نزهان محمد
الثقافة الشعبية نتاجُ عمل الأمم وخلاصة تجاربها، ومستودع أحوالها فالأمثال والحكم، والأقوال المتداولة على ألسنة العامة تعكس روح الشعوب وثقافتها التي ينتجها أبناؤها حيث تعتبر أحد أهم عناصر الأصالة، فهي مَعين لا ينضب وكنز لغوي ذو قيمة حضاريّة تتصل بجذور الجماهير وتبين مدى الثراء الثقافيّ لها.
هذا اللون الأدبيّ الدارج على أفواه الناس يمثل جزءاً من المنظومة المعرفية للشعوب الحية، فالموروث الشعبي للأسلاف من الحكم والاقوال المأثورة يختزن ويختزل الحياة الروحية، والثقافية للأمم، ويوضح بجلاء هوية الشعوب ومستوى تفكيرها ومن الشعوب التي يشكل المثل عندها زادها اليومي، شعوب شمال سورية، والأمثال الكردية والعربية هي من بين الفنون الراقية التي تتميز بها هذه الشعوب، وهذا النمط الأدبي له فاعلية مؤثرة في تصحيح مسار وسلوك الناس لقربه إلى النفس ولإيجازه وسلاسة نطقه، وما يتضمن في معانيه من تعبيرٍ عن الحياة العامة بأسلوبٍ فكاهيٍّ ساخرٍ فكل مثل من الأمثال سواء أكانت قديمة مسجلة باللغة الفصحى أم عامية متداولة في اللهجات المحلية تجري في نسغ الحياة الراهنة كأنها الخبز أو القوت اليومي أو التوابل على موائد الطعام.
لكل مثل قصة وحكاية
الكرد والعرب كغيرهم من الشعوب كانت وراء الأمثال عندهم أسبابٌ معينة أو حوادث متعاقبة، وليس في كلامهم أوجز من المثل أو أشد اختصاراً منه حتى صار لضرب الأمثال عندهم شأن هام في إبراز المعاني، وغدت قاموساً يكشف أحوال الناس الفكرية والاقتصادية والاجتماعيّة والسياسيّة وتختصر بكلمات قليلة قصصاً طويلة تشمل ميادين الحياة كافة حيث يُقال المثل تعليقاً على موقف في مناسبة معينة، فيستحسنه الناس ويرددونه بعد ذلك في مواقف مشابهة كقولهم : «طاحونة الجهلاء تدور من تلقاء نفسها»، فهذا المثل الكردي الساخر يشير إلى من يسير عمله بيسر وليس عن فهم ودراية وإنما يحالفه الحظ، ومن الأمثال الكردية الشائعة «تطول اللحية وتصبح شبراً والعدو لا يصبح صديقاً»، ويقال «الخط الأعوج من الثور الكبير» حيث يشير هذا المثل إلى فساد كبير القوم، ومن الأمثال العربيّة التي ذاع صيتها بين الناس وتشير إلى الحكمة والموعظة قولهم : «من تأنى نال ما تمنّى، وعاش طول عمره مهنّا» ومن الأقوال الدارجة المرتبطة بقصة ومناسبة معينة قول العرب: «رجعت حليمة لعادتها القديمة» فيُقال بأنّ حليمة هي زوجة أحد الشخصيات التي اشتهرت بالكرم كما اشتهرت هي بالبخل وكانت حليمة إذا أرادت أن تضع سمناً في الطبخ، وأخذت الملعقة ترتجف يدها، فأراد زوجها أن يعلمها الكرم، فقال لها: إنّ الأقدمين كانوا يقولون إنّ المرأة كلما وضعت ملعقة من السمن في طنجرة الطبخ زاد الله بعمرها يوماً، فأخذت حليمة تزيد من ملاعق السمن في الطبخ حتى صار طعامها طيباً وتعوّدت يدُها على السخاء، وشاء الله أن يُفجعها بابنها الوحيد الذي كانت تحبه أكثر من نفسها، فجزعت حتى تمنّتِ الموتَ وأخذت لذلك تقلّل من وضع السمن في الطبخ؛ حتى ينقص عمرها وتموت، فقال الناس: رجعت حليمة لعادتها القديمة. وهكذا فإن للأمثال الشعبيّة قيمة أدبيّة كبيرة وهي تعبيرٌ عن نتاج تجربة الأمم، وتجسيدٌ لثقافات الشعوب وقيمها المثلى وهي بمثابة ومضات مشرقة وعذبة في حياة الشعوب الخالدة وعلامة من علامات تميُّزها ونبع من ينابيع كرامتها.[1]