منان خلباش [1]
حامد بدرخان، اسم يتربع على امتداد جغرافية النضال والثقافة والأدب والشعر والسجون، طيلة عقود طويلة لم يعرفه الكثيرين؛ حق المعرفة، ولم يعرفه عن قرب سوى من التقى به، وتحدث معه وسمعه متحدثاً بصوته الريفي وقرأ أشعاره وكتاباته ومجموعاته الشعرية التي بلغت نحو ثلاثين مجموعة شعرية سواء “باللغة التركية أو بالعربية أو بالكردية”.
ومن عرف الشاعر حامد بدرخان، عن قرب في حياته، استطاع أن يدرك من خلال ملامحه الجبلية، بحاجبيه ورموشه الكثة والمتداخلة وبنظراته نحو البعيد والتي تحتويه الثقة والكبرياء والقوة والعناد، وبقامته المتوسطة التي توحي بالحيوية والنشاط والرشاقة المستمدة من هواء وأنسام، جبال هاوار والآمانوس المحيطة بقريته الجبلية والتي تدعى “شيية” في أقصى أطراف جبل الأكراد الغربية، حيث الجبال الخضراء، المكسوة بالزيتون والكروم والسنديان على امتداد الأنظار .
لعل الأحداث التي عصفت بأسرة الشاعر، حامد بدرخان 1924-1996، وهو لم يزل طفلاً”، لم يتجاوز ربيعه الرابع عشر. والتي تتمثل بمقتل جده غدراً على يد أحد رجال الآغوات وفرار وهروب الأسرة بعد مطاردة الآغوات لهم.
كان لم يبقَ لهم سوى التوجه نحو “قرة خان” التابعة لإسكندرون حيث المصير الذي لاقته الأسرة هناك في ظروف اقتصادية وسياسية بالغة التعقيد والحساسية، والتي كانت تتصف بمحاولات حثيثة بضم إسكندرون وأطراف من عفرين وسواها إلى الكيان التركي بعد رسم الحدود بين سوريا وتركيا بحسب اتفاقية سايكس- بيكو والميثاق التركي.
إرادة التحدي….تصنع المميزين والعباقرة
الأحداث والتجاذبات المختلفة والمصير المجهول لأسرة حامد بدرخان جعلته مُصراً أن يتقدم في دراسته وأن ينال الثانوية من مدارس أنطاكية، ويقرأ الكتب والشعر بتشجيع من والده حسن خضر، وليلتحق بقسم الآداب في جامعة إسطنبول وليلتقي بناظم حكمت وعابدين دينو. وسواهم من المثقفين اليساريين والشيوعيين والذين كانوا ينشطون آنذاك في تركيا والتي كانت واقعة تحت تأثير أعمال الدعاية والسياسة السوفيتية القريبة والقوية بعد الانتصار على ألمانيا النازية.
وهناك عمل حامد بدرخان في جريدة GüNAYDIN التركية وكتب أشعاراً بالتركية باسم حميد آراغون بعد أن تأثر بأشعار آراغون الفرنسي.
وبعد الضغوط وتقلب رياح السياسة التركية نحو الغرب، اعتُقل حامد بدرخان في أنقرة وحُكم عليه بالإعدام كسائر المثقفين اليساريين والأكراد آنذاك، ولكنه تمكن من الفرار بمساعدة بعض أصدقائه عام 1947. وعبر بلدة راجو وصل إلى عفرين وحلب ومن ثم إلى دمشق لينتسب إلى الحزب الشيوعي السوري ولكن بعد عام فقط من ذلك أعلن عن استقالته من الحزب الشيوعي السوري، ليتفرغ للكتابة والشعر.
اتصل بدرخان بالمثقفين الكرد آنذاك من أمثال الأمير جلادت بدرخان وقدري جان وأوصمان صبري ونور الدين ظاظا وجكر خوين وتيريج وسواهم من اللذين كانوا ينشطون آنذاك في دمشق بعد تأسيس حزب “خويبون” وإصدار مجلة “هاوار” و”روناهي” . وكان حفظ وسرد حامد بدرخان للأحداث التي مرت عليه، ما جعل جلادت بدرخان يسميه حامد بدرخان بدلاً من حميد آراغون.
ثقافة واسعة ولغات متعددة
تعلم حامد بدرخان العربية منذ أواخر الخمسينات، على يد الأستاذ عبدالمجيد رشيد ووقوفه إلى جانبه، وتابع حبه وشغفه باللغات طيلة حياته، مما جعله يكتب باللغة العربية نحو أحد عشر مجموعة شعرية. ولكن لم تكن بمستوى كتاباته بالتركية والكردية والفرنسية والتي نال تزكية من الشاعر آراغون عندما كان متواجداً في فرنسا والتي لم تدم طويلاً، وكان الأديب عبد الكريم الناعم كتب عنه قائلاً: “كان لحامد بدرخان مركزاً أدبياً معروفاً، بناه خلال فترة ليست بالقصيرة، ويكفي فخراً أن ينال تزكية من الشاعر الفرنسي آراغون”.
وكان في عام 1977، أما الشاعر رياض صالح الحسين فقال عنه في مقابلة أجراها معه عام 1977م:” أحياناً تعتقد بأنه ثمل، وأخرى ينتابك الشك في ذلك، يبكي كالأطفال ويضحك بصخب كالأمواج الهائمة، قصائده مبعثرة، أوقاته مبعثرة، جسده مبعثر”.
وعندما كانت قصائده تنشر في الصحافة المحلية واحدة تلو الأخرى، سأله ذات مرة الأديب حسان عزت، متى نقرأ قصائدك في مجموعة؟ أجاب، عندما يصبح الناس بحاجة لقصائدي ! وكتب في أحد قصائده :
“أرحل بعيداً في متاهات فكري
نشواناً من السُكرِ
أتمايل يميناً وشمالاً
أُمطر دموعاً
تتحول إلى أناشيد “.
ولوقوعه تحت تأثير الأفكار الأممية، كخلاص وحل لقضايا القوميات التي تعرضت للإنكار والمجازر والإبادة كالشعب الكردي. جعله يبحث عن الخلاص في كل الأطراف والأنحاء من العالم وفي قاراته المختلفة وكذلك جعله يتغنى بالثورات والرموز الثورية وتسكنه الأفكار الثورية، لا بالخراب والدمار والدماء بل بالبناء والاستمرار والتشبث ويقول في قصيدة أخرى :
“إنني ذاهب إلى القتال
وبيدي العلم الممزق
أخضر وأحمر
والشمس فوق رأسي
إنني ذاهب إلى القتال
ماراً بأصفهان ومهاباد“
وفي ديوان “بصدور مفتوحة” يكتب قائلاً”:
“الرفاق سوف يكملون النشيد
والعيد قادم
بجهد الملايين “.
ورغم معاناته وآلامه ووصوله إلى مشارف المشانق كتب يقول:
“ها أصابعي
تتوهج بالتربة
التي أنت نفسها
النار تستحم بصوتك
الزيتون يركض حافياً
يا رفيقاً من بعض أسمائه
تيدور آكيس “
يبقى أن نشير أن الشاعر حامد بدرخان الذي رحل في29/4/1996 ومن خلال أشعاره وكتاباته ومسيرته النضالية والأدبية. كان يحلم أن يكون صوت معذَّبي الجبال وأن يسمع العالم بصرخاته وآلامه وأناشيده. ولم يكن عبثاً أن يكتب
في مجموعته تحت عنوان “تامارا ” :
“ارسميني على قبرك
قدميني إكليلاً
لتلك الجنازة
التي ترافقها الشمس
تامارا لا تبكِ
فالبكاء صلاة المذنبين
ليكفروا عن سيئاتهم
أخطائهم
ونحن لم نخطئ
بل كان خطؤنا
هو مجيئنا لهذا العالم”!
وأخيراً” يقول في قصيدة له:
“لنا موعد يا حبيبتي
تحت أعواد المشانق
ولنا موعد آخر
ياحبيبتي
يوم النصر…!”