إعداد/ دجوار أحمد آغا
بدايات النشأة والدراسة
“رحمان” كما كان يُحب أن يناديه محبوه وأصدقاؤه، والذي اشتهر فيما بعد بلقبه قاسملو الذي يعود الى اسم الوادي الذي ولد فيه بالقرب من أورميه في روجهلات كردستان في ليلة شتاء طويلة في الثاني والعشرين من كانون الأول عام 1930 وهي السنة التي تم فيها اغتيال سمكو آغا شكاكي الزعيم الثائر من أجل حرية كردستان وشعبها. كان والده محمد آغا وثوق من الرجال الكرد المرتبطين بالقومية الكردية، وأصبح من الشخصيات الوطنية المعروفة حتى قبل تكوين جمهورية كردستان في مهاباد، حيث كان من ضمن أعضاء الوفد الكردي الذي توجه إلى باكو للقاء السوفييت. كان محمد آغا ملاكاً ميسور الحال حيث أرسل ولده للدراسة التي بدأها في مدارس أورميه ومن ثم انتقل إلى بغداد في العراق وبعدها إلى إسطنبول في تركيا سنة 1948. خلال فترة تواجده فيها تعرف على الأديب والصحفي الكردي موسى عنتر الذي جعل من منزله في محلة قاضي كويه مكاناً للقاء الطلبة الكرد القادمين إلى المدينة، سواء للدراسة أو للعمل، حيث كان ينشر الفكر الوطني الكردستاني بينهم ويقدم لهم الدعم والمساعدة.
الوصول إلى أوروبا
بفضل هذا الدعم من جانب موسى عنتر، استطاع قاسملو الوصول إلى تشيكوسلوفاكيا التي درس في جامعتها براغ الاقتصاد السياسي، وبعد تخرجه منها عمل على تدريس مادة رأس المال والاقتصاد الاشتراكي للطلبة في نفس الجامعة لفترة من الزمن، ومن ثم انتقل إلى باريس ليُدرس هناك مادة اللغة والثقافة الكردية في جامعة السوربون حتى سنة 1961. في باريس تعرف قاسملو على الحزب الديمقراطي الكردستاني في أوروبا من خلال اتحاد الشباب الديمقراطي، حيث لعب فيه دوراً محورياً من خلال شبكة علاقاته الواسعة التي أسسها، سواء في أوروبا الشرقية أو في أوروبا الغربية، حيث انضم بشكل رسمي لصفوف الحزب، وبعد فترة قصيرة نسبياً استطاع أن يغير من مفاهيم الحزب وأهدافه إلى صيغة جديدة تستند إلى استراتيجية (الديمقراطية لإيران والحكم الذاتي لكردستان)، وتعليقاً على هذه الاستراتيجية التي أصبحت شعار وهدف الحزب الرئيسي فيما بعد وفي إحدى زياراته إلى مملكة السويد اجتمع لفيف من الشبان الكرد، حوالي 500 شخص، للاستماع لمحاضرة قاسملو، وفي نهاية المحاضرة سأله أكثر من شخص حول عدم رفعه لشعار تحرير كردستان الذي هو مطلب عموم الشعب الكردي فرد الدكتور وبكل رحابة صدر قائلاً: أنتم هنا 500 شخص تستطيعون أن ترفعوا شعار تحرير وتوحيد كردستان، لكنني ومعي أكثر من 20 ألف مقاتل بيشمركة لا أستطيع أن أرفع هذا الشعار، لا بد أن نكون واقعيين.
زعامته للحزب الديمقراطي الكردستاني
الواقعية والعقلانية كانتا أهم صفتين يتميز بهما الشهيد قاسملو، فقد انتبه إلى ضرورة أن يكون للكرد في كل أممية موطئ قدم، لذا توجه بفكره صوب الاشتراكية الدولية والتي أصبح عضواً فيها ومحل احترام وتقدير. طرح الموضوع على رفاقه الحزبيين الذين اتفقوا معه على هذا الدرب، وفي المؤتمر الثالث للحزب المنعقد في 1973 لم يجدوا أفضل منه لقادة الحزب، حيث انتخب أميناً عاماً للحزب وأصبح من الشخصيات المؤثرة على الساحة الكردستانية ككل وليس فقط في روجهلات كردستان. وفي أواخر عام 1978 عاد من أوروبا إلى كردستان ليقود ثورة منظمة استطاعت أن تسيطر على 28 بلدة في روجهلات كردستان مؤسسة بذلك لحجر الأساس لما يشبه الحكم الذاتي لكردستان.
التطورات الإيرانية وحرب الخليج الأولى
لكن في أعقاب مجيء الخميني وقيام ما يُسمى “بالثورة الإسلامية” في إيران وحدوث الفوضى والاضطرابات استبشر قاسملو خيراً في النظام الجديد، حيث ذهب لطهران للمشاركة في كتابة الدستور الجديد للبلاد. لكن الخميني استبعد ممثلي الشعب الكردي من ذلك واعتبر أن الكرد من الشجرة الخبيثة ولا بد من استئصالهم والقضاء عليهم، حيث تم إعدام الكثير من خيرة الشباب الكرد بعد محاكمات صورية لدى محاكم خلخالي سيئة الصيت، مما أدى إلى تجدد الاشتباكات بين الطرفين.
اتخذ القتال منحىً خطيراً خاصة مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية 1980 / 1988 التي من خلالها ضعف النظام من جهة ومن جهة أخرى كان هناك دعم يقدمه النظام العراقي للحركة الكردية في روجهلات كردستان ليس حباً بهم إنما كرهاً بنظام الملالي في طهران، الأمر الذي أدى إلى تعاظم نفوذ الحركة الكردية وسيطرتها على مناطق واسعة من روجهلات كردستان. هذا الأمر دفع بالنظام الإيراني إلى اتباع سياسة مغايرة، حيث بعث برسائل عن طريق وسطاء من الحركة الوطنية الكردستانية في باشور كردستان والتي كانت هي الأخرى تتلقى الدعم من نظام إيران ليس حباً بهم إنما كرهاً بنظام بغداد.
الالتجاء إلى خديعة الحوار
لجأ النظام الإيراني إلى طريقة أخرى للقضاء على قاسملو بعد فشله عسكرياً، ألا وهي الحوار والمفاوضات عن طريق الوسطاء، وبحكم أن قاسملو كان رجلاً عقلانياً ورجل سلام فقد قبل الدخول في المفاوضات والجلوس إلى طاولة الحوار عن طريق الوسطاء، وكانت الجولة الأولى من المفاوضات بتاريخ 28 كانون الأول 1988 في فيينا عاصمة النمسا وكان الحوار مثمراً، حيث بدا وكأن مبعوثي طهران في صلب المطالب الكردية وكان قاسملو بطبعه ميالاً إلى السلم وحل القضية بالطرق السلمية من خلال الحوار، لذا وافق على إجراء جولة ثانية من المفاوضات في الثاني عشر من تموز 1989 في فيينا أيضاً، جرى الحوار في اليوم الأول بسلاسة بحضور نفس مبعوثي طهران وهم محمد جعفر سهرارودي وحاجي مصطفاوي وفي هذه المرة كان هناك شخص ثالث هو أمير منصور بوزورجيان، ومن الجانب الكردي كان كلٌّ من د. قاسملو وعبدالله قادري آزار عضو اللجنة المركزية للحزب وفاضل رسول ابن عم الأديب الكبير عزالدين مصطفى رسول وهو أستاذ جامعي وباحث في جامعة فيينا ولعب دور الوسيط.
الاغتيال البشع في قلب أوروبا
في اليوم التالي 13 تموز 1989 وحوالي الساعة السابعة والنصف مساء سقط قاسملو شهيداً بثلاث رصاصات وأصيب مساعده عبد الله بإحدى عشرة طلقة وفاضل رسول بخمس طلقات بينما تمكن حاجي مصطفاوي من الفرار وسهرارودي أصيب بجروح طفيفة، تم استجوابه ثم أطلق سراحه كونه يحمل جواز سفر دبلوماسي وبالنسبة لأمير منصور بوزورجيان تم توقيفه لمدة 24 ساعة ثم أطلق سراحه حيث التجأ إلى السفارة الإيرانية. في العشرين من تموز جرت مراسيم مهيبة حضرها أشخاص قادمون من مختلف بقاع الأرض ومن جنسيات وانتماءات مختلفة، تم تشيع جثمان الشهداء الثلاثة ودفنهم في مقبرة “بيرلانشيز” العظماء بباريس.
أعلنت السلطاتُ النمساوية أنها تمتلك وثائق تؤكد ضلوع الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بالمشاركة في اغتيال الدكتور قاسملو، لكنها في النهاية أغلقت الملف دون معاقبة القتلة.
مهدي زانا رئيس بلدية آمد (ديار بكر) حينها قال: “إن قاسملو إنسان ديمقراطي وإداري نشيط لأنه استطاع أن يبدع في حل مشاكل شعبه رغم الظروف الصعبة والإمكانات المادية الضئيلة”.
كلمات مؤثرة قيلت في مراسيم التأبين
برنار كوشنير الوزير الفرنسي المكلف بالعمل الإنساني لدى رئيس الوزراء الفرنسي حينها قال: “.. حينما أفكر بك يا قاسملو، أفكر بضحكتك، لقد كنت بارعاً في السخرية من كل شيء. كنت تقول (يا له من سوء حظ جغرافي) وكنت تقول: (لا يتم الحديث عن الكرد بما فيه الكفاية لأننا لم نحتجز رهينة ابداً، ولم نخطف طائرة، لكنني فخور بذلك). آه لو أن جميع زعماء العالم الثالث كانوا ديمقراطيين مثلك، لكان من الممكن تجنب الآلاف من الموتى”.
توماس همربيرغ رئيس اللجنة السويدية لمساندة الشعب الكردي: “لقد قدمت من السويد لأنقل إليكم تعازينا، وأعلن لكم كم صدمنا وأي حزن عميق يمتلكنا. لقد كان رجلاً حميمياً، جعل من سحره الشخصي وروحه المتسامحة قدوة لنا جميعاً في كل نضالاتنا الإنسانية وفي كفاحنا من أجل حقوق الإنسان والسلام العالمي”.
باتريك بودوان السكرتير العام للاتحاد الدولي لحقوق الإنسان: “ماذا فعل الرأي العام العالمي؟ ماذا فعلت الحكومات؟ اللامبالاة! الصمت! لكننا نعلم بأن شجاعة الكرد ستساعد على تجاوز المحن ونعرف بأننا يجب ألا نفقد الأمل”.
لقد لخص حياته رفيق دربه وكفاحه وصديقه المقرب المناضل عبد الله حسن زادة عندما قال أثناء تشييع جثمانه: “كان الدكتور قاسملو شهيد درب خلاص كردستان وإيران عامة، قائداً بارعاً ومناضلاً لا يعرف الكلل، قلما وجد تاريخ الحركة التحررية للشعب الكردي وشعوب الشرق الأوسط مثيلاً له. كان سياسياً يملك فكراً ثاقباً وقدرة في العمل ومكافحاً صامداً وشخصية علمية كبيرة وثورياً بكل معنى الكلمة. كان قاسملو يناضل في طريق نيل الحرية والعدالة الاجتماعية ويعمل على إزالة اضطهاد الإنسان للإنسان إلى الأبد، ومن أجل أن يضحى مصير الشعوب في أيدي ممثليها الحقيقيين. كان يؤمن بعمق بالديمقراطية. ويناضل بكل قواه من أجل ترسيخ الديمقراطية في صفوف الحزب والمجتمع”.
رحم الله شهيد الكرد وكردستان الدكتور عبد الرحمن قاسملو في ذكراه الثانية والثلاثين. هو لم يمت بل مازال حياً في قلوب وعقول الملايين من الكرد وأصدقائهم المحبين للسلام.[1]