من دراسة موسعة نشرت في مجلة شرمولا
ظهرت في أعالي الرافدين خلال الألف الثالث قبل الميلاد ثقافتان مختلفتان مميزتان، وهما ثقافة نينوى وثقافة الفخار المعدني, والأخيرة هي أول ثقافة مدنية بشكل خاص في بلاد الرافدين العليا, وظهرت بالتزامن مع بروز بعض المدن المركزية التي كانت تدير مدناً متوسطة وصغيرة وشبكة من القرى والتجمعات السكنية، لعل أهم هذه المراكز هي تل بيدر وتل خويرة اللتان كانتا تتخذان شكلاً أكليلياً أو تاجياً.
الموقع والأهمية
تل بيدر أو ما يعرف تاريخياً باسم نابادا يبعد عن مدينة الحسكة حوالي 35 كم شمالاً، تحديداً في القسم الغربي من مثلث الخابور في أعالي بلاد الرافدين على طول وادي العويج الذي ينبع من سهول قريبة من مدينة ماردين، وهي من الأودية التي عرفت بانتظامها خلال فترات البرونز, ويعتبر من أكبر المراكز المدنية في الجزء الغربي من مثلث الخابور.
يكمن أهميته في موقعه الاستراتيجي وتمركزه على طريق الشرق التجاري القديم، ودوره الرئيس كمحطة استقبال للقوافل والبعثات المسافرة بين الأناضول وسومر من جهة وبين مصر وشمال بلاد الرافدين من جهة أخرى.
يتكون الموقع من تل دائري الشكل أشبه ما يكون بحصن تروي Troy, يغطي مساحة تقدر ب 25 هكتاراً ويرتفع عن السهل المحيط به 28م, إلى جانب المدينة العليا هناك المدينة المنخفضة التي تمتد على مساحة تقدر ب 50 هكتاراً.
التنقيبات
بدأ التنقيب في التل منذ عام 1991 من قبل بعثة التنقيبات الأوربية المشتركة بإدارة الباحث البلجيكي مارك لوبو وضمت أعضاء من جامعتي بروكسل ولوفان البلجيكيتين وجامعة ليل الفرنسية قبل أن تعمل ضمن إطار المركز الأوروبي لدراسات ميزوبوتاميا ECUMS وتضم أعضاء من عدة جامعات أوروبية (بلجيكية- فرنسية- ألمانية- إسبانية- إيطالية- هولندية) ثم تحولت إلى بعثات سورية – أوروبية مشتركة في عام 1994.
توصلت البعثة إلى نتائج مهمة كشفت عن اسم المدينة القديم وعراقتها ودورها التاريخي في مناطق حوض الخابور وشمال بلاد الرافدين.
مراحل الاستيطان
اولاً- فترة أواخر العصر الحجري النحاسي Late chalcolithic Age
مرّ تل بيدر بمراحل مختلفة امتدت منذ الألف الخامس قبل الميلاد وحتى أواخر الفترة الهلنستية، حيث تعود أولى آثار الاستيطان في المدينة إلى منتصف الألف الخامس قبل الميلاد (4500 ق.م) كما أشارت بعض المكتشفات واللقى الأثرية بحسب الأسبار التي أجراها أنطوان سليمان من الجانب السوري على بعد 1 كم جنوب التل.
ثانياً- فترة البرونز القديم Old Bronze Age
تطورت المدينة خلال المراحل السابقة حتى وصلت إلى مراحل متقدمة ابتداءً من بدايات الألف الثالث (2900) قبل الميلاد وهي الفترة التي كانت السلطة السياسية والاقتصادية متمركزة في المدن السومرية مثل كيش وأوما وأور وأوروك في العراق وإيبلا وماري وناغار والخويرة في سوريا.
عرفت المدينة خلال هذه الفترة باسم نابادا Nabatium -Nabada كما تذكر النصوص, واعتبرت أولى دويلات المدن التي ظهرت في شمال سوريا وبلاد الرافدين لما كان يملك من قوة اقتصادية وسياسية لم تقل عن قوة المدن المذكورة أعلاه.
خلال منتصف الألف الثالث قبل الميلاد ازدهرت المدينة ووصلت مساحتها إلى حدود 25 هكتاراً, حيث ظهرت منشآت طينية ضخمة كالقصور والمعابد والأبنية الإدارية إلى جانب ظهور أقدم الكتابات المسمارية والرقم الطينية والأختام التي عكست جانباً من الحياة الاجتماعية والإدارية والدينية للمدينة مؤكداً على دورها الهام في عصر البرونز الباكر أو القديم.
أ- العمارة:
بدت الكتلة المعمارية الرسمية لنابادا مشابهة لتلك التي وجدت في ناغار, على شكل تجمع سكني دائري يحميها سور داخلي بقطر 300م تخترقها ثلاث بوابات بالإضافة إلى وجود سور خارجي بقطر 600م وصلت سماكة جدرانه إلى 5م, وكان يخترق السور أربع بوابات.
هذه الأسوار المزدوجة المبنية من لبنات الآجر الطيني جعلت من نابادا مدينة دفاعية منظمة تحمي قاطنيها والمسافرين إليها وكذلك الفلاحين الذين يلتجؤون إليها من المدن والمناطق المجاورة عند وقوع الاضطرابات. بني قصر نابادا ضمن السور الداخلي وفي منتصف المدينة على مصطبة بلغ ارتفاعها 20م, وعلى ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى من بناء القصر يعود إلى الفترة الواقعة بين 2500 – 2475 ق.م وكان يتألف من 13 غرفة وباحة وقاعة رئيسية ومرافق عامة ومدخل رئيسي على هيئة حجرة صغيرة واقعة في الواجهة الجنوبية، ويطل على الشارع الرئيسي المستقيم المرصوف بالحجارة البازلتية على امتداد المحور الجنوبي الشمالي, وكان ثمة على نفس الامتداد من الجهة الشرقية نقطتان أو برجان للمراقبة.
المرحلة الثانية كانت في الفترة الواقعة بين 2475 – 2450 ق.م, حيث أضيفت إليها سلسلة من الغرف وصلت مجموعها ل26 غرفة وذلك في القسم الشرقي والشمالي الغربي. فيما اقتصرت المرحلة الثالثة الواقعة بين 2450-2415 ق.م على أمور الصيانة وبعض التعديلات التي أجريت على الجدران والأرضيات.
القصر كان له شكل شبه منحرف تقريباً بأبعاد يتراوح بين 32×21م بمساحة قدرت ما بين 50-60م2, مبنية من الطين، وأرضياته مكسوة بطبقة من الجص, حيث يعتقد أن عدد الغرف فيه تجاوز ال 50 غرفة، وكذلك يعتقد أنه كان مكوناً من طابقين اثنين, تمركزت في الطابق السفلي منه سلطات المدينة والزوار فيما خصّص القسم الباقي لتخزين البضائع القيمة, أما الطابق العلوي فقد كان مخصصاً للإدارة حيت ضمت قاعة العرش وبعض الأجنحة الرسمية.
وجدت في نابادا خمسة معابد، منها معبد سمي بالمعبد A يجاور القصر من الجهة الجنوبية الغربية ويعود إلى نفس فترة بناء القصر حيث يعد أحد أكبر معابد المدينة, المعبد مؤلف من 12 غرفة وساحة مفتوحة وممر ودرج يقود للسطح وهو ما يدل على أن المعبد كان يشمل على طابق ثان, بالإضافة إلى وجود غرف للتخزين 19,70 × 9م تابعة للمعابد وواقعة في الجهة الجنوبية حيث يفصل بينه وبين المعبد A شارع، وكانت هذه المخازن تستخدم لحفظ البضائع.
أما المعابد الثلاثة الأخرى والمسماة B-C-D المبنية بمحاذاة بعضها البعض فتتألف من العديد من الغرف من ضمنها غرف لممارسة الشعائر والطقوس الدينية، بالإضافة لحمامات ومراحيض ذات مقعد أشبه ما يكون اليوم بالمراحيض الإفرنجية, وأروقة مرصوفة من اللبن والقرميد المشوي يقود إلى سلالم يصعد من خلالها إلى الأعلى.
كما أنه كان يوجد معبد رئيسي آخر يدعى المعبد E يقع إلى الجنوب من المدخل الرئيسي، وكان يجاوره ساحة مفتوحة مجهزة بمنصة كبيرة يليها باتجاه الجنوب غرفة كبيرة كانت هي الأخرى مجهزة بمنصة وكانت مخصصة للاحتفالات الرسمية، هذا المعبد لم يعد موجوداً الآن بسبب عوامل التعرية. جميع هذه المعابد كانت مزودة بنظام تصريف صحي مزدوج، أحدها عمودي والآخر ذو انحدار خفيف.
إلى الجنوب من المعبد C ومعبد D يوجد بناء مستطيل الشكل بأبعاد 32,25 × 6,25م مؤلف من 14 حجرة مقسمة إلى خمسة قطاعات كانت تشكل مجموعة من المخازن وورش العمل, بالإضافة إلى وجود مخزن للغلال واقع في القسم الشرقي من التل, وهو عبارة عن بناء مستطيل بأبعاد 26×7,50 م مكون من أربع حجرات مربعة متساوية الأبعاد حيث كان يستوعب ما بين 250-300م3 من واردات المحاصيل الزراعية. أما في الجهة الشمالية الغربية فكان يوجد إسطبل مؤلف من حجرات كبيرة مستطيلة الشكل متوزعة حول ساحة مفتوحة يخترقها شارعان صغيران مرصوفان, كذلك وجود مخبز أو فرن بجوار المعبد A كان مؤلفاً من ثلاث غرف، واحدة منها مخصصة لطحن الحبوب.
ظهرت أيضاً في هذه الفترة أبنية سكنية كانت تتخذ بشكل عام الشكل شبه المنحرف بسبب النظام الذي فرضه تخطيط الشوارع والذي كان أقرب للنصف دائري, معظم هذه الأبنية السكنية كانت تتألف من مدخل وغرفة المعيشة وغرفة للاستقبال وأخرى للنوم ومطبخ مع ملحق لخزن المؤونة وحمامات.
ب- جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية:
تشير المكتشفات إلى استقلالية المدينة خلال منتصف الألف الثالث (2500) قبل الميلاد وهي الفترة التي بني فيها القصر والمعبد حيث كانت تتمتع بقوة سياسية واقتصادية.
قدّر عدد سكانها آنذاك ما بين 1300-2900 نسمة وذلك بالاعتماد على كميات الطعام (المواد الغذائية) التي كانت تستورد من المناطق الريفية وأيضاً المحصول المخزّن في المدينة ومساحة الاستيطان في تلك الفترة، حيث يعتقد العلماء أن ربع مساحة تل بيدر كان مسكوناً بشكل مكثف لا سيما في المدينة العليا.
خلال الفترة الواقعة بين 2450-2400 ق.م أصبحت نابادا تابعة أو مرتبطة ب ناغار Nagar (تل براك), حيث يعتقد الباحث فاروق إسماعيل أن ناغار كانت تمثل العاصمة السياسية في حين أن تل بيدر كان بمثابة العاصمة الاقتصادية المرتبطة بها.
اتضح من خلال النصوص المكتشفة أن نابادا كانت بمثابة المركز الإقليمي التابع لناغار وكانت تقتصر وظيفتها على النشاطات الأكثر بساطة مثل الزراعة وتربية المواشي وتوزيع الحبوب على عكس ناغار التي كانت أكثر أهمية بدليل أنها كانت تتصدر قائمة أسماء المدن المختلفة ال 17 الهامة الواردة في نصوص إيبلا, وكيف أنها كانت تتلقى الهدايا الدبلوماسية منها.
إذن قد كانت نابادا واحدة من المدن الأربعة التابعة لمملكة ناغار، وكانت تدير القطاع الزراعي بشكل مباشر وتنظمه إلى جانب تنظيمها للقوة العاملة لأكثر من 12 أو 13 مستوطنة على الأقل, حيث كانت هذه المستوطنات تابعة لها ضمن نطاق ولاية ناغار والتي ربما كانت تصل عدد المستوطنات المرتبطة بها إلى حدود 22 كحد أقصى, بالرغم من الإشارة إلى 9 منهم فقط بشكل واضح خلال النصوص.
يذكر أن هذه المستوطنات كانت تتوزع في المنطقة المحيطة بنابادا والتي قدرت مساحتها ما بين 299- 506 كم2 وعدد سكانها ما بين 6 آلاف و13 ألف نسمة.
المؤسسة المركزية في تل بيدر كانت تملك ما بين سبعة آلاف إلى ثمانية آلاف رأس من الماشية، كانت ترعى في الحقول المحيطة بالمدينة في حين كان يتم نقلها إلى مكان آخر بعد مواسم الحصاد، وكانت تشكل عماد الحياة الاقتصادية في المدينة.
أما فيما يتعلق بالأراضي الزراعية في تل بيدر فكانت تتوزع في قرى كبيرة وصغيرة وعلى حقول واسعة، يزرع فيها القمح ومصادر النشاء والشعير الذي كان يتصدر تلك المزروعات، أما بالنسبة لحراثة الأراضي الزراعية فكانت تتم باستخدام الثيران، الأمر الذي ساهم في تأهيل مساحات أوسع لتكون قابلة للزراعة, وكان يتم الإشراف على هذه العملية من قبل جهاز مركزي يأخذ على عاتقه أيضاً استخدام كافة الوسائل المتاحة لاستثمار أعظمي للمصادر الطبيعية.
كان القسم الأكبر من أعضاء المجتمع يتشاركون العمل الزراعي في الحقول خلال فترة الحصاد، في حين كان هؤلاء أنفسهم يمارسون مهناً أخرى خلال باقي فصول السنة، وكان نظام العمل في نابادا كومينالي شعبي، وهو نظام مشابه لذلك الذي كان موجوداً في مدينة جيرسو السومرية, وكان هذا النظام ينطبق حتى على العاملين ضمن الورشات والمخازن الموجودة داخل المدينة نفسها، والدليل على تطبيق هذا النظام هو العثور على جملة من الأدوات التي كانت تستخدم في الحصاد ضمن غرف مخصصة داخل مستودعات التخزين.
لعبت النساء دوراً بارزاً في المدينة، وكانت الطبقة العاملة على الأرجح تضم ما يقارب الثلث من النساء، فإلى جانب أعمالها في تربية الأطفال وغزل النسيج وأمور أخرى، كانت تعمل مع الرجال جنباً إلى جنب في الزراعة وتربية الحيوان, وكنّ مربيات للحيوانات والطيور، إذ وصفت إحدى النصوص إحداهنّ بمراقبة السعادة وأخرى بحامية البوابة، ونظراً لدورهن هذا ذهب فاروق إسماعيل إلى الاعتقاد بوجود جناح خاص بهن بالقصر مرتبط مباشرة بالحاكم الأعلى في ناغار.
إلى جانب نابادا نجد مدينتين أخريين وهما أنمالوم Anmalum وإشغار Ishgarيديران الأمور المتعلقة بأعمال الزراعيين والحيوانات إلا أن نابادا كانت تتقدم هذين الاسمين في القوائم التي ترد فيها أعلى النسب المتعلقة بذكر أسماء الأشخاص أو الحيوانات.
بالإضافة إلى الزراعة وتربية الحيوانات انتشرت حرف أخرى في نابادا، فكان هناك النساجون والمعماريون والنجارون (أشخاص يعملون بمجال الخشب) والحرف المعدنية والخزافون وحرفيو صناعة الجلود والنساخون والكتَبة وصانعو العربات التي كانت تستخدم لنقل المحاصيل، حيث أن وجود هذه المهنة يدل بحسب الباحثين إلى أن البيئة المحيطة بتل بيدر كانت مثالية لتربية الخيل في فترات سبقت تدجين الخيول.
أما التجارة فكانت مقتصرة على تبادل الحبوب والصوف والجلود مع سلع ضرورية من مناطق أخرى كالعنب والتين لصناعة النبيذ والملح ودهون الخنازير التي كانت لازمة من أجل دباغة الجلود، وكان العمال يتلقون حصصاً من المحصول بشكل شهري من مخازن أو صوامع لقاء أجورهم وذلك بحسب الوظيفة والعمر والجنس.
أما فيما يتعلق بالجهاز المركزي الذي كان يدير وينظم كل هذه الأمور فكان يتألف من خمسة مسؤولين كبار كانوا يمثلون المقاطعة وهم أشخاص محليون منهم كوريليوم Kaurlium كان مرتبطاً مع القصر وآخر اسمه خالتي khalti وكان مسؤولاً عن الحرفيين, بالإضافة إلى كل من أروم Arrum وأرشياخو Arshiachu وتاباليم Tabaalim الذين كان لهم وظائف خاصة بهم أيضاً، لكن بحسب الباحثين لا يمكن تحديد هوية هؤلاء الأشخاص فيما إذا كانوا تابعين لحاكم ناغار أو لسلطة المعبد في نابادا، إلا أنهم كانوا بنفس السوية من حيث الرتبة الوظيفية ومخولين بشكل مباشر للإشراف على توزيع حصص الحبوب والشعير.
أ- اللغة والكتابات:
لم يتم التعرف بعد على هوية هؤلاء السكان الذين قطنوا المدينة خلال فترة تأسيسها وازدهارها إلا أن اللغة المستخدمة كانت اللغة السامية على الأغلب كما تشير النصوص المكتشفة في نابادا دون أن يعني ذلك بالضرورة أن سكانها ساميون.
عثر خلال الفترة الواقعة بين 1993-2002 على نحو 231 رقيم مسماري يعود تاريخها للفترة الواقعة بين 2390 – 2375 ق.م كانت معاصرة للوثائق المبكرة في إيبلا وكذلك معاصرة أو أحدث بقليل من نصوص ماري، من هذه الرقيمات حوالي 140-147 وجدت ضمن أرضيات البيوت السكنية. كما أنه عثر على 16 رقيم آخر أقدم بحوالي 40 سنة من المجموعة الأولى، هذه الرقيمات تعتبر أكبر مجموعة مدونة باللغة السامية مكتشفة حتى الآن في مناطق الخابور، وقد عثر أيضاً على نص أدبي باللغة السومرية يعود تاريخه إلى فترة عصور فجر السلالات الباكرة.
هذه النصوص مدونة بأحرف سومرية ولهجة أكادية قديمة تعود إلى ما قبل سارغون مؤسس الدولة الأكادية في جنوب الرافدين, كانت اللهجة السامية مختفية تماماً خلف اللوغوغرامات أو الرموز السومرية بسبب كثافة استعمال تلك اللوغوغرامات خلال التدوين.
بحسب أسماء الأشخاص الواردة في تلك النصوص والذين يحملون معانيَ سامية فإن عددهم يقدر ب 350 شخصاً, إلا أن القسم الآخر من الأسماء والذي يقدر بالثلث لم يظهر أي معاني سامية أو حتى سومرية.
الرقيمات المكتشفة منها ما هو صغير بقطر /4-5 سم/ ولها شكل شبه دائري وأخرى أكبر حجماً يصل طولها إلى حدود 12 سم يتخذ شكلاً مربعاً بحواف دائرية.
الرقيم الواحد يقسم إلى أعمدة، وكل عمود إلى عدة خانات, يتناول مواضيع عدة معظمها إدارية، يتحدث عن تدوين حصص وأموال معطاة لأشخاص مرتبطين بالمؤسسة كالعمال وكذلك أعداد الأغنام المسلَّمة للرعيان والثيران والحمير المستخدمة كحيوانات جر في الأعمال الزراعية, بالإضافة إلى مواضيع أخرى تتمحور حول العمل المخصص لسكان المدينة كتدوين السلع أو قوائم بأسماء الأشخاص أو توزيع حصص الحبوب والمواشي، وأيضاً المواضيع المتعلقة بالصرفيات والنفقات الشهرية مثل المصاريف المتعلقة بكميات الشعير التي كانت تقدم لبعض الأشخاص، أو مصاريف العلف التي كانت تقدم للحمير بالأخص حمير المسافرين الذين كانوا يقصدون المدينة، وكذلك حسابات خاصة بجز الصوف وتوزيع الثيران.
كذلك تتحدث بعض النصوص عن العناية التي كان يتلقاها المسافرون عند زيارتهم للمدينة, وعن التدوين الدقيق لحجم وجبات الطعام التي كانت تقدم للإنسان ونوعية الوجبات، كتلك التي قدمت إلى امرأة وهي بابا Pa-ba حيث يتوقع أنها زوجة ملك ماري إيبلول إيل, بالإضافة إلى نوعية الرعاية للحمير وتقديم كميات كبيرة من الشعير لتلك الحيوانات.
كذلك تتحدث النصوص عن زيارة ملك ناغار ل نابادا في بعض المناسبات المتعلقة باجتماعات المجالس والطقوس الدينية التي تمت من خلالها تقديم الأضاحي للإله شاماغان Shamagan (سيد الحيوانات) أحد الآلهة الرئيسية الذين كانوا يعبدون في نابادا والذي خصص له أحد المعابد لعبادته كما يعتقد مارك لوبو إلى جانب عبادة شمش (إلهة العدالة) وإشخارا (إلهة العهود والنذور), كذلك كان إله ناغار ينتقل إلى نابادا ليتمم فيها الأضحيات المقدمة على شرفه.
خلال الفترة الواقعة بين 2350-2250 ق.م تقلص حجم الاستيطان في المدينة لأسباب قد تكون متعلقة بالطبيعة كالمناخ والزلازل أو الاستغلال المفرط للمصادر الحيوية بسبب الزيادة الكبيرة في عدد السكان كما يقول هارتموت كونه Hartmut Khune, أو أن الطريق التجاري قد تحول إلى منطقة أخرى مما قلل من أهمية نابادا.
خضعت المدينة خلال تلك الفترة للسيطرة الأكادية وعانت خلال فترة حكمهم من انعدام الاستقرار وغياب الأمن وانتشار الفوضى مما جعل من المدينة عرضة لعمليات النهب والسلب حيث تقلص حجم المدينة أكثر ليصل إلى حدود 1 هكتار فقط وهجر القصر والمعابد باستثناء المعبد D الذي تحول إلى مسكن لحاكم عسكري أكادي كان يدير تلك المنطقة.
– فترة البرونز الوسيط والحديث:
مع بداية الألف الثاني بدأ النفوذ الحوري بالتمدد في مناطق حوض الخابور واستطاع خلال القرن السابع عشر والسادس عشر احتواء كل المنطقة، فكانت نابادا من بين تلك المدن.
ازدهرت نابادا خلال منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وعمل الحوريون على إعادة إعمارها حتى وصلت مساحتها إلى حدود 50 هكتاراً, تركز تواجدهم بجانب القصر المهجور وخارج المدينة المنخفضة باتجاه الغرب. عثر على العديد من الأبنية السكنية ذات الجدران السميكة (80 سم) وأسقف مستوية بالإضافة إلى العثور على أواني فخارية منها مزهرية احتفالية مزينة برؤوس الحمل إلى جانب العثور على مجموعة من المنحوتات العاجية التي تصور رسوماً حيوانية (أُسُود وثيران) كانت تستخدم لمواضيع الزينة.
– فترة الألف الأول ق.م:
في الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد انهارت الإمبراطورية الحورية – الميتانية، وقدمت قبائل آرامية من مناطق شبه الجزيرة العربية واستوطنت في البادية السورية ثم توزعت في عموم سوريا خلال الألف الأول قبل الميلاد مشكلة العديد من الإمارات أو المشيخات في نفس الفترة التي تعاظمت فيها القوة الآشورية التي سيطرت على مناطق ومدن شمال سوريا.
كانت نابادا من جملة المدن التي وقعت تحت السيطرة الآشورية، تحديداً عام 900 قبل الميلاد. استوطن الآشوريون في المدينة لفترة قصيرة كما دلت المكتشفات الأثرية، حيث عملوا خلال فترة تواجدهم على بناء منشأة في المناطق العليا من المدينة المنخفضة أي في مناطق التواجد الحوري سابقاً وإلى الأعلى منها. سقطت الإمبراطورية الآشورية 612 قبل الميلاد واختفت نابادا.
هُجرت المدينة بعد سقوط الدولة الآشورية لفترة من الزمن حتى عاد الاستيطان إليها مجدداً خلال الفترة الواقعة بين 150-50 ق.م على يد شعوب غريبة قادمة من ما وراء البحار عرفوا بالإغريقيين، أصبحت نابادا جزءاً من الإمبراطورية الإغريقية السلوقية، فكانت قرية كبيرة، تميزت ببيوتها الطينية ذي الحجرة الواحدة وبقصرها المميز الذي غلب عليه الطابع الاقتصادي.
الموقع الأثري والبلدة في ظل الأزمة السورية:
مع نهاية القرن الثاني ق.م الميلاد انقطع الاستيطان تماماً في تل بيدر قبل أن يعود إليها في مراحل لاحقة حديثة، وكانت في بادئ الأمر قرية صغيرة معظم بيوتها من الطين قبل أن تتحول في منتصف التسعينيات إلى بلدة، حيث توسعت معمارياً فبنيت فيها مدارس ابتدائية وإعدادية وثانوية ومستوصف وصومعة للحبوب ووحدة إرشادية وسوق صغيرة. يوجد فيها حاليا حوالي 200 منزل ويقطنها ما بين 1500 و3000 شخص معظمهم من العرب مع وجود قسم من الكرد (حوالي 15عائلة كردية) يعمل غالبيتهم في الزراعة وتربية الحيوان.
ما زال موقع تل بيدر التاريخي بحالة جيدة لم يتعرض لأية تعديات مقارنة مع مواقع أثرية أخرى في سوريا إلا أن الكتلة المعمارية فيها كانت قد وصلت إلى حالة مزرية بسبب طبيعتها الطينية التي كانت عرضة للعوامل الجوية طوال سنوات الأزمة وفي ظل غياب البعثة العاملة, إلا أن هيئة السياحة وحماية الآثار حملت على عاتقها ترميم الموقع خلال أعوام 2016 و2017 و2018 من خلال آثاريين ومهندسين وعبر فريق من الكوادر المحلية التي كانت تعمل مع البعثة سابقاً بهذا المجال, حيث أن الترميمات شملت كلاً من المعبد A-B-C-D والمخازن والشارع المستقيم وجزءاً من القصر الرئيسي وجزءاً من القصر الهلنستي بالإضافة إلى محاريب المعابد A, B, C, D وكانت عمليات الترميم قد اقتصرت على تنظيف الأرضيات ورفع الجدران المهدمة وفك وتركيب البعض الآخر وإزالة اللياسة القديمة وإعادة تنفيذها من جديد بالطين والجص.
من ناحية أخرى كان يوجد في الموقع بيت للبعثة مكون من 70 غرفة مع ساحات مبنية من الطين وفق طراز شرقي كانت تحوي محتويات البعثة العاملة من لقى أثرية تستدعي عمليات التوثيق والأرشفة بالإضافة إلى عدة التنقيب وأجهزة ومستلزمات تعرضت معظمها للسرقة وكذلك تعرض بيت البعثة للتخريبات.
إن مناطق حوض الخابور العلوي وبالتحديد مثلثها اعتبرت إحدى أخصب المناطق في الشرق القديم, فقد ساهمت الكميات العالية لهطول الأمطار فيها على تطوير الزراعة بشقيها المروي والبعلي على مر التاريخ القديم، الأمر الذي ساهم بدوره أيضاً في إيجاد ثقافات اجتماعية مستقلة كانت نابادا تمثل إحدى هذه الثقافات لا سيما خلال فترات البرونز القديم.
فعلى الرغم من اكتشاف العديد من المنشآت المعمارية والرقيمات واللقى الأثرية المنوعة المتمثلة بالتماثيل المصنوعة من الطين للنساء والحيوانات وكذلك الأختام الأسطوانية وطبعاتها التي وجدت على الأبواب والجرار التي كانت تحمل مشاهد تصور الاحتفالات الدينية والنشاطات الاقتصادية وحركة المرور على الطرق التجارية والحروب بالإضافة لجرار فخارية وأدوات صوانية وكذلك جنائزية والحلي وغيرها.
إلا أن موقعاً بحجم تل بيدر التي بدأت التنقيبات فيه منذ بداية التسعينات وتوقفت في عام 2011 مع بداية الأزمة في سوريا، بحاجة إلى عشرات السنين من البحث والعمل المتواصل للكشف عن الكثير من خفايا تاريخه.
من دراسة موسعة نشرت في مجلة شرمولا.[1]