عبد الوهاب بيراني
الشاعر والشخصية المثقفة والوطنية ملا نايف حسو والمعروف بلقبه سيداي تيريج (شعاع) يعد من أحد أهم أركان الشعر الكردي الكلاسيكي المعاصر وأحد أبرز الشعراء الكرد خلال منتصف القرن الماضي إلى بداية القرن الحالي على الصعيد السوري والكردي عموماً.
وحينما نذكر الشاعر تيريج لا بد من ذكر الشاعر الخالد جكرخوين أيضاً لما كان لهما من دور بارز في إرساء اللبنة الأساسية للشعر الكردي المعاصر وباللغة الكردية وباللهجة الكرمانجية حصراً، لهجة كرد سوريا وباكور كردستان وأجزاء من باشور وروجهلات وروسيا، ومن هنا كان انتشارهم واسعاً رغم ظروف الاعتقال والمنع والسجن وحظر الكتابة باللغة الكردية ومنع طباعة أي منشورات كردية، فالشاعر الخالد جكرخوين الذي كان بمثابة معلمه وصديقه، وهو الذي ترك أثره الواضح وبصمته على كتابة القصيدة الكردية الكلاسيكية على خريطة الشعر الكردي منذ انطلاقته كشاعر له وزنه وتأثيره على مجمل الحركة الأدبية الكردية نثراً وشعراً، ولعل الشاعر تيريج كان التلميذ النجيب لهذه المدرسة الشعرية التي كرست نفسها لتكون صوتاً للإنسان الكردي المسحوق طبقياً وقومياً، وليكون الشعر صوته ورغباته وأمانيه، في الانعتاق من العبودية وليكون له وطناً حراً، كما لم يغفل عن قضايا الحب والعشق، وتعامل مع التاريخ، واستمد منه الكثير، ليقارن ماضي الكرد العريق بحاضرهم المتردي، وكتب أشعاراً عن جمال الوطن، وعن المدن الكردية وعن القرى والريف الجميل، وعن الطبيعة البديعة التي منحها الله لأرض وطنه؛ كردستان، وكتب عن جمال المرأة الكردية وتغزل بها في حدود وأقانيم اختلطت ما بين رمزيتها كوطن، وتماهت التخوم ما بين الوطن والمرأة، ورغم علومه الدينية والشرعية والفقهية القليلة والتي تركت أثرها العميق على وعيه المبكر، إلا أن علاقته مع أستاذه جكرخوين واختلاطه مع النخب المثقفة الكردية من سياسيين وأدباء تركت أثرها البالغ على وعيه الثوري، واكتسب تجربة عميقة من المعارف، وكانت الصحف والمجلات التي وصلت إليه عن طريقهم منبعاً ثرياً لمصادر ثقافته ومعرفته، كما أنه اهتم بالجانب الأدبي والتاريخي، فقرأ الكثير عن حياة وشعراء ممن سبقوه بقرون، مما أكسبه قوة التعبير وسعة المخزون اللفظي والقاموسي من الكلمات والمفردات، وأتقن علم العروض والوزن والموسيقى والوزن الشعري، وتعمقت تجربته، ولعل نصوصه الشعرية عن تجاربه في الحياة تكاد تكون كتاباً في المعرفة والحكمة، ولا تقل عن جوهر وفلسفة وشعر طاغور الهندي أو أحيقار السرياني، فقد أنشد الكثير من قصائد يمكن أن نطلق عليها أناشيد الحكمة، وأيضاً كان يغريه الربيع في البراري والتخوم المفتوحة، فيرى الأرض وقد ارتدت قفطانها الكردي المخضر كسندس فردوسي مزيناً ومزركشاً بالورد والزهر ويغرف من ماء ينابيعها وجداولها، ويرى جبال طوروس وجودي، ويستهويه الجمال فيكتب عن السهول والجبال والوديان والينابيع وجداول الماء العذب وعن العشب والزهر وعن جمال الوطن وعن نوروز وعن رموز البطولة والفداء، ويكتب عن شعلة نوروز وبطولة كاوا، ويكتب عن الطفولة وعن الأم وعن الغربة والحنين، باختصار نكاد لا نرى جانباً من الشعر إلا وقد توغل به، فقد أنشد بأسلوبه الشعري العميق قصائد مطولة في حب الأرض والوطن، وفي وصف جمال طبيعة الوطن الساحر، مستخدماً ذات الأوزان الشعرية التي سار عليها الأولون، كالجزيري والخاني ولاحقاً جكر خوين، ولم يكن يقيم وزناً للشعر المتحرر من الوزن والإيقاع والقافية، فكان يصفه بالنثر، ومعرباً عن رأيه والذي صرح به أكثر من مرة عبر حوارات صحافية أو برامج تلفزيونية بأنها نثر ممجوج ولا تعد بأي حال شعراً، وإنما هي تشويه لحقيقة الشعر الكردي، فيقول في أحد حواراته:
“إنني أرى الشعر نظماً ولحناً وقافية ومضموناً”. مثل هذه المعركة أو المعارك والصراعات بدأت على صعيد الشعر العربي أيضاً، وكان فطاحل الشعر الكلاسيكيون يرفضون قطعياً أي صلة بين الشعر الذي كانوا يبتكرونه بشكله الكلاسيكي المعروف والمتوارث منذ قرون وبين الحداثية الشعرية التي بدأت رياحها تهب على المنطقة العربية والكردية، ودار صراع قوي وعميق بين أنصار الكلاسيكية وأنصار الشعر الحر المتحرر من قوالبه القديمة والمتحرر من الشكل والقافية والوزن، وقد أثبت تاريخ الآداب بأن الشعر بامتلاكه الحيوية على توليد لغة المعاني فإنه لابأس أن يسمى شعراً رغم رفض الأغلبية من النخبة الأدبية لذلك، لكن الحياة الأدبية والتاريخ الأدبي ساهما بوتيرة سريعة لإرساء نظم وأسلوب الحداثية الشعرية الكردية التي لم تبتعد كثيراً عن الأصول الكلاسيكية للشعر الموزون، فأغلب شعراء الكردية لم يستطيعوا أن يتحرروا أو يبتعدوا عن المدرسة الكلاسيكية، ولا زالت مفرداتهم وصورهم الشعرية مسيطرة على المشهد الشعري، فالشاعرية التي امتلك ناصيتها جكر خوين وتلميذه سيداي تيريج من جهة التعبير والبلاغة واستخدام اللغة، وبها حلقوا في فضاءات الأدب نحو العلو كراية ملونة مزركشة بألف لون وألق، فعبر تيريج في نصوصه الشعرية الطويلة عن محبته وتعاطفه العميق مع الطبيعة ويمضي واصفاً الجغرافية الكردية من عامودا إلى سهول شهروز ودشت سروج وماردين وجياي مازي وآمد وسنندج وقامشلو ومهاباد مروراً بهولير فيكاد يذكر أسماء كل المدن الكردية وأنهار كردستان وجبالها وسهولها وروابيها.
الطبيعة والجمال منبع شعر وأدب سيداي تيريج
“أضاف سيداي تيريج إلى قضايا الشعر الكردي أساليب جديدة، فقد لجأ إلى رواية قصص وحكايات عبر مطولات شعرية وبأسلوب متين وجزيل وإن لم تسعفه البنية الشعرية في سردها”.
كان سيداي تيريج عاشقاً للطبيعة فوصفها وصفاً حسياً، ويمكننا تتبع ذلك الأثر من خلال عناوين دواوينه الشعرية الثلاثة (زوزان /خلات / جودي) هذه الجبال بقممها العالية الشامخة والشاهدة على أفراح وأتراح شعب عظيم عاش بين ظهرانيه، جبال شهدت آمال وخيبات الشعب الكردي منذ أب البشرية الثاني “نوح” الذي رست سفينته على جبل جودي المقدس، ولا ينفك تيريج يركب سفينة الخيال حيناً، ويركب الدروب في رحلات بعيدة إلى كل أصقاع العالم الكردي حيناً آخر، فيزور الجبال والمدن والمراقد المقدسة ويزور أضرحة شعراء الكرد العظام، ويكتسب معرفة عميقة بجغرافية وتاريخ وطنه، أكسبته رحلة البحث والعمل السياسي خبرة حياتية عالية وعميقة تجلت في قصائده بوضوح، واهتم بالجانب الروحي للإنسان وبالجمال، فكان للمرأة وللعشق جانب كبير وهام من قصائده، فالمرأة عنصر حيوي وهام لولادة الحياة، فهام بجمالها ووصفها أجمل توصيف. وعبر عن لوعته وعشقه العميق في أكثر من قصيدة، وهو بذلك يذهب مذهب الشعراء السابقين المتصوفين الممتلئين بالعشق الإلهي والخمرة الإلهية، وبذلك أضاف إلى قضايا الشعر الكردي أساليب جديدة، فقد لجأ إلى رواية قصص وحكايات عبر مطولات شعرية وبأسلوب متين وجزيل، وإن لم تسعفه البنية الشعرية في سردها، لجأ إلى النثر فكتب أغلب الطرائف الكردية التي عاشها أو سمعها، وتعتبر من الكتب التراثية التي حفظت العديد من الطرف والنوادر الكردية، وفي بعض قصائده انطلق نحو مذهب فقي تيران الشاعر الكردي الرومانسي الذي عشق الطبيعة ونطق شعراً على ألسنة الحيوان والطير، فينحو سيداي تيريج منحاه ويقترب من أجواء كتاب كليلة ودمنة، فيكتب قصائد على ألسنة الحيوان والطير ويتحدث إلى الطيور وخاصة رسالته إلى البلبل الحزين حيث يبثه شكواه من القدر الذي آل إليه هو وشعبه والتي تحولت إلى أغاني لا زال أبناء الشغب الكردي يرددونها، فمن المعلوم أن كثيراً من قصائد تيريج قد لحنت وغنتها أجمل الحناجر الغنائية الكردية من محمد شيخو إلى شفان برور ومحمود عزيز ورونيجان وحسين شاكر وزبير صالح وغيرهم، وذلك لما حملته قصائده من جمال تعبيري وموسيقا وإيقاع، ولقربها من الطبيعة والتصاقها بقضايا وآمال الشعب، فعشقه للجمال وللموجودات في الكون والطبيعة والوطن ووصفه الدقيق والرقيق للمرأة الكردية الجميلة، فافتتن بها وعشقها وتغزل بها ذلك الغزل الصوفي العذري العميق، وأحبها حباً عذرياً عميقاً، فنجده يشم الوردة ويداعب حبات الندى على بتلاتها، فالوردة هي عشيقته، وهي المرأة في العديد من قصائده التي غلب عليها الطابع الحسي الصوفي.
إحياء الأدب وحماية الموروث الشعبي
ومما يحمد عليه الشاعر “تيريج” أنه أحيا الأدب الشعبي لدى الكرد وأنقذ كثيراً من الأساطير والحكايات التي أنتجتها أخيلة الرواة على مدى أزمنة طويلة، التي لا تقل متعة عن أساطير “ألف ليلة وليلة”، إذ رسّخ قصة “سيامند وخجي” في /335/ بيتاً شعرياً ورواية “سيبان وبروين” على غرار مم وزين لأمير شعراء الكرد أحمدي خاني بعد أن كانت هذه الملاحم أو القصص تنتقل إلى الأسماع من أفواه المنشدين والرواة.
شعر وأدب تيريج عالم واسع، فهو لم يترك قضية من القضايا ولا شجرة في وطنه أو جبلاً أو قلعة أو طفلاً يعاني أو صرخة امرأة إلا وسجلها في قصائده، ولم يغفل عن الدنيا ولا عن الدين، فتربيته الدينية ومعارفه التي تعلمها في بدايات شبابه أثرت على مسيرته الأدبية، ويمكننا القول إن أدب تيريج أدب موسوعي شامل لكل القضايا من وطن وغزل ووصف ورواية وأمثال وحِكم وتجارب حياة، فقد عاش حياة طويلة وقام بأسفار عديدة، وكتب أعمالاً ستبقى خالدة خلود اللغة، ومنها :
1- خلات – عام 1984م، وأعيدت طباعته عام 1990م في السويد.
2- زوزان – ديوان شعر سنة 1990م.
3- جودي ديوان شعر سنة 1998م وقد طبع في بيروت.
4- طرائف كردية، الجزء الأول – ترجمة الشيخ توفيق الحسيني إلى العربية – دمشق 1996م.
5- المولد الكردي.. قدم له دلاور زنكي. من إصدارات بيروت – لبنان سنة 2006م.
6- طرائف كردية، الجزء الثاني، وقد نُشر بعد وفاته بسنوات – قدم له دلاور زنكي. من إصدارات بيروت – لبنان سنة 2009.
ترك سيداي تيريج تراثاً ضخماً من الشعر والنثر، ليرحل رحلته الأخيرة نحو الأزلية والخلود، فيغمض عينيه في إحدى مساءات الربيع في الثالث والعشرين من شهر آذار الحافل بالمناسبات الكردية، الذي يعد بحق الشهر الكردي، ففي هذا الشهر انتصارات الكرد ومآسيهم أيضاً.. وفي عام 2002 يغادر العالم الأرضي نحو عالمه السماوي، ليودعه الشعب الكردي وأصدقاؤه الوداع الأخير في موكب مهيب من مدينة الحسكة نحو قرية (كر كفتار) حيث وُوريَ الثرى هناك، حسب وصيته. [1]