عبد الوهاب بيراني
“بعينيها المدهوشتين تقيس المسافة العارية للبراري الضالة..”
نص يمتلك بوابات البوح عبر مدى يمتد فسيحاً وعميقاً نحو وطن جميل مثخن بالجراح، تنعكس الحالة الشعرية التي تولدها الشاعرة الكردية روشن علي جان على تعابيرها المتولدة من حالات اغتراب تعيشها في غربة حقيقية أيضاً. تراجيديا الشعر تبدأ من كشفها أو خلقها للصور الشعرية، فعيناها تمتلكان كل الدهشة وهي تقيس المسافات العارية حيث لا جغرافية تحدها ولا تاريخ يلبسها، فقط ترتدي ظلال البراري التي ضلت دروبها في عمق تاريخ لم يجد من يدثره أو يداوي جرحه الأزلي:
“امرأة موسومة بحناء اللون الأعزل
في أعماقها ترتجف طرائد الخوف“
إنها المرأة التي حنت قدميها بصلصال تراب وطنها، اعتزلت ألوان الدهشة، خائفة تمارس هروبها الأخير مثل طريدة تطلب الحياة من بين فكي وحش من ضواري البرية التي تستلقي تحت شمس الله، قلبها يتحول من زرقة السماء إلى كوة كان لها أن تضيء عتمة دواخلها الأنيقة.
“وفي صدرها يختال البنفسج الضرير
تفترش قصب الأنهار الخالدة”
بكل نرجسية الأنثى، وبكل اعتدادها بإنسانيتها وجمالها وبكل خيلائها تعلن قلبها بنفسجاً ضريراً، أعمى، يقتفي أثر العشق، تنقاد له، و يقودها إليه أيضاً، البعد والحنين، والارتماء هناك في تلك البرية المالحة، الكالحة، ثمة نهر عذب ماؤه.
“ترمي بشالها الكردي الملتهب بالقزح
فوق زهور عباد الشمس الفاجرة
تبعثر النسيم الفضفاض بيديها الرهيفتين”
ترمي شالها المقصب بنور الشمس والمزركش بألوان الكردي المثيرة للضوء، بألوان قوس قزح بهي، ترميه على حقل شهي من عباد شمس مارس خطيئة العشق، يقتفي الضوء، تاركاً القلب بنفسجة ضريرة، تمد أصابعها الرشيقة نحو فضاءات الحرية تنبت للحقل ريشاً وأجنحة تبعثرهم كنسيم فضفاض، يتسع للكل، للجميع في متاهة الدهشة اللامتناهية كالضوء، كتجدد ماء النهر النقي في رحلة العطش والحنين.
“يحلق الطائر الخرافي
قريباً من رحيق ضفيرتيها
يسرد لها وجع الزهور البرية:
هو الغياب..
ضلالة الأشجار المكابدة
الأشجار العارية
مثل عاشقين
راجفين كرجفة التين
حين القبلات”
فيحلق طائرها الخرافي، طائر النبوءات المحمول بألف أسطورة، نحو تخوم جسد امرأة تربط ضفيرتها المعطرة بزهور البرية، تستعد لإعلان مكان نقي، حقل من فراشات تمنح مدى للرواية، فيسرد العطر حكاية أنوثة المكان، وتمنحه حكايات عن وجع الغياب والحنين والعشق، ترسم غابة شعرية عارية أشجارها تتعانق أغصانها كعاشقين كابدا طويلاً رحلة تاريخ دامٍ لأرض منهوبة تحت قدميهما، كلما حانت لحظة الوصال بقبلة ترتجف الأغصان وتعلن البراعم عن تفتقها، ويسري السكر حلاوة، ونبيذاً في ثمارها، ترتجف الأمكنة وقلوبهما مثل سر لذة الغواية الغافي في التين.
“بصوت مبحوح
تدندن أغاني الحنين
قديماً كان الحريق في قلبي
أنا المدنفة
المشدودة
بسطوة الوعول البرية
وعول تفر من صخب الكمنجات
وهي تبكي لحزن الغريب“
تلك الشجرة الأسطورية الجبلية رغم كل عطشها ورغم قساوة الصخر، تخرج من بين أفيائها ثمراً حلواً، الشجرة التي ورد ذكرها بالنصوص المقدسة والقرآن، والحكايا والملاحم الكردية، حيث البيئة الكردية من أشجار اللوز والتين، حيث الوعول والأيائل التي تجوب البرية، وتصعد الجبال نحو أمكنة أكثر نقاء، وأكثر علواً، نحو مذبح العشق الذي لازال دم “خجي وسيامند” يصرخ في وهدات جبال كردستان ويوقد الحريق والدمع يستند على غابة أشجار حزنها، ويمضي الحريق فيشعل قلبها، وهي المدنفة، المشدودة بحبال الوقت إلى عربة تجرها وعول جبلية نحو فضاء صاخب الخطوات، تعزف كونشرتو باذخ لممالك الأرض، والوعول تمارس إيقاع الإيغال في البعد، تساندها كمنجات سماوية ضمن سيمفونية تعزف لحن الخلود عويلاً، وهي تشرئب ببصرها نحو حقل من بنفسج ضرير، هذه الصورة ربما تحتاج بعض الثلج وعربة تجرها أيائل نحو الأبدية.. نحو زمن جميل، تمتد ما بين زمنين تقيس المسافة ما بين كتفين، حقلين من بنفسج ضرير تبلل بتلاته، تعدهما للغريب مسافات إلى البراري الضالة..[1]