عبد الرحمن محمد
يعود أصل الأيوبيّين إلى قبيلة كرديّة من “الرواديّة”، وهم فخذٌ من البطون “الهذبانيّة”, وهي قبيلة كبيرة من الكرد، ومن أشرافهم ولم يستعبدوا من قبل أحد تاريخيّاً, كانوا يستوطنون قرية جميع سكانها من الكُرد تعرف باسم ”أنقان” على الضفة اليسرى لنهر «جارني» في أذربيجان بالقرب من مدينة تفليس.عُرف الأيوبيّون بالحنكة والدهاء السياسيّ، وكان جد البطل صلاح الدين «شادي» رجلاً واسعَ العلم والمعرفة، عظيم الحكمة عارفاً بالأقوام وتاريخ الشعوب، وانتقل برفقة ولديه، أيوب وأسد الدين شيركوه إلى بغداد في عشرينيات القرن الثاني عشر, وفي جعبتهم أفكارُ كيان كامل في نظامه وشؤونه سلوكه السياسيّ, وذلك بناءً على دعوة «بهروز الروميّ» صديق شادي الذي فوّضه ليكون مسؤولاً عن قلعة تكريت على نهر دجلة.
فتوحات الشام… أول الغيث
كان صراع بين الخليفة العباسيّ المسترشد بالله, وعماد الدين الزنكيّ – أتابك موصل – قد ظهر عام 1131م، وخسر فيها جيش الزنكيّ ولجأ إلى تكريت ولقي التقدير والحفاوة، بعد مشاكل بين الخليفة والأيوبيّين انخرط أيوب وشيركوه في سلك جند عماد الدين الزنكيّ بعد مغادرتهم تكريت سنة1138م. وشاركاه في جميع حروبه وفي شؤون أتابكيته الأمر الذي دفع بالزنكيّ إلى إقطاعهم إقطاعات وافرة.ساهم آل أيوب في فتح بعلبك بعد حصار دام قرابة شهرين, ما جعل الزنكيّ يقوم بتعيين نجم الدين أيوب حاكماً عليها, أما شيركوه فقد التحق بخدمة نور الدين بعد وفاة والده عماد الدين أثناء حصاره لقلعة جعبر. وتوجّه نور الدين زنكي بعد وفاة والده باتجاه حلب وأخذها عملاً بنصيحة أسد الدين شيركوه، كما استرجع الرها مرّةً أخرى من الصليبيين.بعدها وجّه نور الدين أنظاره نحو الشام الخاضعة للنفوذ البوريّ، بينما ساهم شيركوه مع نور الدين في السيطرة على الحاضرة الشاميّة، وكان له الدور البارز في ذلك، وعُرف بعلو شأنه وشهامته وشجاعته وإقدامه في الحرب، وكانت الرحبة وحمص من مخصصاته عرفاناً بمعروفة وشجاعته. استطاع نجم الدين أيوب بدهائه خلال الحملة الصليبيّة الثانية في عام 1148م منع الفرنجة من التقدّم والاستيلاء على دمشق, وتسلّم مناطق اقطاعه هناك، وكان الفضل لشيركوه في ضمِّ دمشق إلى سيطرة نورالدين عام 1154م. بعد أن أصبحت دمشق في عهدة الدولة الزنكيّة، عيّن نور الدين نجم الدين أيوب والياً على دمشق، وشيركوه حاكماً على حمص ونائباً عنه في دمشق, وصلاح الدين يوسف بن أيوب على الديوان، ومن ثم رئيساً للشرطة في دمشق, ثم أوصى بعد ذلك أن تُسند ولاية دمشق لشيركوه خلال فترة مرضه.
شيركوه… ومعاركه في مصر
ساهم شيركوه أيضاً في قيادة القوات الزنكيّة للاستيلاء على مصر، وضمّها لبلاد الشام، بعد وضعه حداً للأطماع الصليبيّة الساعية حينها إلى السيطرة عليها. وكانت مصر في ظلّ الدولة الفاطميّة تعيش حالة من التخبّط وعدم الاستقرار، وفي عام 1160م تمّ اغتيال الوزير طلائع بن رزيك، قصد شاور الشام، حيث كان نور الدين طالباً العون والمساعدة من أجل استرداد الوزارة.قبل نور الدين مساعدته، وطلب من شيركوه حاكم حمص استرجاع شاور للحكم، في عام 1164م. سار شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر, استطاع في بادئ الأمر التغلّب على الجيش المصريّ في بلبيس، بالرغم من قلة عددهم وعتادهم.انتقل شيركوه بعدها إلى القاهرة، حيث تمكّن من قتل ضرغام وهزيمة جيشه، بعد أن تخلّى عنه أنصاره, وبموته استولى شاور على الوزارة وتصالح مع الخليفة العاضد, وعندما شعر شاور بالقوة امتنع عن دفع تكاليف الحملة، ونقض العهد مع شيركوه بعد أن لمّح بدفع ثلاثين ألف دينار فقط, طالباً منه العودة إلى الشام، الأمر الذي أغضب شيركوه فرفض العرض, وعندما التمس شاور إصرار شيركوه على المطالبة بكامل حقّه، وتنفيذ بنود الاتفاق بحذافيره، لجأ إلى الملك «أمالريك» الإفرنجيّ صاحب القدس للتدخّل ضدّ شيركوه وجيشه, فما كان من الإفرنجة إلا الاستجابة، وتمَّ على إثره حصار شيركوه في بلبيس, لمدّة ثلاثة أشهر وهناك من يقول ثمانية أشهر، وهو يعاديهم القتال ويراوحهم، حيث لم يظفروا منه بطائل، بالرغم من هشاشة سور بلبيس المبني من الطين، وغير المرتفع، وعدم وجود خندق أو فصيل يحميه, ولكنهم عادوا فمنحوه حرية الانسحاب إلى دمشق، بعد أن طالبوه بالصلح بمقابل أن يلحقوا بانياس, حيث كانت محمياتهم في الشمال، وتحديداً قلعة حارم, الواقعة بين أنطاكيا وحلب, وبانياس بالقرب من حمص تتعرض للضغوطات من قبل جيش نور الدين والتي وردت أنباء عن سقوطهما بيد نور الدين.
عاد شيركوه على رأس جيش مجهّز بالعتاد والعدّة, مرّة أخرى إلى مصر، عقب ثلاث سنوات بعد أن كان قد تعرّف على أوضاع مصر، وطبيعة أهلها، ورأى ضرورة السيطرة عليها وامتلاكها، خشية وقوعها بيد الفرنجة، كما هي حال القدس ومناطق أخرى من سواحل الشام.توجّه شيركوه بجيشه باتجاه الجنوب، إلا أنّ أمالريك ترك فرقة من الفرنجة في القاهرة، وانطلق لملاحقة شيركوه, حيث التقى الجيشان عند موضع يعرف ب «البابين» في آذار 1167م. وجعل ابن اخيه صلاح الدين في القلب, وكانت التكتيكات ناجحة و كافية للانتصار. وكان هذا من أعجب ما يؤرّخ بحسب ابن الأثير «إنّ ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل».
بعد البابين اتجه شيركوه إلى الإسكندرية، فدخلها باتفاق مع أهلها، وأبقى صلاح الدين فيها, إلا أنّ الفرنجة وشاور عادوا لمحاصرتها قرابة أربعة شهور، وفُكّ الحصار بعد نجدة أسد الدين لصلاح الدين، وكانت المعاهدة بين الفرنجة والمصريين وصلاح الدين وذلك بعودة صلاح الدين للشام وعودة الفرنجة عنه وعودة الأهالي بعد دفع خمسين ألف دينار لجيش المسلمين.
انقض الصليبيين الاتفاق وخرقوا بنوده فكانت حملة شيركوه مرة أخرى على مصر، وانطلق شيركوه برفقة ثمانية آلاف مقاتل مدجّجين بالسلاح والدواب والثياب, ومعه كذلك مجموعة من الأمراء، من بينهم صلاح الدين الذي أصرّ شيركوه على مرافقته له.وصل شيركوه إلى القاهرة ودخلها بعد خروج الفرنجة، واجتمع بالعاضد لدين الله, وخلع عليه, وعاد إلى مخيّمه. حاول شاور النيل من شيركوه عن طريق المكائد وفشل، وانتهى الأمر بالنهاية بالقبض على شاور من قبل «جرديك وبرغش»، مع العلم أنّ شيركوه كان قد نهى جماعته عن التعرّض لشاور وقتله، وأرسل عيسى الهكاري لتحذير شاور من القدوم إلى المعسكر الشاميّ, وكان خارج المعسكر عندما قتل شاور بأوامر من العاضد.بعدها خَلع العاضد على أسد الدين خِلعَ الوزارة، فلبسها وسار ودخل القصر وفُوّضت إليه الوزارة والتقدّم على الجيش، حيث لقب ب «الملك المنصور» أمير الجيوش، وذلك عبر منشور رسميّ.عندما انتظمت الأمور لأسد الدين بالديار المصريّة، وقضائه على الاضطرابات والفوضى, أقطع البلاد للعساكر التي رافقته في حملاته ولبعض قادته ومنهم صلاح الدين, وولّى الأعمال إلى من يثق بهم وعيّن كاتباً للقصر, وفوّض ابن أخيه زمام الأمر والنهي لكفايته ودرايته وحسن تأنيه وسياسته حتى بات مباشراً للأمور ومقرّراً لها.في ظلّ كلّ التطوّرات التي حصلت في الشرق، وفي مرحلة تعدّ من أهمّ مراحل تاريخ الحروب الصليبيّة، برزت شخصية شيركوه ودور الأيوبيّين، الذين ساهموا في صنع أحداث التاريخ الإسلاميّ على مدار أكثر من ثلاثة أرباع قرن.
عن دراسة في مركز الفرات للدراسات، بعنوان «اسد الدين شيركو…الخصال والمعارك. الكاتب: رستم عبدو.[1]