأسرة عليها، اعتمادا على العادات والتقاليد البالية بنظرة دونية للمرأة. في ظلّ هذا المجتمع، وهذه الظروف البالغة القسوة، ظهرت وردة وأينعت في سماء كردستان صوتاً حنوناً دافئاً، يلامس شغاف القلب، إنها عيشة شان أو عيشانا علي، كما كان يحلو لها تسمية نفسها.
البداية الصعبة والأليمة
عيشة شان تعود بأصولها الى مدينة أرزروم “أرضروم” في باكور كردستان، وخلال الحروب بين العثمانيين، والروس على تراب كردستان هاجر أجدادها من مدينتهم، بعد أن فقدت العائلة العديد من أفرادها في هذه الحروب، والدتها أليف خان ووالدها محمد أوصمان علي شان، الذي فقد حياته خلال خدمته الاحتياطية في الحرب العالمية الثانية (1939 / 1945) بعد ولادة عيشة شان بفترة وجيزة، وهي ما زالت في بداية عمرها المليء بالأوجاع والآلام، ولدت عيشانة في حي “عرابداشه” ضمن أسوار آمد سنة 1938، حيث كانت أسرتها تعاني من شظف العيش، خاصة بعد أن فقدت معيلها الأول، درست عيشة شان الابتدائية في الحي، ولم تكمل دراستها لصعوبة تأمين التكاليف، كانت هي ومنذ صغرها تساعد والدتها في عجن الخبز، وبيعه لتأمين مصروف البيت ومساعدة والدتها، انتبهت إلى جمال صوتها ونعومته، عندما كانت تصدح بالقصائد الدينية لدى اجتماع النساء في منزلهم، كما أنها كانت تتلو القرآن بشكل جميل جداً، ما أدى الى حبها الشديد لصوتها، ومن خلاله حاولت أن تشرح المعاناة، التي مرت بها خلال حياتها، التي استمرت في ظروف بالغة القسوة.
بزوغُ موهبتها الغنائية
بعد أن شعرت بوجود هذه الموهبة الفريدة من نوعها، وهذا الصوت المخملي، إلى جانب الجمال الآسر والأخّاذ الذي يسر الناظرين إليه، وكذلك الإحساس المرهف تجاه الغناء، ازدادت ثقتها بنفسها وصوتها كثيراً، سعت جاهدة لإقناع عائلتها بالسماح لها بالغناء في الأماكن العامة، ولكن هيهات، فالعائلة محافظة، ومتمسكة بالعادات والتقاليد، ما جعلها حجر عثرة في طريقها، لكنها لم تيأس، واستطاعت نتيجة هذا الإصرار والحماس الكبير، أن تسجل أولى أسطواناتها الغنائية بشكل سري، وهي في الخامسة عشرة من عمرها، اشتهرت الأسطوانة، وذاع صيتها بين الناس بشكل كثيف، ما سبب إحراجًا، وخجلا كبيرين، ولكي تحافظ العائلة على مكانتها، وقيمتها بين المجتمع المحافظ، قامت بتزويجها على ضرة، أي لرجل متزوج وله أولاد، ويفوقها بالعمر ضعفين أو ربما أكثر.
إصراها على النجاح
لكن ذلك لم يمنع عيشة شان من الاستمرار في رسم خط حياتها بنفسها، فبعد عدة سنوات لم تستمر في هذه الحياة، حيث قررت أن تواجه الظروف، مهما كانت صعبة وتنتصر عليها، فهربت مع طفلتها الصغيرة “ياسمين” وعادت إلى آمد، لكن المجتمع أصبح ينظر إليها نظرات استهجان، ويتحدثون عنها بشكل سلبي، ما أرغمها على الزواج بشخص، يُدعى “جركس” الذي اشترط عليها عدم الغناء والامتناع عنه، ونتيجة للظروف الصعبة، التي كانت تعيشها قررت أن توافق، لكن حياتها مع جركس لم تستمر طويلاً، إذ أنه قُتل بعد فترة وجيزة بسبب عادة “الثأر”، الأمر الذي دفع بها إلى الذهاب لمدينة ديلوك “عنتاب” في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، حيث بدأت بالعمل في مكتب لقطع تذاكر باصات النقل الداخلي، بالإضافة إلى غنائها بالتركية لإذاعة ديلوك المحلية.
بداية انطلاقها وحزنها الكبير
خلال تواجدها في ديلوك “عنتاب” تعرفت عيشة شان على الكثير من الفنانين، حيث بدأت هناك بالغناء بشكل أكثر احترافية مع وجود آلات موسيقية مختلفة، انتشرت أغانيها في الإذاعة المحلية، وأصبح صوتها يجذب أصحاب النوادي لإقامة الحفلات والأعراس، حيث غنت لهم بالكردية غناءً عذباً جميلاً، لكنه كان السبب في فصلها من الإذاعة بسبب غنائها بالكردية، استمرت في الغناء هناك حتى العام ،1961 حيث توفيت ابنتها ياسمين، والتي حزنت عليها كثيراً، ولم تستطع أن تبقى في ديلوك بعد ذلك، فقررت التوجه إلى إسطنبول، التي سجلت فيها أول أغنية وهي Ez Xezalim “أنا غزالة” والتي لاقت نجاحاً كبيراً، ونالت من خلالها عيشة شان شهرة واسعة.
سنوات إسطنبول
كانت سنوات إسطنبول مهمة جداً لتحديد مدى قدرة عيشة شان على استمرارها في مواجهة الظروف الصعبة، التي اعترضت طريقها، حيث كانت تمتلك جرأة كبيرة في الغناء بالكردية، التي كانت ممنوعة في ذلك الوقت، ويحاسب عليها القانون، فقد استمرت في العطاء، فسجلت أسطوانتين بعد نفاد الأسطوانة الأولى من الأسواق، وبدأت تظهر في الحفلات الغنائية الكبيرة التي يقيمها فنانون كبار، على مستوى تركيا أمثال (عارف صاغ، زكي موران، أورهان كنجه باي، نوري سيس كوزل…) ما أدى إلى لمعان نجمها في سماء تركيا وكردستان عموماً، لكن هذا الأمر لم يرق للسلطات التركية الفاشية الذين هددوها بعدم الغناء بالكردية، وبأنها إن غنت بالتركية فقط، يسمحون لها بالغناء في القناة التلفزيونية الأولى في تركيا وقتها TRT، لكنها رفضت ذلك، وأصرت على الغناء بلغتها الأم الكردية، وبصوتها الشجي، ما أدى لتعرضها لطعنة بالسكين من جانب أحد الفاشيين الأتراك، ما دفعها لترك إسطنبول والهجرة إلى المانيا، لم تستمر في ألمانيا كثيراً، إذ بعد أن تعافت من جرحها غادرت ألمانيا؛ لإحياء عدة حفلات غنائية للجالية الكردية في العديد من الدول الأوروبية (النمسا، هولندا، فرنسا…) وعادت بعدها إلى إسطنبول في عام 1972.
لقاء العمالقة
لم تستقر كثيراً في إسطنبول، فسبق أن تعرضت للطعن فيها على يد أحد الفاشيين الأتراك، وبنصيحة من بعض الأصدقاء توجهت إلى باشور كردستان وإلى الموصل تحديداً، حيث تعرفت على العديد من الفنانين الكرد المشهورين أمثال رمضان جزيري، كولبهار، محمد عارف جزيري، عيسى برواري، تحسين طه، ومنها توجهت إلى الإذاعة الكردية في بغداد، والتي كانت فرحة كبرى لهم بانضمام صوت كبير مثل عيشة شان لهم، وكان إن أقامت سهرة فنية رائعة، لازالت أصداؤها تصدح في سماء كردستان برفقة من محمد عارف جزراوي، وعيسى برواري.
وفاتها ونهاية الآلام
استمرت في الغناء والعطاء حتى عام 1992، حيث توقفت عن الغناء، واعتزلت هذه المهنة التي لطالما عشقتها، وغنت الكثير من الأغاني الخالدة مثل: Qederê – lê lê Bêmal – Lê lê Dayê – Wele tenagrim… وغيرها الكثير من الأغاني الرائعة.
وفي الثامن عشر من كانون الأول سنة 1996 غادرتنا بهدوء، وتم دفن جثمانها في مدينة إزمير التركية، والتي كانت تقضي آخر سنوات حياتها هناك.[1]