رستم عبدو – مجلة شرومولا [1]
علوم وهندسة وامكانات سبقت عهدها:
يتساءل الكثير من العلماء عن كيفية قيام أناس بدائيين بقطع ونحت ونقل كميات كبيرة من الحجارة من مسافات تبعد عن الموقع قرابة 1 ميل مربع، وتشييد مبان وفق أطر هندسية وبهذا الحجم، وبدون العلوم العصرية كالرياضيات والفيزياء، وبدون استخدام الآلات والأدوات التي تلزم لنقلها ورفعها ونحتها؟! كما أن بناء منشآت عملاقة بهذه الشاكلة يتطلب قوة بشرية كبيرة يتجاوز أعداداً من الناس الذين كانوا يعيشون في مجموعة واحدة للصيادين في تلك الفترة وكذلك يتطلب الحذر والتخطيط والتنسيق وتأمين كميات كبيرة من الطعام بما يتوافق مع المجموع الهائل للعمال (والتي ربما لم يكن تأمينها بهذه السهولة آنذاك!!.
يقول شميدت :Schmidt «إن أكثر من 500 شخص شاركوا في عمليات قطع ونقل هذه الحجارة من المقالع» (بالإضافة إلى وجود أعداد هائلة من الصيادين (العمال) الذين شاركوا في بناء أو إقامة هذه الأضرحة (Samford, 2013) ويذهب هاوبتمان Hauptman إلى القول عن وجود رجال دين كانوا يراقبون هذا العمل ويشرفون على تنظيمه, أما أوجلان فيقول: “إن أولئك الذين بنوا المعابد لم يكونوا بدائيين كما يعتقد البعض بل كيانات اجتماعية راقية للغاية” (أوجلان 2011: 29), و يذهب الباحثون إلى الاعتقاد بوجود تقسيمات في العمل ما بين مشرفين وموظفين وعمال ونحاتين وأشخاص مخصصون لتقديم الطعام والشراب.
نُحتت على الأعمدة المركزية الأذرع والأيدي وكذلك الحلي كالخواتم والعقود وخطوط توحي وكأنها ملابس، وكان الجزء العلوي يمثل الرأس بالرغم من عدم وجود ملامح واضحة للوجه كالعيون والفم والأنف (The Tepe Telegrams, 2018) فيما يمثل الجزء المتبقي من العمود كامل البدن.. الأمر الذي دفع بعض الباحثين للقول بأنها كانت تمثل زوجاً من البشر، فيما ذهب البعض الآخر إلى أن الأعمدة المركزية تعتبر آلهة رئيسية فيما يكون ما تبقى من الأعمدة الأصغر حجماً آلهة ثانوية (Kurt and Göler, 2017)، ولكنهما آلهة بدون هوية (“The Tepe Telegrams,” 2018), كذلك يأتي تموضع العمودين المركزيين في الوسط بهذه الطريقة لغايات فلكية, كما يقول الباحث الإيطالي جوليو ماجيلي 4 Giulio Magli
منحوتات تجسد حيوانات مفترسة ومقدسة:
نُحتت باقي الأعمدة بزخارف حيوانية مفترسة كالقطط البرية والأسود والضباع والطيور الجارحة والعناكب والأفاعي أو الثعابين التي بدت صورها اكثر انتشارا على المنحوتات فقد ظهرت بشكل مفرد أو ضمن مجموعة بشكل متواز أشبه ما يكون بالأمواج، وهي بالمجمل ثعابين سمينة وقصيرة وكانت هذه الأفاعي أحيانا برأسين اثنين واحدة من كل طرف (PETERS and SCHMIDT, 2004), إلى جانب تصوير حيوانات أخرى كالثعالب, التي بدت مقدسة في تلك الفترة إلى جانب الثعبان, والخنازير البرية والغزلان والثيران والماشية، والحمير البرية كذلك نُحتت صور قرص الشمس مركبة (إنسان وحيوان) يؤكد شميدت أنها إبداعات لثقافات لاحقة.
إن تقديس هذه الحيوانات وعلى رأسها الثعبان والثعلب في تلك الفترة يتوافق مع ما قاله أوجلان على أن “كل عشيرة من العشائر اختارت حيواناً معيناً رمزاً أو طوطماً لها (أوجلان 2014: 97) ويضيف قائلا “إن ال طوطم6 يمثل شكلاً من أشكال الوعي ويشير إلى تقديس وإجلال القبيلة لذاتها وبالتالي يعبر عن طموحها للوصول إلى حياة آمنة طويلة الأمد” (أوجلان 2014: 97).
يذكر أنه اكتشفت في الموقع تماثيل حجرية أخرى بهيئة رؤوس بشرية مشابهة لتلك التي وجدت في تل الغزال بالأردن وتل أسود في سوريا وموقع آخر في فلسطين، حيث يعتقد العلماء أن وجود هذه التماثيل أو الرؤوس في كوبكلي تبه يدل على أنها تختلف من حيث الوظيفة عن الأعمدة التي على شكل حرف T التي تعتبر الطاقة الأقوى (“The Tepe Telegrams,” 2018).
اعتقد العلماء أن المنحوتات التي وجدت في «خراب رشكي- كوبكلي تبه» تعتبر الأقدم في الكون, وأن هذا الكم الهائل من الرسومات لاسيما الثديات منها ومعظمها يمثل الجنس الذكوري إنما تعبر عن المعتقدات الدينية لدى مجتمع الصيادين، وكانت بمثابة رموز تعريفية استخدمت كشعائر لمباركة عمليات الصيد، أو أن لها دلالة سحرية لحماية الموقع من قوى الشر، أو ربما تشير إلى الكائنات المقدسة التي كان الناس يعبدونها في تلك الفترة أو أنها تمثل جزء من دورة أسطورية أو ربما لحساب حركة الشمس، وإظهار الوقت أو أشبه ما تكون بسجل النسب لكل عشيرة (أوجلان 2014: 96).
عُدَّت هذه الرسوم بمثابة أولى الرسوم الجدارية في التاريخ ولاسيما تلك التي تعلقت بتصوير البشر، بل ذهب أوجلان أبعد من ذلك حين وصف تلك الرسومات المنحوتة بعناية على أنها تمثل أولى أشكال الكتابة الهيروغليفية ( أوجلان 2014: 86).
من المواقع التي قد تكون معاصرة لكوبكلي تبه أو أحدث منها بقليل هو موقع “جايانو” و موقع “نوالا جوري” في شمال كردستان وكذلك مواقع “المريبط والجرف الحمر” في مناطق وادي الفرات الأوسط في سوريا، كما أنه يمكن مقارنة كوبكلي تبه مع موقع ستون هيج Stonehenge 5حيث أن كليهما يمتلكان خاصية الطابع الصخري المشترك وأيضا كليهما كانا مخصصان لممارسة الطقوس الدينية الهامة (“The Tepe Telegrams,” 2018)، بالرغم من عدم وجود أي صلة أو رابط يجمعهما لاسيما أن كوبكلي تبه تسبقها على الأقل بأكثر من 5000 آلاف عام, كما أنها تسبق زيقورات سومر وأهرامات مصر بأكثر من 7 آلاف عام (Debertolis et al., 2017).
كوبكلي تبة الأرضي التي مهدت للتطور الفكري والديني:
يؤكد هذا المَعْلَم الذي ظهر في أورفا والذي لم يعثر على نموذج مماثل له من حيث القدم والعراقة في أية بقعة من العالم (أوجلان 2014 :84) حتى هذه اللحظة على ممارسة الناس البدائيين للطقوس الدينية مما يتلاءم مع احتياجاتهم في فترات سبقت مرحلة الانتاج الزراعي وتدجين الحيوانات وبناء المنازل والاستقرار (Kurt and Göler, 2017), كما يؤكد على أنه من أوائل المواقع التي ساهمت في تطوير التنظيم والفكر الاجتماعي في المراحل المبكرة, إذ لم يعثر على أي موقع عائد لمرحلة المجتمعات التي تعيش على الصيد وجمع القوت إن وجدت فيها مثل هذه الهيكلية التنظيمية المعقدة (“The Tepe Telegrams,” 2018)، أو المستوى الثقافي الباهر في تلك الفترة التي ماتزال آثارها واضحة على الحياة الاجتماعية في الشرق الوسط (أوجلان 2014 85).
إن ظهور النبي إبراهيم في أورفا وتحوله فيما بعد إلى جد الأديان التوحيدية الثلاث الكبرى وأب لجميع الأنبياء في تلك البقعة ليس محض صدفة أو ظاهرة عشوائية كما يقول أوجلان بل هو ثمرة من ثمار ثقافة ذلك المركز والمتمثل في كوبكلي تبه (أوجلان 2014: 97) وهي ثقافة انبثقت منها الحقيقة الكردية بحسب رأيه (أوجلان 2014: 85) والتي لا يمكن لها أن تمحى أو يُزال تأثيرها بهذه السهولة.
مثّل هذا الموقع (كوبكلي تبه) مركزاً إقليمياً تجمّعت فيه الكثير من المجتمعات خلال فترات معينة لأداء وممارسة الطقوس الدينية وذلك خلال الألفين العاشر والتاسع ق.م (Debertolis et al., 2017)، ومركزاً دينياً- إلهيا لأقوى عشائر تلك المناطق (أوجلان 2014: 96).
ولعب دور المفتاح بين مرحلتين انتقاليتين (مرحلة ميزوليت ونيوليت)، وكانت بمثابة الأرضية التي مهدت للتطور الفكري والديني والاجتماعي على مدار 1500 سنة قبل أن تدفن بالكامل وتردم بشكل مدروس ومخطط من قبل أصحابها دفعة واحدة، دون أن يطال تلك المنشآت أي تدمير أو تخريب (Samford, 2013) أسباب غير معروفة، وإن كان الترجيحات تشير إلى انتشار معتقدات جديدة (“The Tepe Telegrams,” 2018) من الممكن أن تؤثر في هذا المكان الذي اعتبر في نظر بنائيها من المحرمات أو المقدسات.