كثيرة هي الأحداث المؤسفة والموجعة التي تأبى ذكراها أن تزول، بل أنها أصبحت مفردات الحاضر الكردي وثوابت في تاريخه الطويل مع الأنظمة والديكتاتوريات والقمع والسلطات، وفي كل آذار تعج الأيام بتلك الأحداث وتتلاحق حتى باتت كل أيامه ذكريات وجع وحقائق مقاومة، ومفردات ثورة لا تتوقف.
إحدى تلك الذكريات الموجعة التي ما زالت حاضرة في الوجدان الكردي ودليلاً على الفكر الشوفيني القمعي لنظام البعث حريق سجن الحسكة المركزي في حي غويران، والذي وقع في الرابع والعشرين من آذار عام 1993م، وكانت مجزرة بحق الكرد راح ضحيتها ما يزيد عن 60 شخصاً حرقاً واختناقاً.
السجن سيء الصيت كان نموذجاً من النماذج الكثيرة للفساد في دوائر النظام وفي سجونه الكثيرة، فقد كان يحوي أكثر من 700 شخصاً مع أنه كان مُعداً لمئتي شخص فقط، وكانت الرشوة والمحسوبية سيدة الموقف ليكون من يحظى بالدعم سيداً على من يشاركه تلك الأقبية المقيتة، وكان التعذيب والإهانة والتهديد نصيب الكثير من نزلائه القسريين.
العاملون على إدارة وأمن السجن كانوا من النخبة المعروفة بشوفينيتها وحقدها وتمييزها العنصري، لتعميق سياسة التمييز، ولكلِّ نزيل في السجن وكل موقوف معاملة خاصة، أول ما يميزها الانتماء القومي، وإمعاناً في خلط الأوراق وإهانة المعتقلين، كانت السلطات القائمة تزج بالمجرمين والمتهمين بشتى التهم من سرقات واغتصاب ومهربي المخدرات مع السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي.
أحد الناجين من الحريق “ج. أ. ش” من حي العزيزية الناجي من الحادثة والذي فقد والده وأخوه حياتهما في الحريق، وفي شهادة له لوسائل إعلامية أكد أن السجن كان يضم موقوفين كرد على ذمة التحقيق في قضية مقتل رجل ذي نفوذ في السلطة، وقامت عائلة القتيل بالاتفاق مع حراس السجن بتوزيع “الكاز” على السجناء وبكميات أكثر من المعتادة بحجة أن الكاز سينفذ، وإن عليهم أخذ احتياطاتهم لذلك، وقبل ذلك قامت إدارة السجن برش أرضية وبطانيات المهجع الذي احترق بمادة بودرة بيضاء بحجة مكافحة الحشرات، ويبدو أنها أيضاً كانت مادة مساعدة على زيادة قابلية اشتعال النيران.
تفاصيل نشوب الحريق
العديد من السجناء ممن نجوا من الحريق، رووا بعض تفاصيل الحريق المروع وأجمعت معظمها إن الحريق نشب في حوالي الساعة السادسة مساءً وبشكل مُفتعل وتسبب في حرق المهجع الثاني في السجن المركزي بالحسكة، كان سببه تواطؤ إدارة السجن مع مجرمي المخدرات في السجن بافتعال الحريق، وامتنعت الإدارة عن فتح أبواب المهجع رغم ضراوة النيران والاستغاثات
وبدأت النيران تتوسع وتخرج عن السيطرة وخاصةً مع تواجد كميات كبيرة من مادة الكاز داخل المهجع وفي هذه الأثناء قام “قهرمان علي” وهو أحد السجناء في المهجع الثالث بفتح باب المهجع بالمفتاح الذي أخذه من السجان بالقوة بعد أن حاول الهرب من المكان وبدأ السجناء بالخروج من المهجع ولكن نتيجة طول المهجع الذي يصل إلى حوالي 30 متراً واتساع رقعة النيران، ذلك حالَ دون خروج كل السجناء من المهجع وأدى الحريق إلى مصرع حوالي 61 سجيناً وإصابة الآخرين بالجروح وحالات الاختناق نتيجة الدخان المتصاعد من الحريق، وبحسب أقوال شهود الحدث أن جميع السجناء في المهجع فقدوا حياتهم اختناقاً بعد أن نالت منهم النيران.
ذر الرماد في العيون
السجن المريع كان قد بُنيَ أيام الوحدة السوريّة المصريّة وكعادتها قدمت إدارة السجن وسلطات النظام تبريرات وروايات مسرحية لم تُصدق، وقامت بإعدام عدد من المعتقلين الكرد، ليكونوا ضحايا من جديد لشوفينية النظام وإلصاق التهمة بهم وتبرئة المجرمين الحقيقيين، وقدم قائد شرطة الحسكة تقريراً إلى وزارة الداخلية تحت الرقم 1321/ص، ذكر فيه إن مسببي الحريق هم مجموعة من مدمني المخدرات، وبعد شهرين أُعدِم المتهمون الخمسة، وتم إغفال ملف أسود آخر من ملفات النظام الشوفيني.[1]