ياسين طه*[1]
يتفقُ معظم المصادر التاريخية على أن كتاب “وفيات الأعيان وأنباء ابناء الزمان” لابن خلكان الأربلي (ت681ه/1282م) يُعد من أحسن الكتب المؤلفة في الوفيات والتراجم العامة وحتى في التاريخ بشكل عام، وذلك “لدقته ورصانته وذيوع صيته” من بين المؤرخين([1]). ويُعد هذا المؤلف أوجز معجم بيوغرافي والأشهر في موضوعه لحد الآن ([2])لأنه إضافة إلى دقة ما ورد في هذا الكتاب فإن معظم المؤلفات التي تحدث عن المشاهير فُقدت وضاعت قبل عصر ابن خلكان، ومن هنا اكتسب “وفيات الأعيان” أهمية خاصة ليس في التراجم فقط بل حتى في التاريخ العام([3])،
وتتبين قيمة هذا الكتاب مما كتبه مؤلفه في صدر كتابه([4])، حيث ذكر أنه كان مولعا بالاطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباغة وتواريخ وفيات ومواليدهم، وأن الاستزادة وكثرة التتبع عن المشاهير حمله إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، والأخذ من أفواه الأئمة المتقنينما لم يجده في الكتب والمصادر المتوفرة([5]).
وقبل الإشارة إلى شهرة الكتاب وكيفية تأليفه وطبعاته واهتمام المستشرقين والباحثين به ومنهجه الفريد من الناحية التاريخية، من المستحسن التوقف على سيرة مؤلفه وأبرز محطات مسيرته العلمية الذي أوصله إلى خانة المؤرخين الرواد.
من هو ابن خلكان؟
هو أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان بن باول، الملقب بشمس الدين([6]). ولد بمدينة أربل (عاصمة إقليم كردستان) ويُنسب إلى البرامكة بالأصل في بعض الأحيان([7])،لكن الصفدي وابن شاكر الكتبي وغيرهما من المحققين الكبار ينسبونه إلى الأكراد الهكارية([8])وأجمع كثير منهم على أنه اشتهر باسم جده الثالث (ابن خلكان) الذي ذكر عبدالرحيم الأسنوي (ت772ه/1370م) في (طبقات الشافعية) إلى أنه كان اسماً لإحدى القرى التابعة لمدينة أربل حينذاك([9]).
ولد ابن خلكان في شهر ربيع الآخرسنة ثمان وستمائة (608ه/1212م) بمدينة أربل في كنف المدرسة المظفرية كما ذكره نفسه في ترجمة زينب بنت الشعري في آخر الأسامي المذكورة في حرف الزاى في كتابه، وتوفي في يوم السبت السادس والعشرين من رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة (681ه/1282م) بمدينة دمشق([10]).
كان والد ابن خلكان المعروف ب(شهاب الدين محمد) فقيها، عُين معيدا بالمدرسة النظامية في بغداد ثم انتقل إلى الموصل وأقام فيها أربع عشر سنة، ثم انتقل إلى مدينة أربل وأحرز مكانة عند صاحب المدينةمظفر الدين كوكبري (577 _ 630ه/1181_1232م)([11])، ويبدو أن التنقل والبحث عن الذات هو موروث لهذه الأسرة، حيث فاقت تنقلات ابن خلكان ما كان عليه حال أبيه، إذ تجول في أربل والموصل وحلب ودمشق والقاهرة في النصف الثاني من حياته([12])، لكنهتلقىعلومه الأولية في أربل، وكان لوالده اثر كبير في توجهاته العلمية، لاسيما وأنه أسهم في تسهيل حصوله على الإجازات العلمية السائدة في زمانه([13])،وكان لعلاقة والده مع مظفر الدين كوكبريحاكم أربل أثر بالغ في تفرغه للعلم، فقد ذكر في معرض ترجمته لمظفر الدين كوكبري بأن لهعليهم حقوق ولأسلافه أيضا حقوق على أسلافه([14]).
نشأته العلمية:
تفقه ابن خلكان على يد أبيه في أربل قبل أن يتنقل إلى الموصل ثم إلى حلب وكذلك قرأ النحو العربي على أبن شداد (كاتب سيرة صلاح الدين الأيوبي)وتلمذ على يد مجموعة من العلماء والشيوخ أبرزهمالشيخ شرف الدين احمد بن موسى بن منعة الأربلي (ت600ه/1203م) وغيره من العلماء والمشايخ قبل أن ينتقل إلى دمشق([15])، وقبل أن يشتغل بالتدريس طيلة سبع اعوام متتالية في القاهرة([16])، وعُين في وظيفة نائب قاضي القضاة، وهو لم يبلغ بعد 29 عاما، ثم عُين قاضيا للقضاة في دمشق عام 659/1261م([17])، لكنه تفرغ للتدريس في أخر سنتين من حياته وترك القضاء([18])فقد كانت وفاته في (26 رجب 681ه / 2 تشرين الثاني 1282م) ودفن في جبل قاسيون بمقبرة الغرباء في دمشق، وكان سُنيا على المذهب الشافعي([19])، وشهد له كثيرون بالفضل في كل فن وكرم الأخلاق والديانة والثقة في النقل([20])، لكن لم تصل مؤلفاته إلي المؤرخين ما عدا كتابه “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان” الذي يعد أحسن ما أُلف في موضوعه (التراجم) كما سبق ذكره.
وفيات الاعيان وطبعاته وترجماته:
بدأ ابن خلكان كتابة مؤلفه بالقاهرة عام 654 ه، وكان عمره 46 عاما ولكنه اضطر إلى الانقطاع عن المضي فيه اثناء ولايته لقضاء دمشق، وعاد ليتمه في 12 جمادي الأخرة عام 672 ه/1273م، وللكتاب نسخة هامة جيدة مازالت محفوظة حتى الآن في المتحف البريطاني([21])، و يشير المستشرق فرانز روزنثال إلى أنه رأى نسخة من كتاب “وفيات الأعيان” بخط يد المؤلف في خمس مجلدات([22]).
_ للكتاب طبعات كثيرة بلغات عدة، قام بنشره المستشرق فستنفلد (فرديناند)بألمانيا بين عامي 1835 _ 1834 م، كما نشره ده سلين في باريس، وللكتاب طبعة مصرية أخرجتها مطابع بولاق بين 1275 _ 1299م، وأعيد طبعه بالقاهرة مرة ثالثة في عام1892م، كما أنه طبعفي طهران بإيران في عام1867م، وترجم إلى اللغة التركية في استانبولفي نفس العام، وترجمه دي سلين في أربع مجلدات إلى الفارسية صدرت في كل من باريس ولندن عامي 1843 _ 1871م([23]).
منهجه في الكتاب وأبداعه فيه:
أما عن منهج ابن خلكان في هذا المؤلف الرصين، فقد رتبه على حروف المُعجم بعد أن كان قد جمعه على ترتيب السنين قبل أن يعدل عنه لصعوبة منهج السنين، والتزم فيه تقديم من كان أول اسمه همزة ثم من كان ثاني اسمه الهمزة، أو ما هو أقرب إليها على غيره، وذلك ليكون أسهل للتناول، وأدى هذا إلى تأخير المتقدم، وتقديم المتأخر في العصر، وإدخال ما ليس من الجنس بين المتجانسين كما أقر به نفسه([24]).
ولم يذكر ابن خلكان أحدا من الصحابة أو التابعين أو الخلّفاء في مؤلفه، إلا جماعة يسيرة تدعو حاجة كثير من الناس إلى معرفة أحوالهم. وترجم لكل من له شهرة بين الناس، ويقع السؤال عنه، ولم يقتصر على طائفة مخصوصة، مثل العلماء، أو الملوك، أو الوزراء، أو الشعراء وأعتمد في ترجمته على الإيجاز وإثبات الوفاة والمولد قدر الإمكان، مع رفع نسبه، وذكر من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمة أو نادرة أو شعر أو رسالة.
وصرح ابن خلكان في مقدمته أنه لا ينوى أن يترجم للخلفاء إلا من عرف سنة وفاته، ولم يكن إغفاله الكثيرين لذهوله عنهم، أو لأنه لم تقع له ترجمة لأحد منهم وإنما جرى ذلك خضوعا لمنهج محدد وأنه اكتفى بالمصنفات الكثيرة في هذا الباب ولم يرى حاجة في تكراره(([25].
ويحتوي “وفيات الأعيان” معلومات قيمة عن أواخر ايام الفاطميين وانحلال دولتهم، وقيام دولة صلاح الدين الأيوبي. وفيه تراجم على جانب عظيم من الأهمية لصلاح الدين وعمه أسد الدين شيركوه، والخليفة العاضد آخر خلفاء الفاطميين([26]).
وتميز الكتاب على سائر كتب التراجم بعناية مؤلفه بأثبات سنة الولادة والوفاة متى تيسر لهذلك، وبلغ من عنايته بذلك أنه كان يسقط الترجمة كلها أذا لم يوفق في الوقوف على سنة الوفاة ويعتذر عن ذلك بقوله عن بعض التراجم “ولم أظفر بوفاته حتى أفرد له ترجمة”([27]) ويفيد هذا المحدثين كثيراً في تحقيق الأسانيد ومعرفة صلة الرواة ببعضهم وبيان ما فيها من أرسال أو انقطاع، وكثيرا ما أفتضح الكذابون بسبب ضبط النقاد لسني الوفيات ومحاسبتهم بها كما يذكر ذلك كتب التاريخ والحديث
[1]))جب: علم التأريخ، ترجمة لجنة الترجمة لدائرة المعارف الإسلامية (ابراهيم خورشيد وآخرون)، دار الكتاب اللبناني، بيروت،ص 100؛ رجب محمود بخيت: اعلام المؤرخين، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة، ص 240
[2]))شاكر مصطفى: التأريخ العربي والمؤرخون العرب، دار العلم للملايين، بيروت،ط 3 سنة 1987، ج1، ص430.
([3]) يسري عبدالغني عبدالله: معجم المؤرخين المسلمين، حتى القرن الثاني عشر الهجري، دار الكتب العلمية، بيروت، ص78.
)4) علي ابراهيم حسن: استخدام المصادر وطرق البحث في التاريخ الاسلامي العام وفي التاريخ المصري الوسيط، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط3، 1980، ص 156.
[5]))ابن خلكان: وفيات الاعيان وانباء ابناء الزمان، تحقيق احسان عباس، بيروت،ج1، ص 19_21.
(6)تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، المؤسسة المصرية للكتاب، القاهرة، 1963، ج7، ص 353.
([7])ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان،ج1، ص5؛ يسري عبدالغني عبدالله: معجم المؤرخين المسلمين، ص 120
([8]) الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق، احسان عباس، بيروت، 1969، ج7، ص 313؛ الكتبي، فوات الوفيات، تحقيق، إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ج1، ص 113.
9)) الأسنوي: طبقات الشافعية، تحقيق، عبدالله احمد الجبوري، مطبعة الارشاد، بغداد، ج1، ص 495.
(10) ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج2، ص 344؛ فرانز روزنثال: علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة صالح أحمد العلي، مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة الثانية، 1983 ، ص 764
11)) عبدالقادر أحمد طليمات، مظفرالدين كوكبري، المؤسسة المصرية العامة للتأليف، القاهرة، 1963، ص 15 55.
)12) ابن خلكان: وفيات الاعيان، ج7، ص 27_36 (دراسة المحقق).
)13)ابن خلكان: وفيات الاعيان، ج7، ص 23 _ 24.
(([14]ابن خلكان: وفيات الاعيان، ج4، ص 115_120.
([15]) فراز روزنثال: عام التاريخ عند المسلمين ص 764 . شكيب راشد آل فتاح: مجدالدين بن الأثير(دراسة نصية)، بحث منشور في مجلة الدراسات الموصلية، العدد 33، رجب 1432 ه/ حزيران 2011.
([16]) ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج1، ص 123؛ ج3، ص 195_196؛ ج4، ص 10؛ عبدالغني عبدالله: معجم المؤرخين ص 120 121.
([17])عبدالغني عبدالله: معجم المؤرخين ص 120.
([18]) عبدالغني عبدالله: معجم المؤرخين، ص 120.
([19])علي أبراهيم حسن: استخدام المصادر وطرق البحث في التاريخ الاسلامي، ص 156
([20])أنظر علم التاريخ عند المسلمين ص 764.
([21]) عبدالغني عبدالله: معجم المؤرخين المسلمين، ص77.
(([22]فرانز روزنثال: علم التاريخ عند المسلمين ص 764؛ عبدالرحمن البدوي: موسوعة المستشرقين ص 399.
([23]) عبدالغني عبدالله: معجم المؤرخين المسلمين ص 77.
([24])ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج1، ص19_21.
([25])وفيات الأعيان، ج1، ص 19_21.
([26])علي ابراهيم حسن: استخدام المصادر ص 156.
(27)رجب محمود البخيت: أعلام المؤرخين مكتبة جزيرة الورد، مصر، ص 241.